رضوى فرغلي

«سئمت العيش وحيدة..أريد حبيباً الآن».. هكذا جاء شعار مظاهرة ضخمة في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية.. عبارة هتفت بها علناً آلاف «العوانس» هناك.. وتهتف بها سراً في مجتمعاتنا العربية كل «عانس» قُد.ر لها ان تكمل حياتها من دون حبيب يألم لألمها ويفرح لفرحها.. من دون زوج يشبع احتياجاتها النفسية والعاطفية والجنسية.. وكأنه كُتب عليها ألا تعيش أنوثتها ولا أمومتها بسبب ظروف اجتماعية مشوهة!
الحالة الاجتماعية «عانس»!.. لقب جارح لفتاة يمر عليها الوقت رتيباً، وتطوي السنوات أحلامها، تقف هناك في ركن منسي من الحياة، غير مسموح لها ان تعبر عن رغباتها، يلفها الصمت مثل ثوب أسود.. تمضي أيامها ما بين نظرات الشفقة وأسئلة الفضوليين. وعليها في كل مرة ان تدفع عن نفسها تهمة عدم الزواج وكأنها قصّرت في «اصطياد رجل».
لا أحد يشعر بها حين تتزوج رفيقاتها وقريباتها وجاراتها وينجبن أطفالاً.. بينما هي في الانتظار! قد تحقق مركزا اجتماعيا أو علميا أو مادياً، لكن هذا كله لا يوازي عندها لمسة حنان أو ضمة شوق أو كلمة حب أو لحظة تتوحد فيها كليا مع شريك تختاره وتتعرى أمامه نفسيا وجسدياً!
عبّرت احداهن عن هذه المشاعر القاسية وقالت لي بمرارة: «أكره المساء لأنه يقذفني بقسوة الى الوحدة والبرد، لا أحد يشعر بي، أبي يرفض المتقدمين لخطبتي لحجج وأسباب أراها «غبية» ولا أستطيع الاعتراض حتى أظل فتاة «مؤدبة» تحترم تقاليد العائلة والمجتمع حتى وان بقيت بلا زوج أو ولد!».
العنوسة ليست مشكلة أنثوية فقط فهناك رجال كثيرون يعانون تأخر سن الزواج، لكنها أكثر ايلاما للمرأة، فهي ترتبط لديها بأكثر من جانب، منها ان الانجاب يرتبط عندها بسن محددة، بعدها تعيش قلقا حقيقيا بسبب ضياع فرصتها في تحقيق غريزة الأمومة، أو تزايد فرص انجاب أطفال معاقين أو مشوهين. اضافة الى ان هناك فكرة مجتمعية سائدة ان الرجل يظل من حقه الزواج في أي مرحلة من عمره من دون ان يهتم أحد بعلامات السن الواضحة عليه أو يوصف بالعنوسة طالما كان قادرا ماديا، عملا بمبدأ «الرجل لا يعيبه شيء»، بعكس المرأة التي غالبا ما تواجه مشكلة كبيرة وتقل فرصها في الزواج كلما تقدم بها العمر، وتُعامل كأنها امرأة «درجة ثانية» عليها ان تقدم تنازلات كثيرة من أجل ان تتزوج.

