النظرة الإقصائية الخاطئة التي نراها في كتبنا التراثية، وفي بعض السلوكيات المعاصرة نتجت عن عدة أسباب فيمن تولوا التنظير للقضية قديما وحديثا
د. إبراهيم بلولة تعد المواطنة من أهم المفاهيم في الفكر الليبرالي كنسق للأفكار والقيم، ومن ثم تطبيقها في الواقع الاقتصادي والسياسي في القرون الأخيرة في أوروبا، وما ترتب عليها من آثار على البنية الاجتماعية والعلاقات السياسية في القرن العشرين والوقت الحاضر. وهي تشكل انتقالاً من الشخص – الرعية التابع المنفذ المطيع إلى الإنسان المشارك والمساهم في صنع الحياة المجتمعية بكل تعبيراتها، ولقد شكلت قطيعة مع القرون الوسطى في أنحاء المعمورة بالانتقال من الحق الإلهي إلى حق المواطن من المنظومة السياسية القائمة على الأقوى إلى منظومة تعتمد الاختيار الحر، والانتماء المشترك لمجتمع مدني.
إلا أن لفكرة المواطنة ارتباطاً بنشوء الدولة القومية والعلمانية، لذلك يجب العمل على ملء جزء من الفراغ الكبير وفتح باب الحوار حول هذا المفهوم لنستطيع بناء وعي حضاري إنساني جديد يسهم في تجاوز المجتمع العضوي إلى المجتمع المدني.
ولتتبع مصطلح المواطنة يجب العبور إلى الحضارات الشرقية السابقة للحضارة الإسلامية مثل الفرس والفينيقيين والبابليين، تلك الحضارات التي أعطت الرجل الكمال ونزعت عن المرأة حق المواطنة، وحصرتها على فئات من المجتمع دون فئات أخرى.
ولتحليل هذا المفهوم من خلال التجربة التاريخية للدولة الإسلامية من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحديث، يجب أن يحدد مفهوم المواطنة من خلال الرؤية الحقوقية والسياسية له وليس من خلال المنطقة الجغرافية والمكانية. فليس في الإمكان الدخول إلى مفهوم المواطنة في الإسلام من دون تتبع ثنائية الإسلام – الكفر وعبر هذه الثنائية يمكننا تحديد الشخصية الحقوقية في الإسلام، وهذه الشخصية التي تعتمد على معطيات قرآنية ومجتمعية تاريخية، ويجب تحديد كيفية تعاطي هذه الشخصية مع التكفير وتبعاتها على أرض الواقع، لأن الكفر ليس قضية بشرية وإنما مشيئة ربانية كما في قوله تعالى: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (يونس: 99)، وقوله تعالى: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف: 29).
في حين نرى أن التاريخ والفقه الإسلامي كانا أقل رحمة بالناس من النص القرآني كما كانت الكنيسة أقسى من يسوع، وأن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإرساء معالم الدولة في المدينة كانت مرحلة حاسمة في تاريخ تطور مفهوم المواطنة، وذلك بسبب ظهور أول وثيقة مكتوبة تتناول أسس المواطنة في التاريخ العربي والإسلامي، وتقر بالمساواة والمناصرة بين المسلمين وغيرهم، وتقيم علاقات قائمة على البر والنصيحة، وتنظم العلاقات القانونية والجنائية وفق الأعراف العربية بغض النظر عن الدين. وفي الإمكان اعتبار تصنيف عمر بن الخطاب أكثر أشكال الانتماء والمواطنة وضوحاً. إلا أن التحول من مفهوم الجماعة إلى مفهوم الإمبراطورية خلال المرحلة الأموية ألحق أكبر الضرر بمفهوم المواطنة في التجربة الإسلامية؛ بسبب تحول هذا المفهوم من المنطق الديني إلى المنطق السياسي السلطوي. ولذلك نجد أوائل ما أوضحته الإمبراطورية الأموية ونجود مواطنة عربية إسلامية موالية للحاكم وبيئة عربية نصرانية محايدة أو مقربة، ومواطنة عربية إسلامية معارضة أو مبعدة عن بطانة الحكم ومحرومة، فكان التمايز بين المواطنين المسلمين على أساس الولاء للحاكم لا الولاء للدين، وقد بقي ذلك حتى الخلافة العثمانية. وتم بذلك كسر المبدأ في الممارسة، والأسس الأولى التي قامت عليها المواطنة في المجتمع العربي الإسلامي ليأخذ العامل الديني في تحديد المواطنة أقل أهمية من العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في تحديد وضع الشخص ضمن المجتمع المسلم.
وتداخل فتوى الفقيه مع المشروع السياسي أحدث خللاً إذ يميز الفقهاء في الحقوق السياسية، فلا حق عند الفقهاء لغير المسلم في الخلافة أو المشاركة في اختيار الخلفية، ولا أن يشغل وزيراً مفوضاً أو منصباً في القضاء أو أي منصب حساس، ويميز الفقهاء أيضاً في الحقوق الاجتماعية فلا يتساوى المسيحي واليهودي مع المسلم.
وبالانتقال إلى الأزمنة الحديثة لمتابعة تعريف وواقع المواطنة مع ولوج الرأسمالية الغربية يتطلب أن نحمل معنا من التاريخ العربي الإسلامي فكرتين هي أن التميز بين الناس في ظل تعبيرات الخلافة المختلفة كان على أساس السياسة العامة للخليفة وبطانته أكثر من الممارسات الإسلامية في العقود الأربعة الأولى لظهور الإسلام، وأن رجال الدين قد أخذوا من ممارسات الخلفاء أكثرها تزمتاً بحق غير المسلمين ومن ينتمي لغير طائفتهم في بلورتهم لوجهات نظرهم في شأن تعريف الشخص في دار الإسلام مما ابرز تشنجاً ومبالغة في موقفهم في شأن المرأة والأقليات غير الإسلامية. ولهذا يجب تحديد مفهوم الجنسية والدولة – الأمة، فليس في الإمكان تحمل أي أيديولوجية (قومية أو غيرها) قائمة على النبذ تدعم تفوق العرق أو الدين أو الشعب، أو أيديولوجية ترفض المقومات الأساسية لحقوق الإنسان باسم الخصوصية. والمراقب للتحولات الاجتماعية في بلادنا سيجد أن نزعات التعصب الضيق سواء عشائرية أم سياسية، أم التحيز الديني غالباً ما تتم نتيجة غياب مفهوم المواطنة، الذي يعتبر الوعاء الحقيقي لقيم التسامح والحرية والوصول إلى الديمقراطية الحقيقية، الديمقراطية التي بمرتكزاتها القانونية تعزز صلات فئات المجتمع مع بعضها البعض، وتقصي جانباً منطق الثأر والاستقواء، وتحيي قيم التسامح على قاعدة المواطنة الحقة للجميع(1).
