نبيل شبيب
أصبح من فضل القول التعريف بالصحفية السودانية لبنى حسين، فما كتب عنها خلال سبعة أسابيع مضت، يزيد -ربما- على مجموع ما كتبته هي في إطار عملها الصحفي لسنوات، إنما كان كثير مما نُشر يكرر بعضه بعضا، ومحوره عبارات محدودة:
هي صحفية في الثلاثين من عمرها، يسارية الاتجاه، تعمل مع جريدة "الصحافة" اليسارية السودانية، التي أسسها زوجها عبد الرحمن مختار رحمه الله، ولها عمود يومي بعنوان "كلام رجال"، وعملت ناطقة صحفية في مكتب محلي تابع للأمم المتحدة في الخرطوم، وسبق أن درست علوم الاقتصاد والإعلام في جامعة الخرطوم، إنما لا تذكر المصادر التي تورد هذه المعلومات شيئا بصدد شهادة جامعية تحملها.
انتشرت هذه المعلومات عن لبنى حسين، ووجدت من الناشطين المتحمسين لها ولقضيتها من أدخل اسمها فيما يعرف بالموسوعة الشعبية المفتوحة (ويكيبيديا)، وإن لم يتجاوز بما ذكره عنها ما سبق، فالأهم على ما يبدو هو نشر قضيتها على أوسع نطاق، وكان ذلك بلغات الموسوعة، الإنجليزية والألمانية والعربية وسواها، بل حتى باللهجة المصرية الدارجة (واضح أنه يوجد من بين الساعين لتمزيق الوحدة اللغوية القائمة على العربية الفصحى من نشط وينشط في استخدام العامية المصرية وكأنها لغة قائمة بذاتها.. انظر المحتوى!).
صيد ثمين!
الاهتمام بقضية لبنى حسين واضح للعيان، ولا لوم في ذلك، إنما يلام من يسيء إليها وإلى القضية التي أرادت إثارتها، عندما يتحول الحديث عنها إلى عملية استغلال لأغراض أخرى.
مثال ذلك أن يضع أحد الكتاب القضية تحت عنوان "لبنى حسين تحاكم عمر البشير"، ثم يمضي إلى أبعد من ذلك فيما يستخلص من نتائج غريبة، يعممها كما يحب ويهوى، ومن ذلك تعريضه بالقرآن الكريم، فيقول فيما يقول في مقاله المنشور في موقع "الحوار المتمدن" العلماني الأصولي:
"الأنظمة العربية والإسلامية تصر على منع الزي الغربي على المرأة ويبيحونه للرجال لأنهم يستضعفون المرأة. وهذا الموقف هو جزء من سياسة هيمنة الرجل على المرأة و{الرجال قوامون على النساء} وامتهانهم لكرامتها".
مثل هذه المبالغات والمغالطات لا تخدم قطعا القضية الهامة الكامنة في محاكمة لبنى حسين على ارتداء سروالها (حسب أقوالها وما نقل عنها، فمن المستغرب عدم نقل شيء عن السلطات المعنية نفسها) ولا تتلاقى مع ما تقول به هي:
"إن كان البعض يتخذ من الشريعة مبرراً لجلد النساء بسبب ملابسهن، فليبينوا ذلك في القرآن والحديث، لقد بحثت ولم أجد شيئاً من هذا".
والجدير بالانتباه، أن هذا القول لا يعني أنها تنطلق نظريا وممارسة من موقف الدفاع عن أصل التشريعات والآداب الإسلامية بشأن اللباس، إنما -وهذا حقها- تتحدث عن عقوبة الجلد.. المرفوضة!..
لقد غلب الجدل والتصعيد والتهويل على متابعة الحدث الذي تحول إلى "صيد ثمين!" يتسابق عليه كثيرون، سواء في ذلك من يريدون التشهير بالسودان، أو من يريدون التشهير بالإسلام، وهم يلبسون لباس الدفاع عن المرأة أو عن حرية اختيار الملبس، أو عن سلامة قوانين العقوبات.
في مثل تلك الأجواء آثر كاتب هذه السطور التريث في المتابعة -وهي ضرورية ومفيدة في الأصل- إلى أن تنحسر موجة الاستغلال قليلا.
الجدير بالذكر أن هذا التصعيد والتهويل لم يقتصر على إعلام ناطق بالعربية، بل شمل الإعلام الناطق باللغات الأخرى، ولكن بقي مستواه أهون نسبيا، كما في وسائل إعلام ألمانية وإنجليزية، وعلى جميع الأحوال لم يصل إلى الأسلوب المتبع في المثال المذكور آنفا، فمن صور المبالغة بالأسلوب الأجنبي مثلا عنوان يقول: "أشجع امرأة في السودان"، لمقالة نشرتها صحيفة "تاجس آنتسايجر" الألمانية.