استغلال

اشتكت لي فتاة تجاوزت الثامنة والثلاثين من عمرها، مقبولة الشكل، حاصلة على شهادة جامعية، تعمل موظفة في أحد البنوك، بأنها مرتبكة وفي حيرة من أمرها لكونها اضطرت لرفض رجل تقدم لخطبتها واشترط عليها ان تقدم له شهادة براتبها وألا يكون عليها أقساط أو ديون وان يكون لديها سيارة وتتحمل وحدها تكلفة تأثيث شقة الزواج، كما تتحمل مصاريفها الشخصية وملابسها وخادمتها، وفي حال وجود أطفال تتحمل هي نفقة تعليمهم أما هو فيلتزم بمصروفات البيت من مأكل ومشرب!
انها واحدة من صور استغلال الفتاة حين يفوتها «قطار الزواج» فتضطر اما الى القبول خوفا من ان تعيش وحيدة بقية عمرها، أو الرفض تحت وطأة الاحساس بالاهانة والتنازل.
هناك حالات أخرى تقبل فيها المرأة الزواج من عجوز، أو رجل غير مقبول جسديا، أو عقيم، أو مريض، أو غير مُشبع لها عاطفيا وجنسياً لمجرد الخلاص من لقب «عانس». كما لاقت أخيرا دعوة تعدد الزوجات رواجا كبيراً بين بعض النساء (ربما لهن الحق في ذلك في ظل ظروف اجتماعية مشوهة) باعتبارها فكرة فرضها واقع بعينه ومدعمة بالتفسيرات الدينية. لكن لم تكن تلك الفكرة لتُطرح بهذه القوة لو كان للمرأة حق الاختيار الحقيقي بعيدا عن الضغوط القاسية! فالكثيرات يقبلن بأن يكنّ زوجات ثانيات أو ثالثات أو حتى رابعات، لا لإيمانهن بأن تعدد الزوجات أمر عادي وشكل طبيعي للزواج في الظروف العادية، انما لأن هذه هي فرصتهن الوحيدة.. فيقبلن بنصف أو ربع رُجل بدلاً من الوحدة والعقم الاختياري!
ان الزواج في هذه الحالة هو بحث عن جزء من حياة على وشك الفقدان الكامل، وعفة للنفس عن العلاقات المحرمة، ومعايشة للأمومة التي لا يعرف أثر الحرمان منها الا امرأة تشتاق الى رائحة طفل تحتضنه وتسهر على تربيته وتحن الى مناداتها بـ «ماما».

«خاطبة» إلكترونية!

كثيرات أدركن أنه عليهن عدم التوقف عند نقطة الصفر ونعي حظهن في الحياة، وحاولن التعويض الايجابي أو التسامي Sublimation عن طريق الارتقاء العلمي أو تنمية قدراتهن وخوض الحياة العملية بتفاؤل ومحبة لأنفسهن وحالتهن الراهنة أو النجاح في أي مجال آخر من دون أن يؤدي بهن عدم الزواج الى اليأس أو يخيم على حياتهن الفشل والاحباط، وان بقيت في القلب غصة.. وفي العين نظرة شجن..وفي الروح حنين لمفقود! من جانب آخر، فان هذا الوضع المؤلم لفئة تقترب نسبتها من ثلث المجتمع خلَّف وراءه وعياً مجتمعياً سواء كان شعوريا أو لاشعورياً بأن على كل فتاة أن تجتهد حسب وعيها وثقافتها وطريقة تفكيرها لحل مشكلتها بطريقة فردية، خصوصا في غياب الحل المجتمعي الجذري، مما خلق ظواهر أخرى موازية للعنوسة مثل:
ـ اللجوء للسحر والشعوذة والدجل سعيا وراء حل
ـ المبالغة في الزينة والملابس من أجل تسويق أنفسهن للزواج
ـ اختلاق مواقف للتعرف الى الشاب وجذبه للزواج
ـ الاختباء خلف شاشات الكمبيوتر سواء عن طريق «الشات» Chat والتعرف الى رجل ربما تنتهي علاقتهما بالزواج
ـ وضع اعلان يتضمن مواصفاتها الشخصية ومواصفات الرجل الذي تفضل الارتباط به، وهو ما بات يُعرف بـ «الخاطبة الالكترونية»!

مقاييس مثالية.. فرص محدودة!