موقف الإسلام من مبدأ المواطنة
تعتبر صحيفة المدينة، هي أبرز ما يواجهنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيما ينظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، وبخاصة اليهود؛ حيث إنهم الفئة الوحيدة المخالفة للمسلمين عقيدة من أهل الكتاب في المدينة. ولنتأمل النص لنرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمد فيها مبدأ المواطنة، بحيث وضعت فيه الحقوق والواجبات على أساس المواطنة الكاملة التي يتساوى فيها المسلمون مع غيرهم من ساكني المدينة المنورة ومن حولها، ومن هذا الدستور نقرأ هذه المواد:
1 - هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب)، ومن تبعهم فَلحق بهم وجاهد معهم
2 - إنهم أمة واحدة من دون الناس.
3 - وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم.
4- وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
5 - وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
6 - وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
7 - وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
8 - وإن ليهود بن جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.
9 - وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
10 - وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
11 - وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
12 - وإن لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم.
13 - وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
14 - وإن بطانة يهود كأنفسهم. (بطانة الرجل: أي: خاصته وأهل بيته).
15 - وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
16 - وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.
17 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
18 - وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
19 - وإن الجار كالنفس غير مُضار ولا آثم.
20 - وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبٌ إلا على نفسه، وإن الله على ما أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
21 - وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، إنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
لقد اعتبرت هذه الوثيقة اليهود من مواطني الدولة الإسلامية، وعنصرًا من عناصرها؛ ولذلك قيل في الصحيفة: "وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم"، ثم زاد هذا الحكم إيضاحًا، في فقرات أخرى فقال: "وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين... إلخ (3).
وهكذا نرى أن الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب، الذين يعيشون في أرجائه مواطنين، وأنهم أمة مع المؤمنين، ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم، فاختلاف الدين ليس - بمقتضى أحكام الصحيفة - سببا للحرمان من المواطنة (4). كما عملت هذه الوثيقة على استبدال مفهوم الفرقة والصراع بين الشعوب والقبائل؛ بمفهوم الأمة القائم على الوفاق والتعايش مع حفظ الخصوصيات، حيث تكوَّن لأول مرة في المدينة مجتمع تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين والجنس، ولكن تتوحد فيه علاقة الانتماء إلى الأرض المشتركة، هي أرض الوطن (5). ورسخت الأيام والمواقف هذا الاتفاق بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود، وإن قابله اليهود بالغدر والخيانة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل على خلقه الكريم معهم، في تمسكه ببنود هذه الوثيقة.
السياق التاريخي للمواطنة عند فقهاء المسلمين
وترسخ هذا الفهم في نفوس المسلمين جميعا؛ لأنه شرعتهم ودينهم، فرأينا جيل الصحابة، وعصر الخلفاء الراشدين -خاصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه- يترسخ فيه هذا المعنى ويتأكد، ومن ذلك موقف القبطي الذي تشاجر مع ابن عمرو بن العاص والي مصر، وموقف عمر من هذا الخلاف. ولما عرَّض أبو لؤلؤة المجوسي في كلامه بما يفصح عن نيته قتل عمر، واقترح أحد الصحابة سجن أبي لؤلؤة رفض عمر بن الخطاب هذا الاقتراح؛ لأنه لم يرتكب جُرْما(6).
ثم تجلى تطبيق مبدأ المساواة أكثر على يد فقهاء المسلمين، فرأيناهم يجيزون للمسلم أن يتصدق من ماله على غير المسلم، وأن يعطيه من النذور والكفارات، مستشهدين بآيات من القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى: "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا" (الإنسان: 8)، والآية مكية، وقد كان الأسرى حينئذ من أهل الشرك (7)، بل رأينا من أئمة التابعين من أعطى الرُّهبان من صدقة الفطر(8)، على ما تمثله صدقة الفطر من أهمية كبرى عند المسلم من عدة جهات.
ورأينا فقيها كشيخ الإسلام ابن تيمية، يضرب أروع مثل لتطبيق مبدأ المواطنة، والحفاظ على أخوة الوطن الواحد، لا فرق فيه بين مسلم وغير مسلم، وذلك عندما أُسر عدد من المسلمين وغير المسلمين عند ملك التتر، فكتب رسالة لملك قبرص يشرح له موقفا حدث له مع ملك التتر عندما أسر عنده مجموعة من أبناء الوطن، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية لملك قبرص المسيحي: (نحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة؛ أعظم ما عُبد الله به: نصيحة خلقه. وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى، وأطلقهم (غازان) فسمح بإطلاق المسلمين، قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يطلقون، فقلت له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذِمَّتنا، فإنا نَفْتَكُّهُم، ولا ندع أسيرا من أهل المِلَّة ولا من أهل الذمة، وأطلقنا من النصارى من شاء الله، فهذا عملنا إحساننا، والجزاء عند الله (9).
وعندما جاءت الحملات الصليبية لغزو بلاد المسلمين والعرب، في تسع حملات، لم يسمها المؤرخون المسلمون بالحملات الصليبية، لعدم جرح شعور غير المسلمين من أهل الصليب، بل سموها حروب الفرنجة؛ لأنهم علموا أن الغازين لم يستهدفوا المسلمين فقط، بل استهدفوا العرب جميعا للسيطرة على بلادهم وخيراتهم، وحارب المسلمون وغير المسلمين معا لصد هذا الغزو، وأصر مؤرخو أوروبا على تسميتها بالحروب الصليبية.