قضية دولية!
لئن كانت قضية لبنى وسروالها ومحاكمتها جديرة بالاهتمام في الأصل، فينبغي استيعاب ما أصبحت تعنيه كلمة "اهتمام"، عندما نرصد أن:
- الأمين العام الحالي للأمم المتحدة بان كي مون أعرب عن "شعوره بالقلق الشديد؟..
- والأمين العام السابق للأمم المتحدة، بطرس بطرس غالي، الرئيس الحالي لما يسمى المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، طالب سلطات السودان بإغلاق هذا الملف، وأرسل إلى وزير العدل السوداني عبد الباسط سبدرات، رسالة ليعرب عن أمله في أن "يتفهم هذه القضية، وأن تحظى برعايته، لما سوف تمثله من أهمية تعود على الوطن العربي والعالم الإسلامي، بمزيد من التقدم والرقي في مجال تعزيز واحترام حقوق الإنسان".
- والرئيس الفرنسي، نيقولاي ساركوزي، وجه دعوة إلى الصحفية السودانية لزيارة فرنسا.. حسبما قيل!.. إنما الثابت أن مساعدة الناطقة باسم وزارة الخارجية الفرنسية، كريستين فاج، أعلنت أمام الصحفيين أن "فرنسا تأسف بشدة لقرار محكمة الخرطوم، الذي اتهمها (أي لبنى حسين) بالمساس بالأخلاق وأدانها في المحكمة الابتدائية بدفع غرامة أو بالسجن لمدة شهر".
- ومفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنيف أعلنت أن المسألة تمثل قضية تمييز ضد المرأة.
- ومكتب حقوق الإنسان في الأمم المتحدة اعتبرت إدانة السودان لامرأة بتهمة عدم الاحتشام لارتدائها سروالا، هو انتهاك للقانون الدولي ورمز للتمييز الجنسي.
السؤال:
القضية هامة، وهي محور الاهتمام في الفقرات التالية أيضا، ولكن كيف يكتسب الاهتمام المشار إليه في تلك المواقف مصداقيةً ما في الموضوع الذي تتناوله، كي نعتبرها تخدم فعلا حقوق الإنسان وحرياته في العالم العربي والعالم الإسلامي وفي أنحاء العالم ، كما ينوه غالي؟..
ألا ينبغي أن "نتمنّى" على الأقلّ أن يعطي هؤلاء مصداقية لأنفسهم من خلال مواقف "دائمة" تولي الاهتمام السياسي والإنساني والإعلامي لقضية كل امرأة مسلمة أو غير مسلمة:
- تُسجن وتغتصب وتعذب وتقتل في السجون..
- تعتقل دون أن تكون لها ناقة أو جمل في قضية ما، إنما للتنكيل بزوجها أو ابنها..
- تلقى حتفها في القصف العسكري في عرس أفغاني، أو بقايا مساكن فلسطينية، أو ما بين حواجز "الديمقراطية الأمنية" العراقية..
- تمنع من الدراسة وهي صبية ناشئة بسبب حجابها في مدرسة حكومية فرنسية.. أو تطرد من مؤسسة إعلامية كبعض الفضائيات المصرية لسبب مماثل..
- تُشرد عن أرضها مع ذويها أو دون ذويها لتعيش في القفار، لأن القوى الدولية تزعم الحرص على الحرب وسيلة لنشر الديمقراطية في بلدها!..
- تحرم من أسباب العيش الكريم إلى درجة الموت مع أطفالها جوعا ومرضا كي يمكن الحفاظ على مستوى الرفاهية المترفة والمطامع الجشعة في النظام المالي والاقتصادي الدولي..
إن الاهتمام بالقضية التي أثارها "سروال لبنى" مطلوب، ولكن من العسير على من تهمه القضية ومتابعتها، ألا يشعر بالأسى والمرارة إزاء ذلك القدر الكبير من الازدواجية من جهة والاستغلال من جهة أخرى، إلى درجة تحجب قابلية تفاعل المشاعر الصادقة للتجاوب والتفاعل كما ينبغي.
