تغريد السعايدة
عمان- يتداخل صوت طفل صغير مع أصوات شبان في أعمار متفاوتة، يتبادلون الحوار والضحك في أجواء مليئة بالمزاح، حيث يجذبون الطفل إلى أحاديث مختلفة تثير الضحك. كل ذلك يحدث داخل إحدى غرف الألعاب الإلكترونية القتالية، التي قد تتصدر أحيانا صفحات رواد مواقع التواصل الاجتماعي بسبب بعض العبارات غير اللائقة التي تسمع عبر هذه المنصات.
هذه العبارات وغيرها، التي تصل إلى مسامع الطفل، قد تتضمن كلمات خادشة للحياء أو تحثه على الخوض في مواضيع لا تتناسب مع عمره. أحيانا يتم وضع الطفل في مواقف محرجة تدفعه للانسحاب. مثل هذه الممارسات يمكن أن تعد شكلا من أشكال العنف والإساءة الرقمية التي يتعرض لها الأطفال يوميا. وما يزيد من خطورة الأمر هو غياب وعي الأهل بما يحدث، إذ غالبا لا يدركون طبيعة الأحاديث التي يخوضها أطفالهم أو مع من يتحدثون في هذه البيئات الرقمية.
"كسرت مواقع التواصل الاجتماعي حواجز الجدران التي كانت تحمي أطفالنا، ولم نعد قادرين على مواكبة متغيراتهم وملاحقتهم في ظل هذا العصر الرقمي. أصبحنا نجهل ما قد يتعرضون له من كلام قد يحمل في طياته رسائل إيجابية تحفزهم على التميز والإبداع، وفي المقابل قد يكون كلاما هداما وقاسيا". هذا الوصف يعكس آراء العديد من الآباء والأمهات الذين يعبرون عن قلقهم عبر تعليقاتهم بشأن واقع أطفالهم في العالم الإلكتروني.
يجمعون على أنهم عاجزون عن سحب أبنائهم من هذا العالم الافتراضي الذي بات أشبه بالواقع، وفي الوقت نفسه يقفون حائرين بين محاولة حمايتهم من الإساءة الرقمية وآثارها السلبية. خاصة وأن الأثر النفسي والتربوي لمثل هذه الإساءات قد يكون أكثر خطورة من أشكال الإساءة التقليدية.
- الأسرة الحصن الأول والأخير
خبير أمن المعلومات وحماية الخصوصية والاتصال الرقمي، الدكتور عمران سالم يؤكد على أهمية تأهيل الأهالي لاستخدام تطبيقات الرقابة الأبوية كوسيلة للحد من الإساءة الرقمية التي قد يتعرض لها الأطفال. وعلى أن الأسرة تظل الحصن الأول والأخير في حماية الأطفال، إلا أن التحديات تتضاعف في ظل التطور التكنولوجي المتسارع.
وأشار عمران إلى أن التطور التكنولوجي يحدث بوتيرة أسرع مما يمكن استيعابه، مما يجعل الأطفال أكثر عرضة للاستغلال والتحرش في العالم الرقمي. وأوضح أن تطبيقات الرقابة الأبوية تمثل أداة حيوية يمكنها مساعدة الأهالي على حماية أطفالهم من المخاطر التي تحيط بهم، لكنها ليست الحل الوحيد. وأكد أن الحوار المفتوح بين الآباء والأطفال وتعليمهم كيفية استخدام الإنترنت بأمان هما الأساس لأي إستراتيجية ناجحة لحماية الأطفال في هذا العصر الرقمي.
- منصات تعرض الأطفال للخطر
حول “الإساءة الرقمية”، يشير عمران إلى أنها مشكلة متزايدة في عالمنا الرقمي المترابط، حيث يمكن أن تحدث عبر العديد من التطبيقات والمنصات التي يستخدمها الأطفال والمراهقون. من أبرز هذه المنصات وسائل التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك، إنستغرام، سناب شات، وتيك توك، التي تُعد شائعة بين الشباب وتستخدم للتواصل مع الأصدقاء ومشاركة الصور ومقاطع الفيديو. ومع ذلك، يمكن أن تتحول هذه المنصات إلى بيئة خصبة للتنمر الإلكتروني، التشهير، أو حتى التحرش الجنسي.
