انتقلت إلى بارئها يوم السبت ليلة الأحد الماضي عشرات الأرواح البريئة من النساء والأطفال، وتشوهت عشرات الوجوه والأجساد الأخرى على إثر الحريق الذي اندلع في خيمة (سرادق) عرس غير مرخصة في منطقة العيون بمحافظة الجهراء شمال غرب العاصمة الكويت.
وبحكم معرفتي بالكويت أثناء (حرب الخليج) لاحظت أن (الجهراء) وأم (الهيمان) من المواقع التي تتجمع فيها في الغالب مجموعات قبلية متفرعة من القبائل الأم في المملكة والعراق وبعض بلاد الشام. وكثير من هؤلاء لا يحمل هوية الكويت الوطنية أو هوية أية دولة أخرى، ولذلك يطلق عليهم الكويتيون مسمى (البدون). وفي مواجهة التجاهل الرسمي وعدم القبول الاجتماعي يحاول هؤلاء إيجاد هوية خاصة بهم من خلال التمسك الشديد بموروثات قبلية تكتسي بالطابع الديني في كثير من الأحيان، مما يزيدهم عزلة على عزلتهم ويصنع منهم جسما ثقافيا غريبا يحتاج للكثير من التشذيب والتهذيب حتى يصبح في وضع مناسب للاندماج في المجتمع الكويتي المتعدد الأطياف والمنفتح نسبيا خاصة على الجبهة الثقافية.
في مثل هذه البيئة الثقافية والاجتماعية أقيم حفل العرس ووقعت الكارثة ليتبين بعد التحقيق وفحص شهادات شهود العيان أن الحريق كان بفعل فاعل، وأن ذلك الفاعل هو طليقة العريس (المعرس) الأولى وأم (طفليه) البالغة من العمر (23) عاما. ولقد أدلت الجانية باعترافات مفصلة أمام المدير العام للمباحث الجنائية بإشعالها خيمة العرس بواسطة (جالون) وقود وكبريت بهدف تخريب العرس انتقاما من زوجها.
وكالعادة تم تناقل الخبر وكافة حيثياته من إهمال وتبادل اتهامات وتحميل مسؤوليات وخلافه. ولكن ما يسكت عنه في هذه القضية أهم في نظري من كل ما تم تناقله وتسليط الضوء عليه. ولا بد من الإشارة ابتداء إلى أنني لا أبحث في هذه المقالة عن مبررات لجريمة وقعت ولا عن مخارج لتبرئة المجرم، فمن يقدم على جريمة قتل النفس التي حرم الله لا بد أن يتحمل عواقبها بالشكل الذي يتناسب مع حجمها وبشاعتها. ولكن ظهور اسم زوجة سابقة وأم لطفلين عمرها (23) عاما لا بد أن يفتح الباب على مصراعيه لمناقشة وضع المرأة في مجتمعاتنا. فما الذي يدفع برجل لتطليق زوجة صغيرة وأم لطفلين والمسارعة للتزوج بأخرى بمثل هذه السهولة؟ وما الدوافع غير الطلاق التي قادتها لتقدم على ارتكاب جريمة قتل جماعي مروعة لم تقدر عواقبها، حسب إفادتها؟ هل لتشفي غليلها بالانتقام البدائي الذي لا يفيد في إعادة إصلاح ما تم تدميره من جسور وروابط عائلية؟! أو أن هناك دوافع أخرى أعمق وأبعد من مجرد الانتقام؟! ثم لماذا كان الانتقام من نسوة وأطفال أبرياء لا من الزوج السابق في نفسه أو في أهله؟! لا أحد يطرح مثل هذه التساؤلات ولا أحد يتساءل عن دور السلطات القضائية في إتمام مثل هذه العقود دون توعية أو استبطان لحقيقة الدوافع التي تقف خلف حالات الطلاق المتزايدة، والتأكد من أن جورا لم يقع على أحد الأطراف في الرباط العائلي الذي تمزق بالطلاق. فلربما كانت هذه الصغيرة المطلقة ضحية لا جلادا. وهل بلغ امتهان المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية حد ألا تهتم السلطات القضائية بالطرف الآخر أو كما يحلو لنا تسميته بالنصف الآخر أو شريك الحياة حينما نرغب في التباهي بعصريتنا والتظاهر باحترام المرأة؟! وطالما أن الرجل أعطي الحق بالزواج والطلاق كيفما شاء وبمن شاء ومتى شاء، ألا يحق للطرف الآخر أن يقرر مصيره في مثل هذه الحالات ويعطى حقّه بالتسريح بإحسان أيضا؟ والإحسان يعني فيما يعني عدم هضم حقوقه بعد الطلاق. وما المانع من إصدار (تشريع عام) يحدد حقوق المرأة المطلقة المعنوية والمادية في حالات الطلاق الجائر أو الانتقامي؟! قد يقول البعض وما الذي يمنع المرأة من اشتراط ما تشاء في عقد الزواج؟ أقول إن العقد من حق الولي في مجتمعاتنا وليس من حق البنت، ولقد اعتاد الناس على عدم الاشتراط حسب التقاليد والأعراف الاجتماعية خاصة في المجتمعات المغلقة المشابهة لمجتمع الجهراء. وبالتالي من الأجدى من وجهة نظري أن ينظر مجمع الفقه الإسلامي في هذه القضايا فيضع بعض الشروط العامة الإجبارية التي تطبع في عقود الأنكحة في مختلف المجتمعات الإسلامية حتى تتم إزالة الحرج وتحفظ الحقوق بل وتسهم في منع عقود الزواج المختلف على صحتها من مسيار إلى مصياف إلى مسفار إلى عرفي إلى آخر تلك القائمة التي تنخر في بنيان مؤسسة الزواج الشرعية.
التساؤل الثاني الذي لم يطرح بعد يتعلق في إقدام أهالي الضحايا من (النشامى) و(الصناديد) بإغلاق الطرق المؤدية إلى موقع الحادث لمنع الغرباء من رؤية نسائهم أو تصويرهن!؟ فمن أعطى هؤلاء الحق في انتزاع حق من حقوق الدولة السيادية والإقدام على سد الطرق والشوارع، لأنه في حالات الحوادث والكوارث تنتفي خصوصية الفرد والجماعة لتحل محلها سيادة الدولة بأجلى معانيها لتتمكن السلطات المختصة من اعتماد كافة الوسائل والأساليب التي تراها لإنقاذ الأرواح أولا وأخيرا.
والله إني لأعجب من تكرار مثل هذه الممارسات غير المسؤولة في عدة مجتمعات إسلامية دون أن نتعلم منها أو نتعظ. فمهما تباعدت الأزمان لا يمكن أن ننسى أن (31) طالبة في المدرسة المتوسطة الحادية والثلاثين بمكة المكرمة فقدن أرواحهن البريئة سنة 2002م بسبب (منعهن) من الخروج من المدرسة المكتظة المتهالكة أثناء اندلاع حريق فيها حتى لا تراهن (عيون غريبة). فهل انعدمت الثقة ببناتنا وأمهاتنا حد منع المتطوعين من إنقاذهن وتفضيل موتهن على حياتهن أثناء الكوارث في سبيل ألا تراهن (أعين الغرباء)؟! وهل هن بهذه البساطة في التجاوب غير السوي مع الغرباء؟!ومن بالله من الرجال المسلمين أو غير المسلمين صغارا كانوا أو كبارا ذلك الذي يفكر بأن التي أمامه امرأة أو غير ذلك أثناء الهلع والفزع؟! فالمعروف هو أنه عند التطوع للإنقاذ تعتري الإنسان أي إنسان حالة من نكران الذات والإقدام الذي قد يودي بحياته هو في سبيل إنقاذ حياة إنسان آخر. وهذا ما جبل الله عليه من يقدمون على مثل هذه المخاطرة، ولذلك تشكرهم الأمم والشعوب وتقدر مبادراتهم وتضحياتهم وتمنحهم الأوسمة والمكافآت.
ولذلك آمل أن يظن (المؤمنون بأنفسهم خيرا) ويوقفوا امتهان النساء والتعامل معهن بدونية لأن ذلك سبق أن ارتد وسيستمر في الارتداد على مجتمعاتنا الرجولية لأن أما ذليلة لن تنشئ سوى رجل ذليل، وأما جاهلة نتاجها جاهل، وأما حاقدة نتاجها حاقد. فنحن جميعا انعكاس صادق ودقيق لصور أمهاتنا وإن زدنا عليهن بشارب ولحية.
صحيفة عكاظ