فاطمة شعبان
ليس هناك أسرة تخلو من المشاكل العائلية، والخلافات هي من طبيعة الحياة، ولا يمكن أن يوجد شخصان متطابقان بكل التفاصيل، ولأن لكل إنسان طبيعته التي تختلف عن الآخرين، فإن هذه الطبائع تولد خلافات طبيعية بين البشر مهما كانوا قريبين من بعضهم. ولا تختلف العلاقات الزوجية عن غيرها من العلاقات الإنسانية في هذا الشأن، فعندما يجتمع زوجان في بيت واحد تجتمع طبيعتان بشريتان في ذات المكان، يفترض بهما أن يصنعا ويصيغا فيه حياتهما المشتركة، فإن هاتين الطبيعتين لا يمكن أن تتطابق، وتبدأ من جديد عند كل من الطرفين صياغة حياة جديدة تتناسب مع الشروط الجديدة.
وعندما يشرعان في تنظيم الحياة الجديدة تظهر هذه الخلافات التي تحتاج إلى حل على السطح، وهناك من يستطيع حلها عند حدود الحد الأدنى من الخسائر، حيث يستطيع الطرفان الوصول إلى حلول وسط تستمر معها الحياة دون انفجارات، وتستمر الحياة بسلاسة رغم الخلافات، بعد الإقرار بطبيعية هذه الخلافات من قبل الطرفين. ولكن هناك من لا يستطيع الوصول إلى هذه الحلول وتتصاعد الخلافات إلى حالات انفجارية متتالية تجعل الاستمرار في الحياة المشتركة مستحيلاً وعقاباً للطرفين. تجري مصالحات متتالية ومساومات متتالية للوصول إلى حلول لهذه المشكلات، لكنها في كثير من الحالات تصل إلى طريق مسدود يلجأ أحد طرفي العلاقة ـ وغالباً ما يكون الرجل ـ إلى إنهاء العلاقة عبر الطلاق.
وإذا كان الطلاق هو أبغض الحلال، فإنه في كثير من الحالات يكون الوسيلة الوحيدة لحل هذه المشاكل ووضع حد لها، وإذا كان هذا صحيحاً من حيث المبدأ، فإن مفعوله عند الطرفين يكون مختلفاً. لأنه لا ينطلق من مواقع متوازنة بين الرجل والمرأة، فحقيقة الأمر أن المرأة هي الطرف الضعيف في العلاقة الزوجية، ولأنها كذلك، فإن كلفة الانفصال بين الطرفين تكون على حساب المرأة، ليس بالمعنى المادي للكلمة لأن الخسارة المادية هي أبسط الخسائر وأقلها تأثيراً. إنما الخسائر الاجتماعية والنفسية المتأتية من تداعيات الانفصال التي يكون تأثيرها مدمراً على المرأة، فالطلاق دائماً سيف مسلط على رقبة المرأة. وكلما رغب الرجل في إذلال المرأة يهددها بالطلاق، لأنه يعرف ويدرك الآثار الاجتماعية والنفسية المدمرة على المرأة في حال تحول هذا التهديد إلى واقع فعلي، وهو بذلك يستطيع تحويل حياتها إلى جحيم تحت هذا التهديد، وغالباً ما ترضخ المرأة إلى الشروط التي يفرضها الرجل عليها لأنها لا تملك أي خيار آخر.