نصوص ومواقف تثير شبهات
على الرغم من هذه الصفحات المشرقة من النصوص الإسلامية، والمواقف الثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ثم للأئمة الأعلام من بعدهم، في حسن تعاملهم مع غير المسلم في المجتمع الإسلامي، إلا أن هناك مواقف ونصوصا ربما أثارت شكوكا حول صحة ما أثبتناه من تسامح إسلامي في التعامل مع غير المسلم، ونورد بعضا من هذه النصوص والقضايا على عجالة.
أ - المادة الثانية من الدستور المصري: وهذه قضية يثيرها العلمانيون وبعض من يجهل الشريعة الإسلامية، فيقول: وما ذنب غير المسلم أن يُحكم بشريعة غير شريعته، وأن ينص في دستور بلاده: أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، أليس ذلك من باب عدم مراعاة مبدأ المواطنة، بل يتعارض تعارضا تاما معه، بل ربما ينسفه نسفا. وجوابنا: أن هذا القول لا يصدر إلا عن واحد من اثنين: إما إنسان يجهل الإسلام جملة وتفصيلا، أو إنسان يشوه الإسلام، ويريد طمس معالمه وحقائقه جملة وتفصيلا.
إن من المعلوم لكل دارس للشريعة الإسلامية، ومن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم للحدود في دولة الإسلام، أن هناك تفرقة بين ارتكاب المسلم للحدود، وبين ارتكاب غير المسلمين للحدود فيما بينهم، أو في خاصة نفسه، فمثلا: لو أن مسلما شرب الخمر فحده في الإسلام الجلد، ولو شربها غير المسلم وكانت شريعته تقضي بأن الخمر حلال، فليس للحاكم المسلم أن يقيم الحد عليه، وهذا باتفاق الفقهاء.فكل ما هو حلال في شريعة غير المسلم لا يعاقب عليه وإن كان حراما في الإسلام، ولو أن مسلما كسر زجاجة خمر لغير مسلم يفتي معظم الفقهاء بتضمينه، وعليه دفع ثمنها له، على الرغم من التحريم الشديد في الإسلام للخمر، وكل ذي صلة بها.وكذلك لو زنى غير مسلم بغير مسلمة فيحكم بينهما بشريعتهما لا بشريعة الإسلام، إلا إذا طلبوا هم حكم الإسلام فيهم، وارتضوه، على عكس لو سرق غير مسلم مسلما عندئذ يطبق عليه شريعة الإسلام.
ومن مفاخر تراثنا في الدولة الإسلامية أن وجدت كتب عنيت بالكتابة في التشريع الخاص باليهود والنصارى، فرأينا كتاب (المجموع الصفوي) لابن العسال، وهو كتاب في التشريع اليهودي، وكتاب (الأحكام الشرعية في الأحوال الشرعية)، وكتاب (الخلاصة القانونية)؛ وهما في التشريع المسيحي.
ب - الجزية وختم غير المسلمين: ومن القضايا الحساسة التي تثار أيضا، قضية الجزية، وما ورد في كتب التاريخ من ختم غير المسلمين على أجسادهم. وبداية نود أن نقول كلمة يساء فيها إلى الإسلام والنظام الإسلامي، عندما تذكر كلمة الجزية؛ وكأنها سبة في جبيننا كمسلمين أو كنظام إسلامي، إن الجزية اختراع غير إسلامي، لم يخترعه الإسلام ولا المسلمون، بل جاء الإسلام فوجد الجزية نظاما موجودا بين الناس، شأنه في ذلك شأن الرِّق، فهو من مخلفات العصور التي سبقته، وقيل: إن الجزية فارسية معرَّبة وأصلها (كزيت) ومعناها: الخراج الذي يستعان به على الحرب، وأطال العلامة شبلي النعماني المؤرخ الهندي في الاستدلال على ذلك في رسالة خاصة نشرت في مجلة (المنار)، ومما استأنس به في ذلك: أن التاريخ يثبت أن كسرى هو أول من وضع الجزية، فالجزية نظام فارسي، وليس مبتكرا من الإسلام(10).
لقد كان عقد الذمة الذي يعقد قبل الإسلام يجعل الذمي في ذمة العاقد، أما الإسلام فجاء واحترم آدمية الناس، فجعل عقد الذمة في ذمة الله ورسوله، ليعلم كل من يخرق هذا العقد أو يعتدي على غير مسلم أنه اعتدى على حرمات الله ورسوله؛ ليجمع الإسلام على المعتدي المسلم بين عقاب الدنيا والآخرة.
كما أن ختم غير المسلمين في رقابهم بختم، أو تعليق قطعة نحاسية على صدورهم لتمييزهم، ليس من اختراع المسلمين أيضا، بل هي عادة قديمة ترجع إلى عصر الآشوريين الذين كانوا يعلقون في رقاب العبيد قطعة من الفخار أسطوانية مكتوبا عليها اسم العبد واسم سيده(11). وكان اليهود في عهد التلمود يعلمون عبيدهم بالختم في الرقبة أو الثوب(12).
ومع ذلك عندما نقل المسلمون هذه العادة، لم يقصدوا بها الإساءة، بل ميزوا بها من دفع الجزية ممن لم يدفع، حتى لا يعاقب من دفع بالخطأ، وكانت تعلق في رقبتهم علامة تسمى علامة البراءة (13). أي أن تمييز غير المسلم له أهداف، ومنها: تمييزه بعلامة حتى لا يظن أنه محارب، وهذا آمَنُ له، ولما عرف لم يشترط ذلك. وقد يسلم القارئ بعد بيان ما مضى من أن الجزية اختراع غير إسلامي، ولكن يشوش عليه ورود نص في القرآن الكريم يدعو لأخذ الجزية من غير المسلم في صورة كلها مهانة ومذلة، وهو قوله تعالى: "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (التوبة: 29). فتفسير (اليد) في قوله: (عن يدٍ) بالقدرة، وفي نصوص القرآن واللغة ما يؤكد هذا المعنى، وقد رأيتهم في عهد خالد لصاحب قس الناطف قوله: "على كل ذي يد" أي قدرة. وأما قوله: (وهم صاغرون) فيتحتم تفسير الصَّغار هنا بالخضوع لا بالذلة والمهانة، ومن معاني الصَّغَار في اللغة: الخضوع، ومنه أطلق (الصغير) على الطفل؛ لأنه يخضع لأبويه، ولمن هو أكبر منه، والمراد بالخضوع حينئذ: الخضوع لسلطان الدولة (14).
