ربى الرياحي
عمان - تغير شكل العمل في السنوات الأخيرة، فلم يعد حبيس المكاتب ذات الجدران الزجاجية والممرات الطويلة، بل أصبحت الشاشة هي المكتب الجديد. فالعمل عبر الإنترنت فتح الباب أمام الدخول إلى العالم من أي مكان، ووفر فرصا بلا حدود جغرافية.
هذا النمط من العمل منح الموظفين حرية اختيار أماكنهم وأوقاتهم، فأزاح فكرة الدوام الصارم لصالح جداول أكثر مرونة، واختصر وقت المواصلات إلى بضع خطوات تفصل بين غرفة النوم والمكتب المنزلي.
لكن هذه الحرية لا تأتي بلا ثمن، إذ غالبا ما يلغي العمل من المنزل الخط الفاصل بين الحياة الشخصية والمهنية، فتتحول غرفة الجلوس أحيانا إلى ساحة عمل، ويغدو الهاتف المحمول بوابة مفتوحة لا تغلق.
سمر، مصممة جرافيك، بدأت العمل عبر الإنترنت قبل نحو عامين. في البداية، غمرتها السعادة لأنها قادرة على إنجاز مهامها اليومية حتى أثناء سفرها مع عائلتها.
تقول "إن أكثر ما يميز هذه التجربة هو المرونة، لا قيود على ساعات الدوام، ولا حاجة للتنقل أو تحمل تكاليف مرهقة وهي تسكن في منطقة بعيدة. لكن مع مرور الوقت، بدأت سمر تشعر بالتهديد وعدم الاستقرار بسبب غياب الراتب الثابت الذي يمنحها الأمان، إضافة إلى تداخل أوقات العمل مع الراحة، ما تركها في حالة من الإرهاق النفسي".
ويواجه العمل عبر الإنترنت سلبيات عديدة، من بينها العزلة والقلق وغياب الأمان. ففي ظل غياب بيئة العمل التقليدية، يصبح من الصعب على الكثيرين رسم الحدود التي تضمن حقوقهم كموظفين، وأيضا حقوق جهة العمل.
إضافة إلى ذلك، يؤدي غياب التفاعل الإنساني والانتماء إلى حرمان الموظفين من التواصل اليومي مع الزملاء ومن نقاشات الممرات وتفاصيل أخرى قد تبدو هامشية، لكنها تلعب دورا عميقا في خلق الانتماء وتعزيز الصحة النفسية.
أما لينا، فقد نجحت في الموازنة بين أمومتها وتحقيق ذاتها من خلال عملها عبر الإنترنت رغم انشغالها الدائم. لينا، أم لطفلين تعمل في مجال التسويق الرقمي، اختارت هذه الطريقة لتكون قريبة من أطفالها، تهتم بهم وتنظم حياتهم وتشاركهم أهم اللحظات.
لكن ذلك لا يلغي انشغالها عنهم وقتا طويلا حتى وهي معهم، إذ يستحوذ الهاتف واللابتوب على جزء كبير من يومها، حيث يرسل العملاء لها في أي وقت ولا تستطيع تجاهلهم خوفا على سمعتها المهنية، والنتيجة شعور دائم بالغياب رغم الحضور.
أما فراس، فقد رأى في العمل عبر الإنترنت طريقا جديدا أكثر إبداعا وحرية، فقرر ترك وظيفته الثابتة في إحدى شركات التكنولوجيا، والانتقال إلى العمل كمبرمج مستقل من منزله.
في البداية كان فراس منبهرا بالحرية والقدرة على اختيار مشاريعه ضمن شروطه الخاصة، فكان يبدأ يومه في أي وقت يريده، ويستمع إلى الموسيقا التي يحبها دون أن يخشى إزعاج أحد. لكن ذلك الانبهار لم يدم طويلا، إذ اكتشف أن شعوره بالحرية له ضريبة يدفعها من أعصابه واحتراقه النفسي، نتيجة مطاردته المستمرة للعملاء وخوفه من تأخر الدفعات المالية، وأحيانا عزلة خانقة كفيلة بأن تهدم معظم علاقاته.
وفي هذا الخصوص، يبين مدرب الإدارة والتطوير الذاتي محمد تملي، أن العمل عبر الإنترنت يعد وسيلة وأسلوبا جديدا يساهم في تقليل الأعباء المالية على الشركات مقارنة بالعمل التقليدي، كما يسمح بأن تكون ساعات العمل أكثر مرونة وحرية، من خلال اختيار الوقت المناسب لكل شخص، إضافة إلى أنه يوفر الجهد المبذول في التنقل، أما جهد العمل وإنجاز المهام المطلوبة، فيتساوى مع الجهد في بيئة العمل التقليدية.