الأهم من "السروال"
جوهر القضية ليس في التعامل مع لبنى حسين تحديدا -علما بأن تعرّض أي فرد لمظلمة مرفوض شرعا ومنطقا بمختلف المعايير- بل هو في التعامل مع وجود مواد في قانون العقوبات الجنائي السوداني من عام 1991م، تحتاج إلى مراجعة. والمادة المعنية هنا (152) هي واحدة من 16 مادة في الباب الخامس عشر، تقرر العقوبات على جرائم الزنى واللواط والاغتصاب ومواقعة المحارم وغير ذلك، كما تقرر العقوبة على ما يوصف بالأفعال الفاضحة فيقول نص هذه المادة:
1- من يأتي في مكان عام فعلاً أو سلوكاً فاضحاً أو مخلا بالآداب العامة أو يتزيا بزي فاضح أو مخل بالآداب العامة يسبب مضايقة للشعور العام، يعاقب بالجلد بما لا يجاوز أربعين جلدة أو بالغرامة أو بالعقوبتين معا.
2- يعدّ الفعل مخلاً بالآداب العامة إذا كان كذلك في معيار الدين الذي يعتنقه الفاعل، أو عُرْف البلد الذي يقع فيه الفعل.
حدود المشكلة المعنية من الناحية الموضوعية هي هذه المادة وتطبيقها. إنما يوجد في البلدان العربية والإسلامية وخارجها من يريد أن يُرفع وصف "الجريمة" على كل ما يتعلق بالزنى والشذوذ الجنسي، وأن يُلغى مما يُسمى قوانين الأحوال الشخصية كل ما يحفظ قدرا من الالتزام الفردي بمنظومة القيم والأخلاق المنبثقة عن الإسلام تحديدا.
ندرك ذلك، إنما من المهم أن ندرك أيضا أن الثغرات التي تدخل منها دعوات هؤلاء تتمثل في نصوص من قبيل المادة المشار إليها ووقائع تطبيقها!.
من يريد أن ينال من الإسلام عبر تلك الثغرات، يعلم أن تلك النصوص وتطبيقاتها لا تتوافق مع الإسلام وطريقته في التعامل مع الإنسان، والأخلاق، والشؤون التربيوية والسلوكية، بل تنطلق من معطيات شاذة في استيعاب الإسلام نفسه، ولكن عبر الثغرات يراد النيل من أصل منظومة القيم الإسلامية، لا سيما ما يرتبط بالعلاقات بين الجنسين.
والسؤال المطروح من خلال قضية "سروال لبنى" وسواها:
هل يريد من يستغلون هذه القضية إلغاء هذه المادة وأمثالها فحسب؟..
ليتهم كذلك.. إنما يريدون -ويصرحون في مناسبات عديدة وبكلمات مباشرة- أن تحذو مجتمعاتنا حذو المجتمعات التي ميّعت ما كان لديها من قيم خلقية وسلوكية واجتماعية، أو قضت على كثير منها، فوصلت أوضاعها إلى الحضيض، على حساب المرأة أولا، وجيل الناشئة ثانيا، والمجتمع بعمومه ثالثا، وباتت تشكو من تفكك الأسرة حينا، ومن تفاقم جرائم الاعتداء الجنسي حينا آخر، ومن انحسار الرغبة في الزواج والإنجاب إلى درجة "الانقراض السكاني" حينا ثالثا، ناهيك عما ارتبط بذلك كله من تفاقم مشكلات كبرى على صعيد الإدمان، والجريمة، واغتيال براءة الأطفال، وأنوثة الإناث، ورجولة الرجال.
المراجعة الواجبة
إن المجتمعات لا تقوم وتستقر وترتقي دون منظومة قيم تحفظها. وأما من يزعمون أن جميع هذه الجرائم وأمثالها موجودة وتنتشر بازدياد خطير داخل البلدان الإسلامية، ليزعموا من وراء ذلك أن ما يعتبرونه "الكبت الجنسي" بمفعول الإسلام لا يحفظ المجتمعات، فإنهم يسلكون في ذلك مسلكا حافلا بالمغالطات، ومنها:
- صحيح أن عدم وجود إحصاءات قويمة يجعل من العسير إثبات أن مجتمعاتنا الإسلامية لا تزال تحتفظ بمفعول منظومة القيم والأخلاق بدرجة ما..
- ولكن عدم وجود هذه الإحصاءات يعني أن من العسير أيضا إثبات ما يزعمون بشأن انتشار تلك الموبقات انتشارا كبيرا!..
- وصحيح أن كثيرا من تلك الظواهر السلبية التي بدأت المجتمعات الغربية تشكو منها، قد بدأ ينتشر بنسبة ما في البلدان العربية والإسلامية..