ج - رئاسة غير المسلم دولة ذات أغلبية مسلمة: بقيت مسألة تولي غير المسلم لرئاسة الدولة ذات الأغلبية المسلمة، والحقيقة أني تأملت في هذه المسألة في ضوء النصوص القرآنية والنبوية، وفي ضوء فقهنا الإسلامي، ولي فيها رأي، لعل الكثير من القراء لا يتفق فيه معي، وهو: أن قضية رئاسة الدولة والتصور والتكييف الفقهي للدولة لم يعد كما كان على عهد أسلافنا من الفقهاء القدامى، فليست الدولة القديمة ببساطتها، ومحدودية أركانها، كما أضحت الآن، فهذا التصور الفقهي للدولة المعاصرة لم يعاصره فقهاؤنا القدامى؛ ولذا علينا أن ننتبه إلى أن الاستشهاد بكتب الأسلاف في هذه المسألة لن يسعفنا كثيرا، فكل من سيتناول هذه القضية سيلجأ إلى كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي، أو للقاضي أبي يعلى، وأقصى ما سمح به أحدهما وهو الماوردي أن قسم الوزارات إلى وزارتين، وزارة تفويض ووزارة تنفيذ، ولم يبح لغير المسلم من تولي المناصب فيها إلا وزارة التنفيذ، وهي وزارة لا يملك فيها صلاحيات الإنشاء، والإبداع، والحكم المستقل. فالماوردي وكل فقهائنا القدامى أصلوا لعصرهم وزمانهم، فكل واحد منهم خاطب زمانه، وأصل لكل أمر فيه بما يتوافق مع هذا الزمن.
ولنتأمل القضية من حيث النظرة للنصوص، ومن حيث الواقع المعيش، إن النصوص التي تساق لمنع غير المسلم من تولي الرئاسة هي نصوص عامة لم ترد في مقام الرئاسة تحديدا، مثل قوله تعالى: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا" (النساء: 56). أما الواقع الذي نعيشه، فهو الآن لم يعد شخصا وحده يحكم، بل هناك مؤسسات كاملة هي التي يناط بها إدارة الدولة، والحاكم ما هو إلا ترس في آلة كبيرة. في الماضي كانت الإمامة لها دلالة دينية، فالإمام أو الخليفة أو الحاكم هو الذي يؤم الناس في الصلاة، ويقضي بين المتخاصمين، ويقيم الحدود. ثم رأينا أئمة الماضي من الأسلاف قاموا بتوزيع هذه المهام على موظفين أو عمال في الدولة الإسلامية، فإمامة الصلاة وخطبة الجمعة، خصص لها العلماء والخطباء وأئمة المساجد، وأجريت لهم أوقاف تنفق عليهم، والقضاء بين المتخاصمين، خصص له قضاة يتولون أمره، وإقامة الحدود ترك للسلطة التنفيذية في الدولة، تقوم مقام الحاكم، أي أن كل هؤلاء صاروا نوابا عن الحاكم، ولم يعد للإمام أو الخليفة إلا إدارة الأمور السياسية في البلاد، وأيضا الأمور الحربية تترك لمسئولين عن الحرب، وإن كان قرار الحرب يعود في النهاية للحاكم.
وحتى الشروط التي وضعها العلماء في الخليفة هي شروط تخاطب حاكما يجمع بين علمي الشريعة والسياسة، فشرط فيه أن يكون من أهل الاجتهاد في الفقه، ولا يوجد من علماء الشريعة الآن في العصر الحديث استكمل شروط الاجتهاد! هذا إن بحثنا في إطار علماء الشريعة. وقد استشهد أحد المتشددين على المفكر الإسلامي أبي الأعلى المودودي حينما أيَّد ترشيح فاطمة خان لرئاسة الجمهورية في باكستان، بقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" فرد عليه المودودي بقوله: وهل يفلح قوم ولوا أمرهم طاغية؟! إشارة إلى أن المطلوب الحاكم العادل أينما توافر ووجد.
وما أراه: أن على كل ذوي التوجهات الإصلاحية في المجتمع السعي إلى دولة المؤسسات التي يصبح فيها الحاكم مجرد منفذ للدستور، وحامي للقانون، وحارس للقيم، بحيث يكون كأشبه بمن يملك ولا يحكم، أو هو ترس في آلة كبيرة هي المؤسسات الحاكمة، لا تتوقف عنده أَزِمَّة الأمور في الدولة، بحيث يصبح الفرد الذي يتصرف في كل أمر، وبيده كل شيء، بيده يعدل أو يظلم، يكبت الحريات أو يهبها. ونحرص على توافر الضمانات التي تمنع استبداد الحاكم أو ظلمه، والتي تحفظ على الأفراد والمؤسسات حقوقها وصيانتها، وتحفظ على الحاكم مكانته وتعينه على أداء رسالته، وليترك للشعب قراره، عن طريق صناديق الاقتراع، وليختر من يلبي له مصلحته العامة، ويحفظ عليه كيانه وحضارته وتقدمه، وليرض الجميع بما تأتي به صناديق الاقتراع الحر، الذي لا تشوبه شائبة تزوير ولا تلاعب، وليكن من يكون فتأتي به صناديق الاقتراع، رجلا كان أو امرأة، مسيحيا أو مسلما، أو علمانيا أو ليبراليا، أو كائنا من يكون، المهم: أن نوجد نظاما يلتزم به الجميع، ويشرف على تنفيذه الرئيس المنتخب، ويجد على رقبته سيف رقابة الجماهير، وأعينهم المفتحة، فإن أصاب: شكروه، وإن أخطأ قوموا خطأه عبر قنوات التقويم الشرعية والقانونية.