ويفتح العمل عبر الإنترنت أبوابا وفرصا متنوعة لمشاريع ومهن لم تكن موجودة من قبل، مشيرا إلى أهمية تطوير المهارات الذاتية؛ فالبيئة الرقمية تدفع الفرد إلى تنمية قدراته، والتميز أكثر بالتركيز على الإبداع والتحكم بكل ما يخص المشروع، ليستطيع أن ينجح ويواكب التغيرات السريعة في سوق العمل. بحسب المدرب تملي
ويرى، أن العمل عبر الإنترنت يوفر فرص دخل إضافية، إذ يتيح الجمع بين أكثر من مشروع أو عميل في الوقت نفسه. أما عن السلبيات المتعلقة بهذا النوع من العمل، فيوضح تملي أن هذا الطريق، رغم كونه خيارا جيدا، إلا أنه ينطوي على تحديات خفية، مثل العزلة الاجتماعية؛ فغياب التواصل المباشر مع الزملاء قد يولد شعورا بالوحدة على المدى الطويل، كما أن غياب الحدود بين الحياة والعمل يصعب الفصل بين وقت العمل ووقت الراحة، مما يؤدي أحيانا إلى إرهاق ذهني ونفسي.
ويبين الاستشاري النفسي الأسري الدكتور أحمد سريوي، أن العمل عبر الإنترنت يساهم في توفير الوقت والجهد مقارنة بالعمل التقليدي، إذ يختصر ساعات التنقل المرهقة، ويقلل من الاستنزاف الجسدي والذهني الناتج عن الازدحام أو الانتظار. وهذا يمنح الموظف طاقة أكبر للتركيز على مهامه، ويتيح له استثمار الوقت في الراحة أو التطوير الذاتي.
كما يوفر العمل عن بعد مرونة عالية في اختيار بيئة العمل الأنسب للفرد، سواء في المنزل أو في أي مكان آخر مريح له، ويمنحه حرية تنظيم ساعات العمل بما يتناسب مع نمط حياته وإيقاع يومه، مما يعزز شعوره بالاستقلالية الوظيفية.
ووفق سريوي، يزيد هذا النمط من فرص العمل للأشخاص في المناطق النائية أو لذوي الإعاقة، إذ يزيل الحواجز الجغرافية والبدنية التي كانت تحد من إمكاناتهم. فيستطيع ذوو الإعاقة أو سكان المناطق البعيدة الوصول إلى فرص عمل تناسب مهاراتهم من دون الحاجة إلى التنقل أو مواجهة صعوبات البنية التحتية.
ويوضح سريوي، كذلك يساعد العمل عبر الإنترنت في تقليل التكاليف على الموظف وصاحب العمل؛ فالموظف يوفر مصاريف النقل والوجبات خارج المنزل، بينما يقلل صاحب العمل من تكاليف المكاتب والتجهيزات. وهذه المعادلة تخلق بيئة أكثر استدامة من الناحية الاقتصادية للطرفين.
أما تأثير العمل عبر الإنترنت على التوازن بين الحياة الشخصية والحياة المهنية، فهو يتحقق بالطبع إذا أدير بوعي؛ إذ يمكن أن يعزز التوازن عبر منح الموظف وقتا أكبر للعائلة والهوايات. بحسب سريوي، لكن في حال غياب الحدود الواضحة، قد يحدث تداخل بين العمل والحياة الشخصية، مما يسبب إجهادا إضافيا.
ويقول "إن العمل عبر الإنترنت يقلل بدرجة ملحوظة من التفاعل الوجاهي، وهو ما قد يؤثر على روح الفريق وبناء العلاقات المهنية العميقة. ومع ذلك، يمكن تعويض ذلك من خلال الاجتماعات الافتراضية الفعالة والأنشطة التفاعلية عبر الإنترنت".
ويذكر سريوي، أن من أبرز المخاطر التي تواجه العاملين عبر الإنترنت: تسريب البيانات، والاختراقات الإلكترونية، أو إساءة استخدام المعلومات الشخصية. لذلك، من الضروري الالتزام بإجراءات الأمان الرقمي والتدريب المستمر على حماية المعلومات.