عمان- الغد- يكتسب السلوك قيمته ومعناه عندما يفصح من خلال نتائجه بما يدل على وعي صاحبه، والوعي الذي تقصده يتجلى من خلال مجموعة التصرفات التي يقوم بها، وكأن الإنسان الفرد شأنه في ذلك شأن الشجرة التي تطرح ثمارها وتقدمها للقاطنين، ومن ثمارها نعرفها.
ويحتاج السلوك الواعي هذا إلى حركة تفاعلية تبادلية متدفقة في أكثر من اتجاه.. حركته تتجه في صالح الآخر ومع الآخر، ومن أجل الآخر.
ذلك التواصل السلوكي، إذا صح هذا التعبير، الذي يتم خلال تبادل الوقائع والمعلومات والأفكار والخبرات، وما يحقق المصالح المشتركة الواعية والعادلة، والتي ترتفع بأصحابها بعيداً عن محاور الأنانية وتبادل المنفعة، تلك التي تشترط تبادلية ملتزمة بروح بغيضة تتشدق بشعار يعبر عن الدونية والانتهازية! "أعطني وأعطيك"، ثم بعد العطاء المحدود والمحدد سيكون لنا مع أمرنا شيء آخر.
هذا السلوك يعبر عن غياب المعنى الأصيل ويجافي شروط الوعي الإنساني بمقدرات الآخر، لأنه سلوك مزيف يعتمد أول الأمر مجموعة من الالتماسات والرغبات الموقوتة العابرة، والتي تحكمها مصلحة معينة يخطط لها هذا

الأناني فيستغفل نفسه وينفذ وعيه، لأنه لا يرى إلا رؤية قاصرة لا يمتد نورها إلا في حدود رقعة ضيقة حالكة السواد يحيطها غبار الأنانية الحانق!!


وبطبيعة الحال، فإن هذا السلوك الموقوت (المصلحي) يمنع صاحبه عن العطاء المخلص، فهو يمكن أن يكون مرضا نفسيا قد يتعلق بظروف حياته وتنشئته، أو قد يرجع إلى اضطراب وخوف وتوجس من هذا الآخر، فنراه يعيش تحت وطأة حاجته ولهفته على إنجازها، ودقته الواعية بمصلحته فقط، وحرصه على أن تكون كل أموره على خير وجه، حتى يستشعر من خلال هذا الإنجاز المصنوع بجهود الآخرين أنه سيستحوذ على احترام الجماعة أو تقديرها، لكنه ينسى في زحمة هذا الضلال أنه يهدم في ثنايا هذا الإنجاز الهش أعظم ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان من خلال الوجدان المخلص الذي كان يعمل له، ولا ينتظر منه سوى الإحساس ووعيه المخلص بوفائه وحبه.
هذه الخسارة الفادحة تدفعنا إلى أن نظهر السلوك الأناني، وكيف يقتل هذا السلوك متعمداً ومترصداً كل معاني الخير والإنجاز والعطاء والأمل، الذي كانت تنسجه خيوط المحبة التي تعمل بأمانة واعية، وتفاعل مثمر، وتضحية شجاعة، ومروءة حانية، وفكر صادق، وحرص نبيل.
وحين تضل هذه العقول المادية سبيلها السوي، وتنزل بنفسها تحت وطأة الانغماس غير الواعي في أدران المادة، وتصل إلى هذا الدرك من التفكير وهذا الشخص من النظر القاصر، فتعبد الماديات وتغرق في عمى الضلال وتسبح في دوائر الظلام، تأتي القيم الدينية فتنبه إلى هذا الضلال المتمثل بالأنانية وتدعو الأبصار الواعية إلى أن تتخلص من أوهام الزيغ بعيداً عن هذا الضلال المادي المتمثل في "حب الذات"، وما يتبعه من شرور فيدعم الدين بقيمه الرشيدة النبيلة إحساس الإنسان، ويدفعه إلى أعلى الدرجات، ليصبح أهلاً ليكون خليفة الله في أرضه.
ويلاحظ أن الشخصية النامية نمواً سليماً، والمقتنعة اقتناعاً كاملاً بحقها في الحياة الشخصية التي لا تخاف على نفسها من شيء لا يمكن أن تنذر ذاتها لشيء غير أن تهب نفسها لإرادة العطاء السمحة، حتى تسهم بأريحية أن تقدم كل ما من شأنه (بقدر المستطاع) أن يسعد الآخر، فالشخصية صاحبة سلوك الأريحية والعطاء السخي نرى سعادتها في عيون الآخرين، أولئك الذين أسهمت هذه الشخصية في تحقيق سعادتهم.
إن الإنسان السوي محمول على هذا السلوك ومدفوع إليه، وعلى الإنسان السوي المؤمن أن لا يجري أقل حساب في سبيل الحصول على منفعة شخصية يرى أنها تقضي على مصالح الآخرين.
إن سلوك الأريحية والعطاء بعيداً عن الأنانية وحب الذات هو المدخل الحقيقي للصحة النفسية، لأنه الهدف الذي يعبر عن قيمة الإنسان الحقيقية فهو سلوك التضحية والعطاء، سلوك يعتمد على الحب الذي يشرع هذا السلوك ويحدده، لأن المحب صاحب الإيثار الحقيقي، هو الذي يسعى إلى تحقيق الوصال بينه وبين الآخر، بعيداً عن سلوك الأنانية البغيض الذي يجعل صاحبه متوتراً، ضائقاً بحياته، مفتقراً إلى الهدوء والاستقرار والاتزان النفسي.

JoomShaper