مصدر هذه الأخطاء
لا شك أن القارئ بعد قراءته لهذه الصفحة من التسامح والتعامل المثالي من الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، تجعله يقف ليتساءل: فلماذا إذن جاءت هذه النظرة الإقصائية لغير المسلمين، والتي شاع فيها الإمعان في نشر صورة تدل على تعمد الإذلال في أدبيات بعض كتابات المسلمين.
وفي رأيي: أن هذه النظرة الإقصائية الخاطئة التي نراها في كتبنا التراثية، وفي بعض السلوكيات المعاصرة نتجت عن عدة أسباب فيمن تولوا التنظير للقضية قديما وحديثا، وهي:
1 - ترك المُسلَّمات والعموميات والأصول الإسلامية: فمن الخطأ القاتل الذي وقع فيه كثير من الباحثين: أنه لجأ للمتشابهات، والنصوص الجزئية مهملا كليات الإسلام، والتي قام عليها تشريعه وحضارته، وهي تعتبر أمهات الفضائل، وعوامل وحدة فهم الأمة للإسلام، من قضايا كلية لا يختلف عليها اثنان، من نحو: البر والعدل والمساواة، فيترك العمل بقوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" (الممتحنة: 8). والبر أعلى درجات الخير، والقسط أعلى درجات العدل، ليلجأ إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبدءوهم بالسلام، وضيقوا عليهم في الطرقات" وهو خاص بالحالة الحربية، لا حالة السلم.
2 - عدم ربط النصوص بدلالاتها الحقيقية وملابساتها: كما وقع للأسف بعض الباحثين في الاستشهاد بنصوص لم يقف على عللها، ولا أسبابها، ولا دلالات النصوص، كاستشهادهم بقوله صلى الله عليه وسلم عن اليهود: "لا تبدءوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيق الطرقات" وهو حديث ورد في حالة حرب النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود. ومن دلائل رحمته وسماحته في الحديث: أنه لم يقل: اقتلوهم؛ لأنهم أهل حرب لم يشهروا السلاح (15).
3 - إعطاء الحدث التاريخي حجم النص الشرعي: وهو أمر خطير جدا في الاستدلال الفقهي، والتأصيل الشرعي، وهذا عيب فئة من الكتاب والباحثين: أنهم جعلوا أحداث التاريخ مصدر تفكير، لا موضع تفكير، أو إن شئت قل: مصدر تشريع، فالتطبيق العملي من المسلم ليس تشريعا بحال من الأحوال، ولا يعطي صورة كاملة عن التشريع الإسلامي.
4 - إسباغ هالة من التعظيم والتقديس لأصحاب الآراء الفقهية: مع أن الأصل هو النص الشرعي، ورفع سيف اتفاق العلماء، وقول الجمهور في وجه كل مخالف لفكرهم؛ ولذا فرق علماء الإسلام بين أمرين هامين يصيبان دارس الإسلام بالبلبلة والتخبط في تكوين صورة صحيحة عنه وهما: الإسلام، والفكر الإسلامي، فالإسلام هو وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والفكر الإسلامي: هو فهم المسلمين لنصوص الإسلام من القرآن والسنة النبوية المطهرة، فالملاحظ أن كل ما ورد في هذه القضية من سوء فهم لمبدأ المواطنة معظمه نابع من كتب الفكر الإسلامي، وتطبيقات الحُكَّام، ولا نراه موجودا البتة في مصدري الإسلام المعصومين: القرآن والسنة.
ولنتأمل قضية واحدة من أهم القضايا التي تثار، وهي قضية بناء الكنائس، ولننظر إلى حيرة الباحث المسلم الذي يريد أن يصدر رأيا، سيرى تقسيم الفقهاء إلى البلاد التي فتحت عنوة، والبلاد التي فتحت صلحا، والبلاد التي مَصَّرَها (أي أنشأها وعمرها) المسلمون، وأنه بناء على هذا التقسيم يجوز للنصارى أن يجددوا كنائسهم أو ينشئوا كنائس جديدة أم لا.
وهي أحكام بنيت في معظمها على رد الفعل من غير المسلمين، أو بناء على أفعال صدرت منهم جعلت الريبة في الحكم تسود أحكامهم وأفكارهم، على خلاف عالمين مصريين عاشا في ظل مفهوم المواطنة، وتعاملا مع قضية بناء الكنائس وتجديدها بهذا المبدأ، وهما: الفقيه المصري: الإمام الليث بن سعد الذي يعد من أئمة المذاهب لا يقل علما عن مالك وأبي حنيفة، وعاصر مالكا، وكان بينهما مراسلات، والآخر عالم محدث مصري: عبد الله بن لهيعة، رأيهما في بناء الكنائس من أنضج الآراء؛ إذ يقولان: إن بناء كنائس النصارى، هو داخل في عمارة دار الإسلام(16).
5 - ضلوع بعض غير المسلمين في حوادث خيانة للدولة الإسلامية: مما جعل الحذر يقدم على حسن الظن، وبذلك يلجأ الفقيه المسلم إلى مبدأ سد الذرائع، أو ما يعلنه الفقهاء من القواعد مثل قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فدرء مفسدة الخيانة والإتيان من قبل غير المسلمين، يقدم على توليهم مناصب، أو إعطائهم الثقة الكاملة التي تجرهم إلى عدم الأمان.
6 - تدليل بعض الحكام للأقلية على حساب الأغلبية: كما أن من الأسباب المهمة حَيْف بعض حكام المسلمين بين الرعية، وميلهم إلى طبقة غير المسلمين وتدليلهم تدليلا زائدا عن المعقول، مما يوغر صدور المسلمين، ويتسبب في حالة احتقان بين المواطنين، حتى قرأنا للحسن بن خاقان الشاعر المصري الساخر قوله:
يهود هذا الزمان قد بلغوا غاية آمالهم وقد ملكوا
المال فيهم والعز عندهم ومنهم المستشار والملك
يا شعب مصر إني نصحت لكم تهودوا قد تهود الفلك(17)
7 - إرث الحقد التاريخي: في ممارسات غير المسلمين مع المسلمين في البلاد التي خرج منها الإسلام، كالأندلس (إسبانيا) مثلا، فقد خرج الإسلام منها على يد المسيحيين، وما تم بعد الطرد من محاكم للتفتيش، وتضييق على المسلمين في عبادتهم، ثم بعد ذلك تنصيرهم، وإجبارهم على ترك دينهم (18).