كما يلفت النظر إلى منصات ألعاب الفيديو عبر الإنترنت، التي تشمل ألعابا متعددة اللاعبين وألعاب المحاكاة. هذه الألعاب قد تحتوي على محتوى غير لائق أو تشجع على سلوكيات ضارة، مما يعرض الأطفال لخطر الإساءة الرقمية. بالإضافة إلى ذلك، تعد تطبيقات المراسلة مثل واتساب وسناب شات، وكذلك تطبيقات التعارف والمنتديات التي تتيح المراسلة المجهولة، من أدوات الاتصال التي تزيد من خطر التعرض للإساءة، حيث تسمح للمستخدمين بإرسال رسائل دون الكشف عن هويتهم.
ومن أسباب تعرض الأطفال للإساءة الرقمية، كما يبين سالم، هو غياب الوعي بالمخاطر الموجودة على الإنترنت، والضغط من الأقران، وسهولة الوصول إلى الإنترنت من خلال الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، والأهم هو غياب الرقابة الأبوية.
- حقبة رقمية تتطلب
إدارة العلاقة مع الأبناء
تؤكد اختصاصية الإرشاد النفسي والتربوي، الدكتورة سعاد غيث، أننا نعيش اليوم مع أطفالنا في “حقبة رقمية” تفرض على الأهل مسؤولية تعلم كيفية إدارة علاقاتهم مع أبنائهم وتربيتهم في ظل التحول الرقمي. وتشدد على أهمية أن يكون الأهل على وعي كاف بالتحديات التي يواجهها الأطفال في هذا العالم الرقمي، وأن يعملوا على تهيئتهم لاستخدام التقنيات الحديثة بطريقة ملائمة لحياتهم، دون إساءة استخدام الأدوات الرقمية أو الوقوع ضحية للإساءة والتنمر الإلكتروني.
وترى الدكتورة غيث أنه من الضروري أن يعلم الأهل أبناءهم مفهوم “الحدود الرقمية” في العالم الافتراضي، وأن يشرفوا بشكل مستمر على نشاطاتهم عبر الإنترنت مهما كانت اهتماماتهم، حتى في مرحلة المراهقة. وتضيف، أن هذا الإشراف يتطلب من الأهل تعلم استخدام البرامج والتطبيقات التي تساعد على تقنين المحتوى الذي يتعرض له الطفل. في الوقت ذاته، لا بد أن تكون عملية التربية متوازنة مع زرع القيم الأخلاقية في نفوس الأبناء، مع أخذ القضايا المرتبطة بالإفراط في استخدام الشاشات بعين الاعتبار. تؤكد أن على أولياء الأمور فهم تأثير التكنولوجيا على عقول الأطفال، حيث تتأثر أدمغة الأطفال، وحتى المراهقين، بساعات الاستخدام المطوّلة ومشاهدة المقاطع السريعة والقصيرة بشكل متكرر. هذا الأمر أدى إلى ظهور جيل من الأطفال يعاني من قلة الصبر، مما يساهم في تقليل القدرة على التركيز، وظهور مشكلات في التطور العقلي ووظائف الدماغ، وزيادة الاستثارة السريعة، مما يؤثر سلبًا على مستوى الإنجاز والأداء لديهم.
من جانبه، يبرز عمران أهمية تطبيقات الرقابة الأبوية، حيث توفر هذه التطبيقات بيئة آمنة للأطفال في العالم الرقمي، وتساعد الآباء على غرس عادات صحية لاستخدام التكنولوجيا. كما تتيح لهم حماية أبنائهم من المخاطر التي قد يتعرضون لها على الإنترنت، مثل المحتوى الضار أو غير اللائق، عبر حجب المواقع الإلكترونية والتطبيقات التي تحتوي على مواد عنيفة أو إباحية.
- تطبيقات تحمي الأطفال من الإساءة
وينوه أن الحد من وقت الشاشة هو أحد أبرز مزايا تطبيقات الرقابة الأبوية، حيث تمكن الأهل من تحديد فترات زمنية لاستخدام الأجهزة الذكية، مما يساعد على تحقيق توازن صحي بين الحياة الرقمية والحياة الواقعية، ويحد من خطر إدمان الأطفال على الأجهزة الإلكترونية. كما أن هذه التطبيقات تتيح تتبع النشاط الرقمي للأطفال، مما يساعد الأهل في فهم سلوكيات أبنائهم واكتشاف أي مشكلات محتملة في وقت مبكر.
يشدد الدكتور عمران على أهمية أن يحرص الأهل على حماية خصوصية أطفالهم، مشيرا إلى وجود تطبيقات تساهم في منع الغرباء من التواصل مع الأطفال أو طلب معلومات شخصية منهم. كما يرى أن تثقيف الأطفال باستخدام هذه التطبيقات كأداة تعليمية هو خطوة أساسية، حيث تساعدهم على فهم مخاطر الإنترنت وكيفية استخدامه بشكل آمن ومسؤول.
