د. عوض بن حمد الحسني
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعد أخي المتابع:
فيُسعدني أن أطرح لكم بعض الهمسات التربوية المتفرقة؛ مساهمةً في معالجة بعض القضايا المجتمعية التي من وجهة نظري نرى تسليط الضوء عليها بشكل مقتضب إلى حد ما، حتى يسهل على القارئ والمتابع أن يتنبَّه لذلك، أو يساهم معنا في إيصالها للجهات المستهدفة للاستفادة منها، وإن كانت تخاطب كل طبقات المجتمع، والكل يحتاج إلى التذكير؛ فيبقى البشر في دائرة: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، وحسبي أنها موجَّهة إلى نفسي قبل غيري؛ لعلني أستيقظ عندما أُعيد القراءة، أو أوجِّه بوصلة تفكيري إلى محاولة الكمال في هذه الهمسات، والهمسات جمعٌ مفرده همسة؛ وهي الصوت الخفيُّ الرقيق الهادئ، وقيل: الرياح والنسيم الذي يمر في الصباح؛ ولذا حاولت في الطرح أن تكون هذه الهمسات في نفس الاتجاه والمسار، سائلًا الله للجميع العلم النافع، والعمل الصالح، وأن ينفع بها.
همسة ١: ومضة وذكرى:
من الحياة الطيبة أن يتضمن جدول المسلم اليومي برنامجًا من الأذكار والأدعية، والصلوات وأفعال الطاعات والقُرَب، التي تنفع العبد في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، فيكون في جدوله اليومي برنامجه ما يميزه عن غيره، فهذه القرب والعبادات والطاعات حافظة له، ومُعينة له على الثبات؛ فالهدف واضح، والغاية محددة لدى المسلم؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].
فنحن مِن ولادتنا في تناقص إلى أن نَصِلَ لمرحلة الصفر وانتهاء الرحلة، ونغادر من دار العمل إلى دار البرزخ، والتوقف عن الحسنات إلا من ثلاث جهات؛ أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))، ثم تكون دار المحاسبة؛ الجنة أو النار؛ قال تعالى: ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7].
فالعاقل من يستثمر كل لحظاته في دار العمل؛ لأنه هو من يقوم بالعمل، وهو من سيُقدِّمه لنفسه.
فالحُسافة كل الحسافة، أن يموت إنسان مقتدر دون أن يبني مسجدًا، أو يقدم عملًا صالحًا؛ لبخله على نفسه، فيموت محرومًا من مولدات الأجور بعد رحيله.
مات رجل غنيٌّ وهو بخيل على نفسه، فطلب أهل الخير من وَرَثَتِهِ أن يبنوا له مسجدًا، أو يساهموا في مشروع خيري، أو غير ذلك من أبواب الصدقات الجارية، فقال الورثة: هو لم يقدم لنفسه في حياته، فعلًا إن هذا المال هو الآن لهم؛ أي للورثة، وليس له.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: ((أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدَّم، ومال وارثه ما أخَّر))؛ [صحيح البخاري].
قال أهل العلم: كل شيء يخلفه المورث يصير ملكًا للوارث، فإن عمِل فيه بطاعة الله، اختص الوارث بالثواب.
فيا سعد من تذكر، وأقبل قبل أن يرحل، وتزود بزاد التقوى؛ قال تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197].
همسة ٢: مشاعر:
لذا فمراعاة المشاعر والاهتمام بهذا الجانب في الحياة الأسرية - بين الزوج وزوجته، والأب وأولاده، والأم وأولادها والعكس - والحياة الاجتماعية - القريبة والبعيدة - والحياة العملية – بين الرئيس والمرؤوس، والموظفين فيما بينهم - وهلم جرًّا، هذه من أساسيات النجاح في تلك البيئات؛ فمتى ارتفع جانب إشباع هذه المشاعر معنويًّا وحسيًّا، والتزمت بالانضباط وعدم المبالغة فيها أو الجفاء، كان لها أثرها في رفع الروح المعنوية؛ ومن ثَمَّ رفع جانب روح الدافعية الذاتية للإنسان، وهذا مما يجعل هناك جوًّا صحيًّا في تلك البيئة؛ فترتقي العلاقات، ويسود المكانَ المحبةُ والمودة والتفاهم؛ لتلبية هذه المشاعر، ويشترط لهذه المشاعر حتى تكون بلسم للحياة أن تكون تبادلية بين الأطراف المقدَّمة لهم هذه المشاعر، ومتى كانت من طرف واحد، تآكلت وأصابها الوهن، وتضعف حتى ربما تنعدم.
وهنا يتجرد الإنسان من هذه المشاعر؛ فيكون خطرًا على نفسه ومن حوله، وربما يحتاج إلى معالجة نفسية، حتى يعود إلى وضعه الطبيعي؛ فالنفس تميل إلى من يُقدِّرها.
همسة ٣: لا تَخْشَ من يُهدِّد بالرحيل:
لا تخشَ ممن يُهدِّد بالرحيل، وإن كان جميلًا أن تسمع منه ويسمع منك، ويكون بينكما حوارٌ في النقاط التي ربما تكون من أسباب التهديد برحيله، لو صدق في رغبة الرحيل، ولربما تضفي لك شيئًا لم تكن تدركه، لولا حديثه وحواره معك.