موقف الإسلام من أتباع الرسالات الإلهية الأخرى(19)
الأسس الأخلاقية: يتحدد هذا الموقف في ضوء أساسي واضح وهو : أن المسلمين ليسوا أوصياء على العالم بأسره خلافاً لما يتوهم الآخرون، وإنما هم أمناء على تبليغ مشتملات الدعوة الإسلامية في العقيدة والعبادة والشريعة والأخلاق والآداب، وهذا الأساس واضح المعالم في صريح القرآن الكريم الذي وجه النبي محمد صلى الله عليه وسلم في آياتٍ كثيرة منها قوله تعالى: "لست عليهم بمسيطر" (الغاشية: 22)، وقوله سبحانه وتعالى: "قل لست عليكم بوكيل" (الأنعام: 66)، "وما أنت عليهم بوكيل" (الأنعام: 107)، ودلت هذه الآيات على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا سلطان له على أحدٍ من الناس فكذلك أتباعه من بعده.
وينحصر دور النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من كل مسلم يبلغ حكماً شرعياً بتبليغ الرسالة لقوله تعالى: "وإن تولوا فإنما عليك البلاغ" (آل عمران: 20)، وقوله جل شأنه: "وما على الرسول إلا البلاغ المبين" (النور: 54). ولكن يجب التبليغ لإظهار الحق وإقامة الحجة على المقصرين من الناس بعدم الاستجابة، لقوله سبحانه وتعالى: "يأيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس" (المائدة: 67)، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه بالتبليغ بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر: نضر الله امرءاً أسمع مقالتي فوعاها، فأداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقهٍ غير فقيه، ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه).
وكذلك ليس القصد من نشره الدعوة الإسلامية في العالم تحقيق نزعة التفوق والغلبة. وحب السيطرة، فذلك أمر غير مرغوب فيه في شرعة الإسلام لقوله تعالى: "تتخذون إيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة" (النحل: 92). وليس من مقاصد الإسلام تحقيق مقاصد إسلامية، وجلب مكاسب مادية وأخذ ثروات الآخرين ونهب خيراتهم، وجباية شيء ظالم من أموالهم، فقد ألزم الله تعالي كل نبي بالترفع عن ذلك، كما جاء في عدة آيات تبين منهج قصص الأنبياء مع أقوامهم بعبارة واحدة في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام جميعاً وغيرهم: "وما أسألكم عليه من أجرٍ أن أجري إلا على الله رب العالمين" (الشعراء: 109)، ونفى القرآن الكريم عن نبينا عليه الصلاة والسلام قصد مطلب مالي من رسوم أو إخراج مالي في قوله تعالى: "أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خيرُ وهو خير الرازقين" (المؤمنون: 72)، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المسلمين وغيرهم عطاء واسعاً لا يخش منه الفقر، كقطيع غنم أو ما بين جبلين من الماشية أو مائة من الإبل، مما لم يألفه العرب وغيرهم من مثل هذا العطاء الجم الذي لا يخش فيه الفقر، يؤلفهم على الإسلام.
وقد عبر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لمن هذا المبدأ بقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان عن انس بن مالك رضي الله عنه: "إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً، ولم يبعثه جابياً".
سبيل الدعوة إلى الإسلام:
وسبيل الدعوة إلى الدخول في الإسلام غرس العقيدة بالمنطق والحجة والبرهان العقلي حتى يطمئن الإنسان إلى سلامة اعتقاده وقناعته دون أي مؤثر خارجي من إكراه أو إرهاب، أو إغراء مادي أو تسلط أ, بسط نفوذ ظالم لا يعتمد على تراض.
وإذا أثر غير المسلمين البقاء على دينهم، سواء في بلادهم والسلطة الحاكمة منهم لا من غيرهم، أو في بلاد المسلمين والسلطة للمسلمين، فلا يوجد أي مانع من هذا في شرعة الإسلام، ما دام الأمن والسلم والتعاهد والتعامل موفوراً، وتترك لهم الحرية فيما يدينون، وشعار المسلمين "لكم دينكم ولي دين" (الكافرون: 6). وقاعدة المسلمين: (أمرنا بتركهم وما يدينون) منهم أحرار في ممارسة شعائر دينهم والعمل بموجب عقائدهم. ولا يضيق عليهم في شيء. وذلك لتحقيق مفهوم التعايش الديني والأمني بين مختلف أتباع الأديان والمذاهب المختلفة وهذا وحده يؤدي للاحتكاك والاندماج، وتقديم كل فريق ما لديه، فينتشر الدين الحق، كما يحدث الآن في العالم الإسلامي وغيره، من غير إكراه ولا إلجاء، وهو المنهج الذي يريده الإسلام، خلافاً لتصور المستشرقين وأتباعهم الذين يزعمون أن الإسلام انتشر بحد السيف.
ضرورة التعايش
إن مبدأ التعايش الديني بين أتباع الأديان يقرره منهج الإسلام القائم على السماحة في التعامل مع المخالفين، والمسالمة مع المسالمين، والدفاع عن الوجود والحقوق ضد المعتدين و ما ينص عليه القرآن الكريم في آيتين واضحتين الدلالة وهما في سورة الممتحنة: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" (الممتحنة: 8-9). وذلك من أجل إيجاد مجتمع قوي متين، في جبهته الداخلية، مأمون الجانب من أعداء الجبهة الخارجية.
متطلبات التسامح والتعايش:
1/ الشعور بأن الناس جميعاً هم خلق الله وصنيعته وصبغته، أوجدهم ليبقوا ويتعرضوا للإفناء والدمار. وهذا يعني أن الإنسانية من أصلٍ واحد، وهم إخوة في الإنسانية، والأخوة تقتضي المودة ومحبة الخير للآخرين وإنقاذهم من الضلالة والانحراف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك)، قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: "والمراد بالمحبة إرادة الخير والمنفعة، والمحبة الدينية لا المحبة البشرية ولذلك يشير إلى عموم الأخوة، حتى يشمل الكافر والمسلم، فيحب لأخيه ما يحب لنفسه من دخول الإسلام، كما يحب للمسلم دوامه على الإسلام، ولهذا كان الدعاء بالهداية للكافر مستحباً" (20). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون).
