تغريد السعايدة
عمان- ساعة بساعة، ومع كل لحظة يمسك فيها الفرد بجهاز التحكم، تمر أمامه مشاهد الدمار والموت والحرب الشرسة في قطاع غزة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، حيث شلال الدم لا يتوقف، ويدفع ثمنها الأطفال.
مع مرور الوقت، قد تفقد مشاهد الدمار والموت تأثيرها النفسي على المشاهدين، حيث يصبح هنالك اعتياد على المشاهد التي تبث هنا وهناك، ليمر البعض مروراً سريعاً عليها خوفاً من "التأثير النفسي السلبي" الذي ينتابهم من لحظة لأخرى. وهو ما يحذر منه مختصون الذين ينصحون باتباع طرق معينة تبقي الإنسان على تعاطف والتصاق مع كل ما يحدث، وحتى لا يقع فريسة "التبلد العاطفي".
منذ اندلاع الأحداث في غزة، وبدء الهجمة الشرسة على القطاع من جانب الاحتلال الإسرائيلي، تتحدث إيمان مع زميلاتها في العمل منذ اللحظة الأولى لوصولها إلى مكان عملها، عن تلك الصور ومقاطع الفيديو التي تحمل الكثير من الأسى، وصور الجثث لأطفال لم يقترفوا أي ذنب، سوى أنهم تحت وطأة القصف العشوائي الغاشم.
تقول إيمان؛ إنها لا تنفك يومياً عن المشاهدة، تبقى حتى ساعات متأخرة من الليل تتابع الأخبار من التلفاز تارة، ومن هاتفها وعبر مواقع التواصل الاجتماعي تارةً أخرى، وهي تخشى اعتياد هذه المشاهد، ولا ترغب بأن يكون هذا الواقع المخيف شيئاً معتاداً، حتى لا تتغير تلك النظرة والحماس لدعم "الغزيين" في محنتهم وحربهم القاسية.
ومن خلال "بوست" على حساباته عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تعمد محمد رحاب أن يذكر متابعيه من الأصدقاء بأن يبقوا ثابتي الموقف والدعم بكافة أشكاله، ونشر صورة مدججة بالدماء مكتوبٌ فيها "لا تألف المشهد..لا تألف المشهد".
تلك العبارة تعني أن لا يصبح ما نراه من ظلم وقسوة تقع على قطاع غزة منظراً مألوفاً لدينا، بل يجب علينا أن نشحذ الهمم ونذكر أنفسنا ومحيطنا بالقضية وحق غزة كذلك بالدفاع عن نفسها وأطفالها ونسائها ورجالها، وأن لا نكون عرضة "للضغط الإعلامي المغاير" الذي لا ينظر إلى قضية "فلسطين" على أنها دفاع عن أرض وحق مكتسب بالعيش حياة طبيعية.
وعلى الرغم من تأكيد المجتمعات على ضرورة بث تلك اللقطات وكشف جرائم الاعتداء الغاشم والقصف العشوائي في غزة، إلا أن هناك من يرى أن كثرة بثها وتكرار مشاهدتها هو ما يخلق حالة "التبلد العاطفي" بالتالي "قتل الإحساس والتعاطف مع الشهداء من الأطفال وعائلاتهم ممن يعيشون ظروفا هي الأقسى على وجه الأرض".
أستاذ علم النفس في الجامعة الأردنية الأستاذ الدكتور محمد محمود بني يونس يقول في حديثه لـ "الغد" أن لغة الخطاب في الإعلام العربي هي اللغة العربية بالدرجة الأولى، وهذا يعني أن الفئة المستهدفة هي الأمّة العربية في مشارق الأرض العربية ومغاربها، والمواطن العربي في الأصل محبط بشكل عام، مما يشاهده قد يزيد من وطأة هذا الإحباط ما يحدث في غزة.
"القلوب مجروحة وما نشاهده يومياً عبر تلك القنوات يضاعف الألم"، على حد تعبير بني يونس، الذي يرى كذلك أن كل ما يتم بثه قد يؤجج ويثير المجتمعات، ولا يمكننا إنكار ما نشاهده من "ذعر وتخبط للعدو الصهيوني وسجله الإجرامي الوحشي اللاإنساني واللاأخلاقي".