لقد تم تشريع الطلاق في الإسلام من أجل حل المشكلات العائلية التي وصلت إلى طريق مسدود ولا يمكن حلها، وهو طريق استثنائي ونهائي لعدم تفاقم الخلافات الزوجية ووصولها إلى حدود الإهانات والإساءات المتبادلة، رغم أن أغلب الخلافات الزوجية تصل إلى هذا الحد قبل وقوع الطلاق. وهذا الحل هو رحمة للطرفين من الدمار الذي يمكن أن يعانياه من العلاقة في حال استمرارها في الوقت الذي تكون الكراهية قد استحكمت بين الطرفين. وكما شرع الله الزواج وسيلة لبناء الحياة الزوجية والاستقرار برضا الزوجين، لهذا جعله أبدياً. وقد اشترط الإسلام لصحة عقد الزواج الرضائية التامة، فيُفترض أن لا يكون هناك زواج بإكراه أحد الزوجين على ما لا يختاره بمحض إرادته. وقد يعترض الزواج ما يحول دون تحقيق أهدافه، ومن بينها تباين الطباع بين الطرفين، وبذلك لا تتحقق المحبة والمودة بين الزوجين، ولا يتحقق الهدف الذي من أجله تقام العلاقة الزوجية. والعلاج الذي أقره الشرع لهذه الحالات هو الطلاق، وعلى هذا الأساس تم تشريع التفريق بين الرجل والمرأة حتى لا تتحول الحياة إلى كارثة على العائلة.
في الواقع الاجتماعي والممارسة الاجتماعية يختلف الوضع، فقد تم تحويل الطلاق إلى عقاب للمرأة، ليس من قبل الزوج فحسب، بل من قبل المجتمع، وما جرى تشريعه من أجل حل مشاكل الأسرة، تحول إلى عقاب للمرأة على ذنب لم ترتكبه. ففي الغالبية العظمى من الحالات التي يجري فيها الطلاق يتحمل الرجل المسؤولية عما تؤول إليه العلاقة الزوجية بين الطرفين. ورغم ذلك فإن الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه الزوجان، خاصة وسط الزوجة، ورغم معرفتهم بأن الرجل يتحمل المسؤولية عن تدهور العلاقة الزوجية، إلا أن المسؤولية تلقى على عاتق الزوجة حتى من الأطراف التي تتعاطف معها. والحجج دائماً جاهزة، أن على المرأة أن تتحمل.. وهي دائماً القادرة على صياغة حياتها من خلال الصبر عليه.. وما هو مسموح للرجل غير مسموح للمرأة.. وأن المجتمع لا يرحم المرأة.. وهي لا تستطيع أن تقول ما جرى لكل من هب ودب... ومن يقدم على الزواج من مطلقة؟.. والمطلقة تأتي بالشبهات إلى نفسها.. وهل يحتمل الأهل وجود مطلقة في المنزل؟.. إلخ من سلسلة طويلة من الحجج والأسئلة التي توجه إلى المرأة تحوّل الطلاق إلى عقاب قاس وتحول حياتها إلى جحيم.
تبدأ القصة أصلاً من زواج مفروض على المرأة، والممارسة الاجتماعية على عكس الشريعة الإسلامية، لا تأخذ رأي المرأة في زواجها، وهذا ما يعتبر عيباً في الأوساط الاجتماعية التقليدية حيث خيار الزواج هو خيار الأهل لا خيار من ستتزوج. من هنا تبدأ أغلب حالات الزواج من مواقع خاطئة بفرض الأهل الزوج الذي يرونه مناسباً على المرأة، فتدخل بيتها الجديد دون خيارها، ويتحول هذا القهر الاجتماعي إلى خلافات داخل البيت تؤدي في بعض الحالات إلى الطلاق. بذلك تتحمل المرأة مسؤولية وتبعات خيار أهلها، ولكن الأهل لا يقرون بهذه المسؤولية فيحملونها المسؤولية عما آلت إليه العلاقة الزوجية بسبب سوء تدبيرها. وعند عودتها إلى بيت أهلها تتحول إلى شيء منبوذ ومجال للانتقام لأنها أساءت في طلاقها لا إلى نفسها فحسب، بل وإلى العائلة حيث جلبت لها العار الذي كانت العائلة بغنى عنه.
تُحاصر المرأة المطلقة بالمعنى الاجتماعي وتنحسر علاقاتها الاجتماعية، ويتم تجنبها كمرض معد من الأخريات، حتى لا تتهمن بأنهن مثلها. وبدل التعاطف معها واحتضانها كامرأة مظلومة يتم عزلها اجتماعياً وتركها تختنق بوحدتها القاسية.
جريدة الوطن السعودية