2/ تحقيق مبدأ التكافل بين الأمة في مجتمع معين باعتباره ترجمة أو مظهراً للأخوة. وقد تحقق هذا المبدأ في دولة الإسلام، فكان جميع الرعية مشمولين به في أحوال العجز والمرض والشيخوخة والمحنة، لتوفير متطلبات الحياة العزيزة الكريمة، والرخاء والسعادة، فيرتاح الراعي والرعية.
3/ الإحساس بالمسؤولية عن الآخرين في دعوتهم إلى الخير والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، عملاً بموجب التبليغ عن الله تعالى، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته" (أخرجه أحمد والشيخان وأبي داوود عن عمر رضي الله عنه).
4/ الانطلاق من قاعدة المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، قال الإمام علي رضي الله عنه: "الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"(21)، وهذه المساواة قررها القرآن الكريم بنحو أشمل في مطلع سورة النساء مبيناً الوحدة الإنسانية في قوله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة.." (النساء: 1).
5/ إن الحرية تلازم تقرير مبدأ المساواة، فالناس جميعاً أحرار في اختياراتهم الدينية وغيرها، ولا يكون الحساب في الآخرة إلا على أساس هذه الحرية، فليس من العدل إطلاق الحساب على ما كره عليه الإنسان. لذا قال تعالى محذراً من التهاون والتقصير في اختيار طريق الخير، واجتناب طريق الشر: "يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور" (فاطر: 5)، وقال سبحانه وتعالى مهدداً المقصرين: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف: 29).
إشاعة المحبة والمودة والأمن والسلام
إن المجتمع الإسلامي ألا يعرف إثارة النعرات الطائفية والعنصرية والعرقية، لأن الدين لله وحده، والله وحده يحاسب عباده، ولجميع الناس الحق في حياة آمنة مستقرة، ويحرص المسلمون على إضفاء صفات المحبة والود مع الآخرين، وعلى ضرورة التزام وجود المجتمع الآمن، وتوفير الوداعة والمسالمة والتآخي الإنساني ليتفرغ الناس إلى واجباتهم الحياتية، ويتركوا كل معوقات النهوض والتقدم.
والدين الجامع وهو الإسلام هو الذي يجمع ولا يفرّق ويجتذب ولا ينفّر، وييسّر ولا يعسّر، ويعامل الناس معاملة إنسانية رحيمة، لأن المخلوقات كلهم عباد الله، والله أعلم بخلقه ويعلم ما هم عليه، وقد رضي بوجود التنوع والاختلاف لحكمة كما قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين" (الأنبياء: 107).
احترام حقوق الإنسان:
كرم الإسلام الإنسان ذاته بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو أصله أو عرقه أو انتمائه، فقال تعالى: "ولقد كرمّنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" (الإسراء: 70). وهذا يوجب على المسلمين احترام أي إنسان، واحترام حقوقه في الحياة والحرية والمساواة والرأي والتعبير والتعليم والتربية، والعمل والضمان الاجتماعي والتملك والمواطنة والتنقّل وتوابعها.
الحرص على التعارف والتآلف
إن دعوة الإسلام العالمية إلى ضرورة التعارف والتآلف بين الإنسان وأخيه واضحة في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، سواء بين المسلمين أو غيرهم لقوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليمُ خبير" (الحجرات: 13).
التعارف يقتضي التعاون والتعايش وتبادل الخدمات بين فئات المجتمع الإنساني، ويدفع إلى إشاعة أجواء الأمن والسلم والتفاهم والحوار، وتجنب ألوان الخصومات والمنازعات وإثارة الفتن، لأن هذه الظواهر تضعف المجتمع وتهدد كيانه وتجلب الضرر إلى الجميع، وتزرع الفرقة والأحقاد والضغائن بين صفوفه، مما يجعل الأمة مهزومة ضعيفة خائرة القوى أمام أعدائها، وقد حذّر القرآن الكريم من الفتنة العمياء في قوله تعالى: "واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصةً" (الأنفال: 25)، وحذر أيضاً من النزاع والتفرق وإهدار القوى في قوله تعالى: "وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا وتفشلوا فتذهب ريحكم" (الأنفال: 46).
التفرغ لبناء الكون وتقدم الحياة
الإنسان مطالب من ربه أن يبني الكون ويزيد العمران، ويعمل على تقدم شؤون الحياة، إقامة معالم المدنية والحضارة، أداء لمسؤولية الأمانة والقيام بالتكاليف الدينية والمدنية، وكلما عمل الإنسان لخير نفسه وأمته، كان مرضياُ عند ربه لقوله تعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون. وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنت تعملون" (التوبة: 150).
والعمل عبادة وسعادة، وثمرته طيبة، ولكن العمل يتطلب بيئة صالحة أو مناخاً مناسباً، وهو الاستقرار والأمان والسلام، ويكون ميراث العمل الصالح تقدم المجتمع والظفر برضوان الله، وإليه تشير الآيات في بعض تفاسيرها: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" (الأنبياء: 105)، أي أرض الدنيا، وقال آخرون المراد: الجنة. والعمل يتطلب بذل مختلف الجهود وتعبئة طاقات العمل كلها، من أي إنسان مسلم أو غير مسلم.
وحدة الإنسانية
الناس جميعاً أمة واحدة، وهم عباد الله تعالى، تعهدهم بالرعاية والعناية عن طريق النبوات والكتب الإلهية، ووضع لهم في نهاية إنزال الكتب بالقرآن المجيد منهجاً عقدياً وتعبدياً وإصلاحياً واحداً لإنقاذهم من الظلمات إلى النور، ومن الباطل إلى الحق، وخاطبهم الله تعالى بخطاب إلهي واحد وهو: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة: 21).