إلى جانب الحماية من مخاطر الإنترنت، يرى سالم أن تطبيقات الرقابة الأبوية تعزز التواصل بين الأهل وأطفالهم من خلال مناقشة القواعد والحدود المتعلقة باستخدام الإنترنت. كما أنها تسهم في بناء الثقة بين الطرفين عبر إظهار اهتمام الأهل بسلامة أطفالهم ورفاهيتهم، بالإضافة إلى تعزيز حس المسؤولية لدى الأطفال من خلال تعليمهم كيفية استخدام التكنولوجيا بطريقة إيجابية ومسؤولة.
ومع ذلك، يؤكد أن تطبيقات الرقابة الأبوية ليست حلاً سحريا، بل هي أداة مساعدة يجب أن تُستخدم بالتوازي مع دور فاعل للآباء في توجيه أبنائهم نحو استخدام التكنولوجيا بشكل بنّاء. ويوصي بالاعتماد على مجموعة من البرامج المتاحة مثلGoogle Family Link، Qustodio Free، Apple Screen Time، OurPact Jr، وMicrosoft Family Safety، لتحقيق أفضل النتائج.
- إشراك المدارس بالتوعية الرقمية
يدعم الدكتور عمران فكرة تنظيم ورش عمل توعوية لتأهيل الأهالي لاستخدام تطبيقات الرقابة الأبوية، مشددا على أهمية تقديم شرح مبسط لمفهوم الرقابة الأبوية وآلية عمل هذه التطبيقات. كما يوصي بتسليط الضوء على ميزاتها المختلفة وكيفية ضبطها بما يناسب احتياجات كل أسرة. ويرى أنه من الضروري إشراك المدارس في هذه الجهود من خلال تنظيم محاضرات وورش عمل تستهدف الأهالي والمعلمين على حد سواء.
ويدعو أيضا إلى إدراج موضوع السلامة الرقمية ضمن المناهج الدراسية باستخدام لغة بسيطة وواضحة تُناسب أعمار الطلاب. كما يشجع التعاون مع شركات الاتصالات ومزودي خدمات الإنترنت لتوفير أدوات الرقابة الأبوية ضمن باقاتهم، مما يمكن الأهالي من استخدامها بفعالية لحماية أطفالهم من مخاطر العالم الرقمي.
وتتفق الدكتورة غيث مع عمران على أهمية تنظيم عملية استخدام الأطفال للتكنولوجيا وتعزيز الضبط النفسي والذاتي لديهم، للحد من تحول الاستخدام إلى إدمان. وتشير إلى أن هذا يساعد في المحافظة على التفاعل الاجتماعي للأطفال مع محيطهم الواقعي، وهو أحد أشكال الحماية من الإساءة الرقمية. كما تؤكد أن توفير بيئة من المودة داخل الأسرة يسهم في حماية الطفل من التعرض للإساءات.
إلى ذلك، تربية الأبناء على حماية أنفسهم من الإساءة، مع الحرص على ألا يكونوا مصدر أذى للآخرين. وتلفت إلى صعوبة تحقيق “الحصانة الرقمية” الكاملة، لكنها تشدد على ضرورة التعرف على الجهة التي تعرض الطفل للإساءة لمعالجتها بالطريقة المناسبة.
تلفت الدكتورة غيث إلى أن الطفل الذي يصبح أسيرًا للإعجابات والتعليقات والمتابعين على منصات التواصل الاجتماعي معرض بشكل كبير للإساءة الرقمية. وتوضح أن بعض الأطفال قد يتأثرون بشكل عميق بمثل هذه الإساءة، مما ينعكس سلبا على حياتهم اليومية وحالتهم النفسية.
وتأمل غيث أن يتمكن الأهل من حماية أبنائهم من خلال التربية السليمة والتوجيه المستمر. وتؤكد على أهمية أن يكون الأهل داعمين لأبنائهم في جميع الأوقات، ومساعدتهم على مواجهة الإساءات الرقمية والحد من تأثيرها السلبي عليهم. كما تشدد على ضرورة عدم ترك الأطفال لوحدهم في هذا العالم الافتراضي، بل يجب أن يشعر الطفل بالأمان والثقة ليعود إلى والديه عند الحاجة لطلب الدعم والمساعدة عند الحاجة.