وربما بعد الحوار والنقاش الموضوعي - والحوار يكون موضوعيًّا إلى حد ما - إذا كان بعيدًا عن حظوظ النفس والذات، وتكون لديكما معاييرُ تتحاكمان إليه وقت اختلاف الرأي، ولربما أن يصل بكما ذلك الحوار الراقي إلى حلول مرضية للجميع، ولكن يقولون: الخوف ممن لا يهدد، فإذا رحل لن يعود؛ لأنه رحل بقناعة تامة، لا مصلحة له في البقاء، أو أن البقاء لا يحقق له ذاته.
همسة ٤: لا تُغيِّر نفسك من أجل الآخرين:
فمن يُغيِّر نفسه لإرضاء الآخرين، فسيخسر نفسه قبل أن يكسب رضاهم، ولكن من يأخذ بزمام نفسه لإرضاء الله سيكسب الرضا، فهو من يستحق الرضا المطلق، وفي نفس الوقت سيريح نفسه من شقائها الداخلي، فيطعم الحياة برونق آخر، لا يجده اللاهثون لإرضاء البشر؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124].
همسة ٥: رحلتنا في الحياة، من هنا البداية:
كل بداية لا بد لها من نهاية؛ فولادة الإنسان بداية حياته، والموت نهاية كل حيٍّ في هذه الحياة الإنسانية، التي ربما تطول للبعض، وربما تقصر بالبعض، والغالبية ما أخبر عنه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لحياة هذه الأمة: ((أعمار أُمَّتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوزُ ذلك))؛ [صحيح الألباني].
فالسعيد من وظَّف هذه الحياة القصيرة، ما بين ولادته وما بين لحظة رحيله، للحياة الطويلة التي لا نهاية لها، هناك تتحقق فيها للمؤمنين كل ما يشتهون ويتمنون؛ قال تعالى: ﴿ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾ [فصلت: 31].
فيا سعد من فاز بتلك الحياة، وبدايتها من هنا، وليس من هناك.
همسة ٦: بئس أخو القرابة والعشيرة:
حين فرضت قريشٌ حصارًا على بني هاشم، جاء أبو لهب إلى المشركين في دار الندوة، وأعلن وقوفه معهم بدلًا من وقوفه إلى جانب أهله؛ ظنًّا منه أن هذا الموقف سيرفع من قيمته، لكن بمجرد أن غادر الدار سخر الجميع منه، حتى إن عتبة بن ربيعة قال: "وَدَدْتُ لو كان خصومي كلهم مثله، ولم يكن في أنصاري أحدٌ مثله".
قلت: من لم يكن مع أهله في المواقف والشدائد حاضرًا، فهو بئس أخو القرابة والعشيرة، والعقلاء من الأعداء وإن استثمروا وجوده معهم في حضرته، فهم لفعله مُبْغِضون، لو كان من أهلهم.
فمهما يكون بين الإنسان وبين أهله وذويه من اختلاف الآراء وعدم التوافق، فإن وضع يد ذلك الإنسان ضد أهله وذويه في أمور الدنيا مَذَلَّة وحقارة، وسوء وفاء للأهل مع الأعداء.
والعقلاء من البشر يأبَون ذلك ويرفضونه؛ أن يُهان القريب والأهل والعشيرة، ثم يتفرج عليهم، ويسخر منهم، ويقول: يستحقون؛ لأنهم يخالفونني الرأي والتوجُّه، فهذا مرفوض عندهم، ولا يلائم الطبائع السوية، وإن كانت تخالفه الرأي؛ فإسلام حمزة كان في البداية للحمية والدفاع عن ابن أخيه؛ الرسول صلى الله عليه وسلم، كيف يُهان من أبي جهل؟ وسبب إسلامه أنَّ أبا جهلٍ مرَّ برسول الله فآذاه وشتمه، ورسول الله لم يردَّ عليه ولم يكلِّمه، وسمعت ذلك مولاة لعبدالله بن جدعان، فأخبرت حمزة وهو عائدٌ من الصيد بما لقِيَه رسول الله من الأذى، فغضب حمزة لذلك، وذهب ليسعى ولم يقف على أحد، وهو الذي كان من عادته إن رجع من الصيد يذهب فيطوف بالكعبة، ويمر على نادي قريش، ويقف عنده ويسلِّم عليهم، ويتحدَّث معهم، فلمَّا دخل حمزة المسجد، ووجد أبا جهل جالسًا، فأقبل نحوه فضربه بالقوس فشجَّه، وقال له: أتَشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول؟ فرُدَّ ذلك عليَّ إن استطعت، وبعد ذلك أتمَّ حمزة على إسلامه، فعلمت قريش حينها أنَّ رسول الله قد عزَّ وامتنع، فكفُّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.
بل الوفيُّ للقرابة والعشيرة والأهل يظل متواجدًا معهم، مناصرًا لهم، حتى وإن خالفهم، وهذا أبو طالب عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلَّ حاميًا ومدافعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أخيه حتى مات؛ فسُمِّيَ العام عام الحزن؛ لأنه وقف حاميًا ومدافعًا، فَفَقَدَ النبي صلى الله عليه وسلم العم الحامي.