شقائق النعمان - خاص أمهات بلا حدود

"يجب أن تعيش في جو الحرية الفسيح، ليستيقظ ضميرها الذي أخمده السجن والاعتقال من رقدته، ويتولى بنفسه محاسبتها على جميع أعمالها، ومراقبة حركاتها وسكناتها، فهو أعظم سلطاناً وأقوى يداً من جميع الوازعين المسيطرين". هكذا مهّد المنفلوطي لإنهاء حديثه عن المرأة واحترامها وكيفية التعامل معها، وذلك رداً على فئتين وجدتا في المجتمع العربي في فترة ما من فترات تاريخنا؛ فلقد نادت بعض الفئات في المجتمعات العربية بتحرير المرأة من كل قيد، وبالمقابل فقد كان هناك من قيّد المرأة وكبّلها بقيود العادات والتقاليد البالية التي لا تستند إلى دين أو عقل. غير أنّ حركة التحرير هذه لم تكن لتنشل المرأة من ذلك الواقع البغيض، ولكنها أغرقتها في واقع آخر أشدّ بغضاً وظلماً لها.
إنّ الانتقال من حالة مزرية هي قيد مطلق يحرم المرأة من جُلِّ حقوقها ويحصرها في قبوٍ ضيّق.. إلى حالة أخرى هي انفلات مطلق من كل حد أو قيد أو ضابط، يسمح لها أن تسير على هواها أنّى شاءت وكيفما يحلو لها .. أقول: إنّ الانتقال من الحالة الأولى إلى الثانية يخلق لدى المرأة _أي امرأة_ نوعاً من انعدام التوازن، فتغدو كالسجين الذي يُفتح له باب السجن فجأة لينطلق هارباً لا يلوي على شيء، فتُطلق _حينئذٍ_ طاقاتها وقدراتها فيما ينبغي وما لا ينبغي لها عمله، وترى أي حد أو ضابط عائقاً لها في مسيرتها ومعيداً إياها إلى حالة السجن السالفة، فنراها تقاومه بشدة، ولا تقبل حتى أن تناقشه، أو تعمل فيه عقلها.

إن الوسطية التي أمرنا بها الإسلام ورسخ تعاليمها في القرآن الكريم لهي خير مخرج من الحالتين؛ فلا خير في تربية يحكمها الحديد والنار، ولا خير في تعامل مع المرأة يُسَفِّه رأيها ويُلغي ثقتها بنفسها، فإنها _حينئذٍ_ لن تمتنع عن الخطأ لأنه خطأ، أو إرضاءً لربها، ولكنها ستمتنع عنه خوفاً من سطوة الرجل أباً كان أو أخاً أو زوجاً.. ولن تربأ بنفسها عن الدنايا إيمانا منها بأن هذا هو الأصلح لها ولمجتمعها، ولكنها ستبتعد عنه بمقدار ما يقترب الرقيب، فإذا ابتعد أباحت لنفسها انتهاك الحرمات، فعادت بالمصيبة على نفسها وأسرتها ومجتمعها. لقد دعا الإسلام إلى إكرام المرأة، ودعا إلى إحسان التعامل معها، كما وصى بها خيراً، وما ذلك إلا توجيه إلى التعامل معها بالرفق والإقناع ومخاطبة عقلها والفطرة السليمة في داخلها، فإن ذلك _إذا حدث_ ربّى في المرأة قيماً عالية، وأسساً سامية تربأ بها عن الخطايا بتوجيه داخلي، سواء وُجِد الرقيب أم غاب. إنّ الرقيب في هذه الحالة وازعٌ داخليٌّ يملأ كيانها إيماناً وطهراً، وشعوراً قوياً بمراقبة الله تعالى لها، فهو الرقيب الذي لا يغيب، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء..
وأختم حديثي بما ختم به المنفلوطي، فقال: "لا يمكن أن تكون العبودية مصدراً للفضيلة، ولا مدرسة لتربية النفوس على الأخلاق الفاضلة، والصفات الكريمة، إلا إذا صح أن يكون الظلام مصدراً للنور، والموت علةً للحياة، والعدم سلماً إلى الوجود..".

JoomShaper