- ولكن مفعول ذلك لا يكمن في "كبت إسلامي"، بل في "كبت الإسلام" وتغييبه وتغييب مفعوله في الحياة والحكم، من خلال حملات التغريب فهي المسؤولة عن فتح "الثغرات" داخل المجتمعات الإسلامية!..
ينبغي في القضية التي أثارتها لبنى حسين تثبيت عدد من النقاط في وقت واحد، ورفض فصلها عن بعضها بعضا، وأهمها:
1- إن العودة إلى الإسلام كما أنزله الله مطلوبة بصورة شاملة متكاملة، من جهة تجاه أولئك الذين يعملون على تغييب الإسلام، ومن جهة أخرى تجاه أولئك الذين يسيئون تطبيق الإسلام.. في وقت واحد.
2- إن القوانين التي توصف بأنها "إسلامية المنطلق" -ولا يصح ذلك على إطلاقه- لا سيما في مجال الأحوال الشخصية وفي ميدان العقوبات، أصبحت خليطا من موروث فيه المقبول والمرفوض شرعا، ومن إضافات أشد وطأة نشأت في العقود الماضية في حقبة تغييب الإسلام.
3- يجب أن تتم مراجعة تلك القوانين، وتصويبها، وإلغاء ما يقوم منها على أسلوب القهر والإكراه، وعلى صياغات تمكّن من التمييز في التطبيق، بين المرأة والرجل، وبين الحاكم ومن في ركبه والمحكوم، وبين القوي والضعيف، وجميع ذلك مما يرفضه ويدينه الإسلام أكثر مما ترفضه وتدينه الشرائع الأخرى على اختلاف مشاربها.
4- إن مراجعة هذه القوانين وتصويبها، مطلوبة على أساس منطلق الإسلام دينا للمسلمين، وتراثا وحضارة وتاريخا لغير المسلمين في البلدان الإسلامية، وليس على أساس الأخذ بما ثبت خلله وفساده في مجتمعات أخرى.
5- إن مراجعة قوانين الأحوال الشخصية وقوانين العقوبات، مطلوبة في إطار مراجعة شاملة للقوانين والدساتير والأنظمة المعمول بها، وليس بمعزل عنها، فالمظالم بحق الإنسان لا تقتصر على ميدان دون ميدان، والخلل التشريعي لا يوجد في قانون دون آخر.
6- المعايير المطلوبة في المراجعة الشاملة هي معيار تكريم بني آدم دون تمييز، والعدالة دون محاباة، والشورى دون تقييد وتشويه، والمساواة والتكافؤ على أسس قويمة، واعتبار الحقوق والحريات الإنسانية أصيلة لا تخص إنسانا دون آخر، ولا فئة دون فئة، وعلى أساس سلامة القانون وسيادته، واستقلال القضاء ونزاهته، وصلاحية الحاكم ومحاسبته، وواجبات المواطنة على الفرد ومسؤوليته.
وجميع ذلك من الإسلام:
{ولقد كرمنا بني آدم}.. {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.. {وأمرهم شورى بينهم}.. (النساء شقائق الرجال).. (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).. ومن أراد المزيد يجد المزيد، ومن أراد الإنصاف فليبحث في نفسه عن أسباب عجزه عن الإنصاف!..
ذاك ما يلزم المسلمين ويشرفهم الالتزام به، وليس نصوص قوانين نشأت في حقبة محاربة الإسلام ونشر الجهل به نشرا، ولا تصورات فاسدة واتهامات باطلة، أو تصورات فاسدة وممارسات خاطئة، فهذا وذاك معا يريد أن يجعل من الإسلام دين "الجلد" و"الإكراه" و"العقوبات" و"الحدود"، ويتجاهل من يسعود لذلك أن القليل مما يسري مفعوله من ذلك مقيد بأرسخ الضمانات وأشد الشروط، مما لا نجد له مثيلا في مختلف التشريعات القانونية الصادرة عن منطلقات أخرى.. إنه دين الحضارة الإنسانية بأرقى ما يمكن أن تصل إليه في خدمة الإنسان، جنس الإنسان دون تمييز، رقيا بالإنسان، وحفاظا على حقوق الإنسان، وتمكينا لحريات الإنسان، وتأمينا لأسباب سعادة الإنسان، في الدنيا والآخرة.. هو ودين القيم والأخلاق، ودين الخير والهدى، ودين العمل والإنجاز، الصالح لكل زمان ومكان وحال.
موقع مداد القلم