محمد إسماعيل زاهر
يخصص المواطن العربي، دقائق في العام للقراءة، مقولة لأحد مثقفينا في ندوة عقدت على هامش معرض الشارقة للكتاب، معلومة تحتاج إلى شرح وتحليل، تتطلب النقاش وإعادة النظر ولكنها في الأحوال كافة تقترب من التقارير المعرفية التي ترصد حال الثقافة العربية مؤخراً، تنسجم من الحالة النقدية التي يحلو لنا من خلالها إجراء مراجعات شاملة لما هو موجود بالفعل على الساحة الثقافية، من دون بحث في المقدمات والأسباب، إنها ببساطة ووفق التشبية التقليدي بمثابة وضع العربة امام الحصان، إنها مرة أخرى حالة من إراحة الذهن وتلمس العافية “الفكرية” وتجنب أسئلة من قبيل: ماذا نقرأ؟، وما هي السبل المثلى لإبداع أو لزرع ثقافة القراءة؟
إن التجول في أروقة معرض الشارقة للكتاب، كمثال معبر لمعارضنا العربية المتعددة، يكشف عن ظواهر بسيطة لا تحتاج الى أي تنظير أو تعقيد، سنلاحظ مثلاً إعادة نشر أعمال دستويفسكي التي ترجمها سامي الدروبي، وكذلك ابداعات أنطون تشيخوف، وسنجد أن المركز القومي للترجمة في مصر يخصص الكثير من اصداراته الأخيرة لترجمات قديمة تحت عنوان “ميراث الترجمة”، أما المنظمة العربية للترجمة فتعيد إنتاج ترجمات الكتابات الأساسية في الفلسفة والعلوم الانسانية، وعندما ينتقل المتجول من دار نشر إلى أخرى، سيلاحظ وجود أكثر من ترجمة لرواية واحدة، بدءاً من كلاسيكيات الأدب مثل دون كيخوتة إلى مائة عام من العزلة .
نلاحظ أيضاً أن دور النشر تبرز كتابات المبدعين والمفكرين العرب الذين نعرفهم جيداً، هنا نقول بصراحة إن المثقف القارئ بانتظام يذهب إلى المعرض غالباً ليكمل مكتبته الخاصة من الكتب السابق الاشارة إليها وعندما يقتني كتاباً جديداً فبدافع من المتابعة الإعلامية المكثفة، لأسباب عدة ربما يكون المحتوى الثقافي الجيد للكتاب في ذيل اهتماماتها، أو نتيجة للعلاقة الشخصية بالمؤلف أو الثقافة السمعية . هنا نقول بوجود خلل في صناعة الكتاب، بوصفه المعبر الأول عن الثقافة كرؤى وابداع وتواصل بين الاجيال، وعلاقة بين المتلقي والكتاب، خلل لا يمكن إلقاء أسبابه على عاتق المواطن الذي يقرأ 6 دقائق في العام، وإنما إلى مجموعة من الآليات تشمل الإعلام الثقافي والحالة النقدية وعملية النشر نفسها والمناخ العام . . إلخ .
المثقف العربي وهو يطالب ذلك المواطن بالقراءة، أساس انتاج الكتاب ورواجه، ينسى أو يتناسى أن بعض الترجمات كالطلاسم والمعادلات الرياضية، بل وكثير من المؤلفات أيضاً، هل نحن بحاجة الى اعادة تذكر النقد اللاذع والساخر لفؤاد زكريا لتلك الكتابات، المثقف العربي عندما يذهب إلى المعرض لاقتناء رواية لماركيز يشتري الطبعة المعنونة باسم مترجم معين ويترك ربما 3 أو 4 ترجمات أخرى، هل نقول أن رواية ماركيز المدهشة مائة عام من العزلة ترجمت فور صدورها مختصرة ومشوهة في مصر بعنوان “ليالي الحب والرعب”، هل نقول أن احدى ترجمات هذه الرواية شديدة السخافة وتصيب القارئ بالنفور، هل نقول ان النقد تجاهل هذه المسألة وأن المثقف العربي عندما كتب عن ماركيز فكأنه يقرأه بالأسبانية، وأن توجيه المواطن العربي، قارئ الصدفة أو ال6 دقائق، إلى الترجمة الجيدة مسؤولية المثقف . الحال نفسه ينطبق على التأليف، فالإعلام الثقافي والنقد السيار لا يحللان المنتج الجديد حقيقة وإنما يقدمان متابعة له، وهنا سنلاحظ أن دورياتنا الثقافية المتخصصة ونقادنا الكبار يتحدثون عن الماضي وال”هناك”: التراث العربي، كتابات عصر النهضة العربية أو الثقافة الغربية .