بالرغم من أن «العنوسة» ظاهرة عالمية، فإن لها طابعاً خاصاً في المجتمعات العربية والخليجية، وكذلك أسبابا نوعية جعلتها قضية تستحق الرصد والمناقشة، مثل:
• في ظل مجتمع ذكوري يختزن فكرة تاريخية موروثة عن المرأة أنها مخلوق تابع للرجل وناقص الأهلية.. مجتمع فرض عليها القيود بحجة حمايتها من نفسها والآخرين، وكبلها بتقاليد وأعراف وقوانين مدنية مجحفة وظالمة تقلل فرصها في الزواج وفق معايير تحترمها ككائن له مشاعر ورغبات وطموح، وفرض على اختيارها لشريكها شروطا قاسية جعلت من الزوج صفقة صعبة!
• فرصة الفتاة الكويتية محدودة في اختيار شريك تتوافر فيه مواصفات مُرضية لها ولأسرتها، كأن يكون من أسرة مرموقة أو من المذهب الديني ذاته، أو من القبيلة نفسها، أو ينتمي لمستوى اجتماعي واقتصادي معين، أو غيرها من الاعتبارات التي تبدو وهمية اذا قورنت بحجم المشكلة ونتائجها، ومع ذلك تتمسك معظم العائلات بهذه الشروط سواء لاقتناعها بها أم لعدم قدرتها على خرقها خوفا من اللوم والنقد اللاذع ونظرة المجتمع القاسية!
• أما اذا تقدم لها شاب أجنبي، أو ربطتها به علاقة عاطفية، فان لم تكن ميسورة الحال، فعليها أن تفكر ألف مرة قبل أن تقرر الزواج منه لأنها تعلم جيداً حجم المعاناة التي تعترض حياتها ومستقبل أطفالها جراء هذا الزواج، بعكس الشاب الكويتي الذي يمتلك الاختيار المطلق للزواج من أجنبية مع احتفاظه لنفسه وأولاده وزوجته بكل الامتيازات والحقوق!
• التغيير الاقتصادي الذي شمل منطقة الخليج لعب دوراً كبيراً في تضخم المشكلة، حيث بدأت معظم الأُسر في تقليد الأثرياء، مما أدى الى المغالاة في المهور والبذخ في الأفراح وتأثيث المنزل من المحلات الراقية، حتى لو أدى بهم الأمر الى الاستدانة أو الاقتراض، مما جعل الزواج عبئاً حقيقياً على الكثيرين.
• المقاييس المثالية والمبالغ فيها التي يطلبها الشاب في الفتاة بعد مقارنتها مع الممثلات وفتيات الاعلانات والمطربات اللاتي يظهرن في أبهى صورة بعدما صنعت عمليات التجميل من معظمهن «عرائس» مثل باربي.
• عدم السماح بالاختلاط أوجد حالة من الاغتراب الاجتماعي والنفسي بين الجنسين، ونظرة كل طرف الى الآخر باعتباره كائنا غامضا، وبالتالي خلق قنوات تواصل مشوهة هدفها اختراق ذلك المجهول وتلبية فضول الممنوع، لا الاقتراب منه بحميمية ووضوح.
• اضطراب الهوية الجنسية بين بعض الشباب والفتيات أصبح سبباً واضحاً في تراجع اختيار كلا الشريكين لبعضهما، كأن تكون الفتاة «مسترجلة» أو الشاب «ناعماً»، وبالتالي غير كفي للزواج من الشريك الطبيعي.
• سهولة الحصول على بدائل جنسية سهلة ورخيصة، جعلت البعض يعزف عن الزواج باعتباره أكثر تكلفة ومسؤولية وتقيدا بالتزامات لا ق.بل للبعض بها.
• يرفض بعض الشباب الزواج بالفتاة الأعلى منه تعليماً أو مكانة اجتماعية خوفاً من تعاليها عليه نتيجة عدم التكافؤ، وفي الآن نفسه ترفض هي أيضا الاقتران بمن هو أقل منها خوفاً من اضطهاده لها والتعامل معها انطلاقا من إحساسه بالدونية.

