عبدالله العييدي

دعونا نبدأ من قصـّة تكون مدخلاً لهذا المقال :
محاولة منه لمواجهة خطر القحط والجوع الذي تواجهه القرية، طلب الوالي من أهل قريته طلباً غريباً، وأخبرهم بأنه سيضع قدراً كبيراً في وسط القرية، وعلى كل رجل وامرأة أن يسكب كوباً من اللبن في القدر، بشرط أن يضع كل واحد الكوب لوحده من غير أن يشاهده أحد، إستجاب الناس لطلب الوالي سريعاً – حيث انه أمرٌ سياسي - فكان كل واحد منهم يتخفى بالليل ويسكب كأسه في ذلك القدر، إمتثالاً للأوامر العـُليا، وفي الصباح فتح الوالي القدر، فأدرك مالم يدركه شهريار في صباحاته ..!! ماذا شاهد .. شاهد القدر إمتلأ بالماء ولايوجد قطرة لبن ..!؟ أين اللبن ..!!؟ لماذا وضع كل واحد من الرعيـّة الماء بدلاً من اللبن ..!!؟ السبب هو أن كل واحد من الرعيـّة حدّث نفسه قائلاً: " اذا وضعت كوباً واحداً من الماء فإنه لن يؤثر على كمية اللبن الكبيرة التي سيضعها أهل القرية في القدر " وذلك  يعني ، أن كل واحدٍ من أهالي القرية اعتمد على غيره في رعاية مصالح قريته، وكل واحد منهم أيضاً فكر بنفس الطريقة التي فكر فيها غيره، كما أن كل واحدٍ منهم حمـّل المسئولية لغيره وتنصـّل منها، وكل واحدٍ منهم ظن أنه هو الوحيد الذي سكب ماءً بدل اللبن، والنتيجة التي ظهرت على السطح بعد ان كانت مخفية، أن الجوع عمّ هذه القرية ومات الكثير منهم، ولم يجدوا مايعينهم وقت الأزمات . انتهت القصـّة ..!!
إستحضار هذه القصـّة في المقال، هي للتأكيد على أن  " المجتمع بتكوّنه يبدأ من الفرد – كما يقولها ابن خلدون في مقدمته –" وبما ان الفرد جزء من تكوين المجتمع، فإنه من الضروري أن نبدأ بالفرد، وذلك في تعزيز مشاركاته الإجتماعية، والإحساس بمدى مسئوليته تجاه بقيـّة أفراد المجتمع سواء مواطنين أو مسئولين، إذ لا يقف مستوى المنفعة على خصوصية الفرد بل تتعداه إلى المجتمع بكامله، وهنا يتطلـّب أن يكون هذا الفرد جزء من تكوين ونسيج المجتمع وفي ذلك يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام " ‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا ‏ ‏اشتكى ‏ ‏منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " وهنا تتجلى عظمة الدين في تأليف القلوب بعضها على بعض، ورعاية مصالحها بعضها ببعض.

في الحياة " قصص وعبر " نتوقف عندها أحياناً، ونتجاهلها أحياناً أخرى، تأخذنا بعض هذه المواقف إلى أبعد مما نحن عليه، تأخذنا إلى " الشتات " بعد " الإستقرار " تـُسكننا أرضٌ من " إحباط " بعدما ألفنا " النشاط والحيوية " يحوّلنا هذا الواقع إلى عكس مفعول الكلمة، ربما بأسباب مباشرة وربما بغير ذلك، ومع هذا وذاك نقف موقف المـُتفرّج لواقع ٍ يبحث عن الخلاص منـّا رغماً عنـّا، فنسكب الماء ظناً منـّا أن غيرنا سيسكب اللبن ..!!

لن أمارس " المثالية " كـ..غيري عند تناول مثل هذه المواضيع، إذ لولا مصادفتي لحالة واقعية، لربما تجاهلت مع الكثير ممن يتجاهلون أوضاع من يعيشون بيننا وليسوا منـّا بشئ، وأقصد هنا " شباب الملاجئ وفتياتهم ، و – تحديداً – اللقطاء - مجهولي النسب، وهم كما نعرف " حلالٌ بين حرامين وأفضل هذه الثلاثة " ، إلا إن سفنهم لم تأتِ كما تشتهي السَفنُ، بل أنهم وجدوا أنفسُهم جُزءٌ مُستَنكَرفي مُجتمعٍ يأبى أن يُدمجهم بينَ شرائحه، حتى وإن كان لا يقصد ذلك. على الرغم مما توفـّر لهم الدولة من حقوق تكفل لهم كريم العيش والسعي لأن يكونوا مواطنين فاعلين في المجتمع، بما أوجدته لهم من دُورِ رعايا ، وتأمينات اجتماعية ، وفي أحسنِ الأحوال توفيرعمل شريف لهم ، إلا إنهم لا زالوا يُعانون من نظرات التأثيم التي تلاحقهم أينما حلَّوا، عقابٍ على جريمةٍ كانوا هم فيها الحلقة الأضعف، نحن نتعاطف معهم، هكذا يُردد بعض فئات المجتمع، لكن ..!! التعاطف شئ، وواقع الحال شئٌ آخرفلو افترضنا جدلاً أن هذه الحالات أرادت الدخول إلى حياتنا  والإنخراط مع حياة أحد المقربين إلينا سنكون ضمن أول المعارضين وبشدّة، فإلى متى سنظل في طابور المتعاطفين فقط،؟ أليس من حقِ هذه الفئة على الدولة أن تُمنح كُل أسباب التعايش الإنساني المُجتمعي السليم ؟! ألا يحق لمن لا ذنب له أن يبني و يُعلي الصرح، ويجعل له إسماً يفخر به أبناؤهُ من بعد ؟!