نلاحظ مرة ثالثة وجود ابداعات شابة عديدة في الكثير من دور النشر الشهيرة، نعلم جيداً ان اقبال هذه الدور على طباعتها يعود إلى أسباب اقتصادية، أو حجج من قبيل ضرورة انتاج كتب جديدة كل عام، هذه الكتابات لا تستوقف نقادنا الكبار، يسكتون عنها، يتجاهلونها هنا ينبغي، مع التحفظ على لغة الينبغيات في الثقافة، على هؤلاء النقاد الافصاح المباشر والحقيقي حتى نتعرف إلى الأبعاد الواقعية لأزمة الإبداع التي لا نمل الحديث عنها .
ما هو موقف القارئ العادي، المتابع غير المتخصص، عندما يفكر في اقتناء أحد كتب الفلسفة، ويجد المترجم يخبره في المقدمة أن ترجمة الفلسفة الحديثة شبه مستحيلة لأن اللغة العربية لا تستوعب المصطلح الفلسفي المعاصر؟، وهنا بإمكاننا أن نسأل: إذا كان الحال كذلك فلماذا ترجمة الفلسفة والعلوم التطبيقية، والانسانية والشعر بدرجات متفاوتة، بل بامكاننا رسم صورة مستوحاة من المعرض لاثنين من مثقفينا يطالعان العناوين ربما في دار نشر واحدة، الأول تقليدي تستوقفه عناوين تحمل كلمات التحديث والحداثة والحداثية، وما بعد بعد الحداثة، والثاني عصري يتأمل كلمات تنتمي إلى لغة يعتبرها مهجورة، كل منهما ربما يسخر أو يرفض أو ينفي الآخر ولكن أي منهما لا يفكر في اقتناء الكتاب الذي ينتمي إلى فكر الآخر .
إن معادلة غياب التواصل الرأسي بين الأجيال تكتمل بفقدان الحوار الفكري الهادئ والخلاق داخل الثقافة العربية المعاصرة، أو بلغة تنتمي الى فضاء القراءة: نحن لا نقرأ بعضنا بعضاً، القراءة هنا لا تتعاطى مع مفهوم التناص والذي إذا أدركنا شروطه الموضوعية لا نفتحت ثقافتنا على مدارات أرحب وآفاق أوسع .
هذا الوضع يحتاج إلى التأمل الذي ربما يدخلنا في اشكاليات أعقد تتعلق بحوار الحضارات وموقعنا في العالم، وربما يدعونا إلى ما هو أكثر حرجاً لكبار مثقفينا بسؤالهم أنفسهم عن الوقت الذي يخصصونه للقراءة، ومقارنة سريعة بين تنوع الموضوعات التي كتب فيها مثقف النهضة والثورة، وتكرار الأفكار والموضوعات التي نطالعها الآن، ولنكن صرحاء لدى البعض من ألمع مثقفينا، تظهر لنا أن القراءة غُدر بها من أهلها أولاً .
القراءة ثقافة مصدرها الأساسي الكتاب، ومع الأخذ في الاعتبار بكافة الأسباب التي تقال لتبرير تراجع معدلاتها، فإننا نحتاج إلى خبراء التربية وعلم النفس يعكفون على مطالعة السير الذاتية التي تتناول العلاقة الأولى للطفل بالكتاب ونمط التربية في الماضي، فمشاهدة الأب أو أحد أفراد الأسرة وهو يمسك بالصحيفة، وسماح الأم للأطفال باللعب في الشارع/ الحارة/ الفريج، وسرقة لحظات بعيدة عن مراقبة الأهل، كلها مفردات سنجد لها علاقة ارتبطت بتنمية الخيال والدامغية إلى دهشة المعرفة، ومن ثم المطالعة، وهي مرة ثانية مفردات لا وجود لها في ثقافة التربية المعاصرة، ومع ملاحظة أن المحتوى الإلكتروني العربي ليس على المستوى المأمول فيه ثقافياً، فلنا أن نتصور حال الأجيال المقبلة، هذا إذا كانت تلتفت أصلاً لمتابعة المتاح من المواقع الثقافة على شبكة الانترنت، وربما يأتي زمان تتحدث فيه إحدى التقارير الإلكترونية المعرفية عن أن المنتج الثقافي العربي الإلكتروني لا يتجاوز في مجمله ما ينتجه أحد البلدان الأوروبية، أو المجاورة، لا فارق في العام، ولا نملك في النهاية إلا توجيه الشكر لمعرض الشارقة للكتاب الذي سمحت ندواته ومحاضراته المهمة باثارة مثل هذه الأفكار وكل معرض وأنتم بخير .
القراءة . . المغدور بها
- التفاصيل