أنوثة منقوصة وإحساس بالذنب

تستطيع بعض النساء تجاوز أزمتهن ومعايشة الواقع بقدر من التصالح والتوازن النفسي والاجتماعي، خصوصا من يمتلكن قدراً من الوعي والنضج والتعليم والاشباع على مستويات أخرى، وفي حال وجودهن في أسرة تتفهم ظروفهن واحتياجاتهن وتحيطهن بالرعاية والاهتمام، تستطيع هذه الفئة النجاح في مجالات مختلفة من دون خلل كبير في شخصيتهن.. أما البعض الآخر فان تجاوز «العنوسة» لديهن يترك آثارا نفسية سلبية ومؤلمة عليهن، مثل:
• شعور المرأة بانخفاض تقدير الذات والثقة بالنفس، واحساس مبهم بالذنب، لأنها ترى عدم اختيارها زوجة ينتقص من أنوثتها ويدل على عدم جدارتها كامرأة. كما أنها أكثر عرضة لمشاعر القلق، وحالات الاكتئاب النفسي، وتوهم المرض، واضطراب المزاج، والأمراض السيكوسوماتية (الأمراض العضوية ذات المنشأ النفسي)، خصوصا اذا كبرت في السن وفقدت الأمل في الانجاب. أيضا تكون أكثر عدوانية، خصوصا العدوان غير المباشر والعدوان اللفظي، وأقل تصالحاً مع الذات والآخر، وأكثر انطوائية وخجلاً وانسحابا من الحياة والعلاقات الاجتماعية أو أكثر انغماساً في العمل باعتباره بديلا موضوعيا لتفريغ طاقتها، مما يصيبها أحيانا بهوس العمل Work mania.
• قد تلجأ بعض الفتيات الى حلول جنسية مشوهة ينفسن من خلالها عن هذا الجانب المحبط، كأن تقبل باقامة علاقة سرية مع شريك جنسي، وترتبط أنوثتها بعتمة الرغبة وخوف الفضيحة وجرأة الحرمان!
• أخريات لا يقدرن على ضريبة العلاقة السرية برجل، فيفضلن حلا يرونه أكثر أمانا، مع أنه أكثر تشويها واضطراباً، ويكون مصيرهن المثلية الجنسية (Lesbianism) باعتبارها علاقة مشروعة ظاهرياً، فكم شخص سيسأل عن اجتماع نسوة أو لقاءاتهن أو سهرهن معاً؟! لتصبح الغرف المغلقة سراً كبيراً يجمع من تحطمت أحلامهن وتشوهت رغباتهن على أعتاب الوهم الاجتماعي! ويصبح عالمهن عالما قائما بذاته ومشكلة أخرى أكثر تعقيدا تبحث عن حل أكثر صعوبة، وكأنها دائرة مفرغة يتيه من قُدر عليه الدخول فيها!

الخروج من الدائرة

أحيانا تتفاقم بعض المشكلات الاجتماعية، ومنها العنوسة، لدرجة تتعذر معها الحلول الفردية، لذا من المهم التفكير بعقل جمعي واعٍ للخروج من هذه الأزمة التي باتت تهدد المجتمع بأكمله.. لابد أن تراجع كل أسرة نفسها لتغير مفهوم اختيار الزوج والزوجة على معايير انسانية بعيدا عن العنصرية والقبلية وحب الذات، فمن غير المعقول أن يظل ثلث المجتمع بلا حياة طبيعية مع ما يعقب ذلك من اضطرابات من أجل مراعاة أشياء لا تساوي وقت التفكير فيها.
الأهم من ذلك هو المراجعة الحقيقية للقوانين الظالمة للمرأة والتي تمنعها من الزواج من رجل أجنبي وتجعلها تفضل البقاء وحيدة.. عاقرا.. عانسا.. لا لشيء الا حفاظاً على الثروات والامتيازات الاجتماعية التي يرى البعض أنها غير أهل لها! فكيف تُحرم امرأة حق انتقال جنسيتها الى أولادها وهي التي تؤتمن على تربيتهم وتعليمهم وتنمية الوعي والفكر لديهم؟! هل الحفاظ على الجنسية والثروة واسم العائلة أهم من الحفاظ على مستقبل أطفال هم قلبا وقالباً أبناء الوطن؟! كيف تزرع فيهم مشاعر الانتماء للوطن والقوة النفسية وهي عقيمة وطنيا، ان جاز التعبير؟! كيف يحتمل بلد أن يعيش جزء من أبنائه لقطاء الجنسية؟! انه مرض لا يعانيه الا المجتمعات العربية التي لا تزال تعيش طفولة ثقافية وفكرية ونفسية!

 

جريدة القبس

JoomShaper