إن ماجعلني أتناول هذا الموضوع حقيقةً، ماوصلني عبر البريد الإلكتروني ممن يرى في نفسه أنه يـُمثـّل هذه الفئة " حسب تعبيره " وقد ضمـّن رسالته الكثير من التطلعات والآمال لهذه الفئة من حيث الحقوق لأنه – حسب تعبيره – لم يتوانوا عن تأدية الواجبات المنوطة بهم تجاه الدولة والمجتمع، وأردف تخوفاته من جنوح بعض أفراد هذه الفئة – بسبب عدم حصولهم على بعض الحقوق – إلى الإنخراط في مجالات ربما تعود على الدولة والمجتمع بالضرر المباشر وغير المباشر، لأنه يرى – والحديث لهذا الاختصاصي – أن هذه الفئة بدأت بالإنخراط التدريجي بالمجتمع ويحمدالله أن بعض أفراد المجتمع تعاطفوا مع هؤلاء وتم توفير وظائف لهم كما تم صرف بعض الإعانات المساعدة لهم على العيش الكريم، والبعض الآخر يعيش بكنف أُسر كريمة تبنـّتهم وأغدقت عليهم العاطفة والإهتمام، ولكن ذلك لايـُشكـّل في واقع الحال سوى نسبة ضئيلة منهم، أما النسبة الأكثر فهي تعيش تحت ظروف نفسية سيئة، جراء رفض المجتمع وحرمان من بعض الواجبات، والأعظم من ذلك الإستقرار الأسري " الزواج " .

إن المسئول عن هذه الفئة برعايتها وتعليمها سواء جمعيات أو لجان خيرية أو إنسانية أو منظماتية، عليها العبء الأكبر في دمج هذه الفئة بالمجتمع، ومحاولة تخصيص بنود معينة تكون المفاضلة لهم في حال وجود وظائف، أو مـِنـَح حكومية، كما يقع على عاتق هذه اللجان توفير المسكن والشريك المناسب في حال رغب أحد أفراد هذه الفئة بالزواج، حتى لايواجه الظلم مرّة أخرى بذنب لم يقترفه ولم يكن له دورٌ أو سبب مباشر في حدوثه، ويجب ألاّ نـُحملهم أكثر مما وقع عليهم في بداية حياتهم، وأن لاننقص من حظوظهم في الحصول على فرصة عيش في بلدهم الذي يحملونه ولاءً غير منتقص، ولاينتقص من ولائهم كونهم قدموا إلى هذه الدنيا بطريقة غير شرعية.

مانتطلـّع إليه لهذه الفئة، أن يتم إيجاد لجنة " للزواج " بين أفراد هذه الفئة والأخذ بزمام المبادرة لوضع آلية تكفل لهم الحصول على الحق الشرعي والفطري في بناء أسرة مستقرّة بعد معاناة الشتات، وأن يكون هناك تسليط للضوء على أوضاعهم من قبل اختصاصيين ليجعلوا منهم أفراداً فاعلين في هذا المجتمع، حتى لانجدهم في يوم من الأيام خلف قضبان، لأسباب أمنية و شبكات إجرامية هدفها النيل من الوطن ومـُقدّراته، أو جرائم إجتماعية، ومسرح الجرائم يغصُّ بالكثير من الفئات، فهل ننتظر حتى ينخرط بعض أفراد هذه الفئة إلى هذا المجال السلبي، ندعوا الله أن يـُسخـّر لهم من يأخذ بهم إلى حيث المواطنة الصالحة لأن الأصل فيهم البذرة الخيـّرة.

أيها المجتمع الكريم : أيتها اللجان المـُختصـّة، إنسانية وخيرية، حكومية وأهلية، هل ستملأون الأكواب، لبناً ..!؟

 

صحيفة الشبيبة

JoomShaper