وتعتاد الشعوب على مشاهدة الكثير من مواقف الظلم من قِبل العدو المحتل في فلسطين، حيث أصبحت جرائمها معروفة ومعتادة، وهذا ما يشير له علم النفس بوضع "التعود الذي قد يقود إلى التبلد العاطفي"، وهنا يظهر دور الشخص نفسه في كيفية حفظ نفسه من هذا التبلد والبقاء في حالة التعاطف والدعم المستمرة.
كما يرى بني يونس أن الخطاب في الإعلام العربي يجب أن يكون أكثر قوة شكلا ومضموناً، فهو يعتقد أن الكلمة الموزونة والهادفة أقوى من السلاح، وعلى إعلامنا العربي إما أن يغير من طريقة بثه لتلك الأحداث الدامية، حتى لا تكون تغطيات اعتيادية، عدا عن أهمية إيصال الرسالة بلغات أخرى من شأنها أن تتناول إظهار الوجه القبيح والممارسات اللاإنسانية "لعدو الإنسانية".
ومن الطرق التي يمكن أن تخفف مما يسمى بـ "التبلد العاطفي"، هو ما يبينه بني يونس من تأكيد على "أهمية إظهار الصورة المشرقة لصمود أهلنا ومقاومتهم في غزة وإبراز القوة والتحديات التي تم تحقيقها على أرض الواقع"، حيث من شأن ذلك أن يبث روح التفاؤل والأمل في وجدان وعقول شعوبنا".
ووفق بني يونس، فإن إعلامنا عليه أن يكون باعثا على الفخر والاعتزاز بما تحقق ومحفزاً على التعاطف الفعلي قولا وفعلا وليس من باب العطف والشفقة.
يشير كذلك إلى موقف الأردن الداعم للقضية الفلسطينية متمثلاً بخطاب الملك عبد الله الذي يبعث على العدل وحق الفلسطينيين في حياة آمنة، وبخطاب إجرائي متوازن معتدل حكيم وفاعل ومؤثر إيجابا وهذا ما يجب ترجمته في الإعلام المحلي، سواء أكان ما يتم بثه باللغة العربية أو اللغات الأخرى.
ويذهب إلى أن المشاعر سواء سلبية "تبلدا عاطفيا" أو إيجابية، هي نابعة مما يتم بثه عبر الإعلام بمختلف منصاته، لذلك، يشدد بني يونس على دور الإعلام في أن يكون هادفا وموجها إلى الآخر.
ويكون ذلك بحسب بني يونس من خلال تسليط الضوء على الجانب المشرق في المقاومة والجانب المعتم الشرير في سلوك العدو الإسرائيلي الغاشم، مشيراً إلى أن هناك بعض الجوانب السلبية لبعض محطات الإعلام التي بالفعل "تبعث على التبلد العاطفي ومزيد من اليأس والقنوط والعجز والتشاؤم والتذمر وإظهار دور الضحية التي مع مرور الوقت تخلق حالة التبلد".
وكانت المختصة والاستشارية النفسية الدكتورة عصمت حوسو قد تحدثت لـ "الغد" عن أن احتمالية حدوث التبلد العاطفي واردة جدا مع استمرارية هذه الأحداث، بيد أنها تنصح بضرورة المحافظة على الحس الإنساني بشكل مستمر، الذي يشعر به ملايين الناس حول العالم الآن في ظل بث آلاف المقاطع والصور المؤلمة، والحرص على عدم فقدان التعاطف مهما كانت الظروف والتوقيت.
عدا عن ذلك، فمن المهم أن يحمي المتابعون أنفسهم من حالة التبلد العاطفي من خلال التوقف عن مشاهدة الأخبار أو متابعة السوشال ميديا لفترة من الوقت، للحفاظ على الوضع النفسي لهم بشكل سليم، وفق حوسو.
وتقول حوسو "لا يمكن للكثيرين أحيانا تحمل المشاهد المؤلمة بشكل متتال، لذلك قد يكون لديه خيار معرفة الأخبار وكل الأحداث من خلال المحيطين أو سماع الإذاعات فقط، أو قراءة الأخبار، حيث أن هناك من يتسمون بالعاطفة القوية والحساسة وسريعي الاكتئاب يمكن أن يقعوا في فخ المرض أو التبلد العاطفي.