إن وحدة الخطاب الإلهي ووحدة المخاطبين متلازمان، فلا يصح أن يكون بينهم اختلاف على الدين والإيمان والعمل الصالح، والأخلاق، واستدعى ذلك أن يلتقوا تحت مظلة رسالة إلهية واحدة، وهي رسالة القرآن الكريم، ليحققوا لأنفسهم النجاة في عالمي الدنيا والآخرة، والسعادة وعز الدارين، فيكون كتابهم الإلهي الخالد الذي جسد كل مضامين الكتب السابقة هو القرآن الكريم، وانطبق عليهم قول الحق تبارك وتعالى: "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" (البقرة: 257).
ضرورة الاندماج المعيشي والانفتاح الحضاري
لغير المسلمين حق المواطنة في ديار الإسلام ما عدا الحرمين الشريفين مع الحجاز، وهم كالمسلمين في الحقوق والواجبات، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، فدماؤهم وأعراضهم وأموالهم مصونة لا يعتدي عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا من ظلم معاهداً، أو انتقصه أو كلف فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة" (أخرجه أبو داوود والبيهقي)، وقوله أيضا: "من آذى ذمياً فأنا خصمه، خصمته إلى يوم القيامة" (أخرجه أحمد والبخاري من حديث أنس). وحينئذٍ يتحقق الاندماج المعيشي بين المسلمين وغيرهم للحفاظ على كرامة الإنسان وعزته ومكونات شخصيته. ويتبادل المسلمون وغيرهم العلوم والمعارف والخبرات، ليتحقق الانفتاح الحضاري، وليرقى المجتمع، ويسعد الإنسان، ولتعم رحمة الإسلام جميع الموجودات، عملاً بقوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين" (الأنبياء: 107).
ومن أدل الدلالات على أن الإسلام دين يرعى الحضارة ويحافظ عليها، وأنه يحرم على المسلمين في المعارك الحربية التدمير لغير ضرورة حربية، ولا قطع الأشجار، أو تخريب العمران، كما جاء في وصية أبي بكر الصديق لقادة أحد جيوشه إلى الشام، والمستمدة من جملة وصايا نبوية: "وإني موصيكم بعشر؛ لا تقتلن امرأة، ولا صبيا، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، لا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكله، ولا تحرقن نحلاً ولا تغرقنه، ولا تفلل، ولا تجين" (أخرجه البخاري ومالك في الموطأ).
التعامل مع أهل الذمة: (22)
أما أهل الذمة من غير المسلمين الذين يسكنون في البلاد الإسلامية بعهد وأمان، فإن الإسلام يعترف بحقوقهم الإنسانية والمدنية؛ بحيث لا يبقي بينهم وبين المسلمين في ذلك فرق، إلا فيما يخل بتنفيذ شريعة الله تعالى في الأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح راحة الجنة، وإن ريحها يوجد مسيرة أربعين عاماً" (أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص). وكان من اهتمام الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحفاظ على حقوق غير المسلمين من أهل الذمة، أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتفقد أحوالهم ويتأكد من أن المسلمين لا يصيبونهم بأذى، فقد روى الطبري رحمه الله أنه قال لوفد البصرة: "لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى؟ قالوا: لا نعلم إلا وفاءا" (23).
وكان الوفاء بحقوق أهل الذمة من أكبر همومه رضي الله عنه قبيل وفاته. فالوصية التي أوصى بها رضي الله عنه الخليفة من بعده لم تغفل، على أنها وجازتها، من التأكيد على ذلك، فكان جملة وصيته أن قال: "وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفي بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم" (24). وقد روي عن سيدنا على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "إنما قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا" (25).
وما زال فقهاء المسلمون يؤكدون على الحكام أن يحسنوا التعامل معهم ويتفقدوا أحوالهم، فهذا الإمام أبو يوسف رحمه الله تعالى يوصي هارون الرشيد، فيقول في غير المسلمين من أهل الذمة: (وقد ينبغي يا أمير المؤمنين أن أيدك الله أن تتقدم بالرفق بأهل الذمة بنيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم والتفقد لهم حتى لا يظلموا، ولا يؤذوا، ولا يكلفوا فوق طاقتهم).
وهذا الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى، بلغه أن بعض أهل الذمة من سكان جبل لبنان خرجوا عن طاعة الأمير وأحدثوا أحداثاً، وعلى الشام يومئذٍ صالح بن علي، أحد قواد الدولة العباسية، فحارب جميع أهل الذمة في جبل لبنان لإجلائهم، فكتب الإمام الأوزاعي رحمه الله إلى صالح بن علي رسالة طويلة يلومه فيها على فعله، ومما كتب إليه نصه: "وقد كان من إجلاء أهل الذمة من أهل لبنان، مما لم يكن كمالاً عليه خروج من خرج منهم، ولم تطبق عليه جماعتهم، فقتل منهم طائفة ورجع بقيتهم إلى قراهم، فكيف تؤخذ عامة بعمل خاصة؟ فيخرجون من ديارهم وأموالهم؟ وقد بلغنا أن من حكم الله عز وجل أنه لا يأخذ العامة بعمل الخاصة... من كانت له حرمة في ذمه فله في ماله والعدل عليه مثلها، فإنهم ليسوا بعبيد فتقوموا بتحويلهم من بلد إلى بلد في سعة، ولكنهم أحرار" (26).
أسس أخلاقية:
وأما التشريعات التي تحكم المجتمع وتحدد علاقاته الخارجية خارج دائرة الأحوال الشخصية، فهي التي يحتِّم فيها الإسلام أن تكون وفقَ الشريعة الإسلامية، وشأن هذه الشريعة بالنسبة للأقليات شأن أي تشريع آخر ينظِّم الحياة الاجتماعية، فهو تشريعٌ جنائيٌّ ومدنيٌّ وتجاريٌّ ودوليٌّ، قائمٌ على أسس أخلاقية ترتضيها جميع الديانات، وهو من هذه الناحية أقرب إلى روح المسيحية أو روح اليهودية من التشريع الفرنسي الذي يحكمنا، والذي يستند إلى التشريع الروماني الوثني المادي أكثر مما يستند إلى روح المسيحية.
فما الذي يضير أية أقلية في أن يكون التشريع المدني والتجاري والجنائي مستمدًّا من الشريعة الإسلامية، ما دامت حرية الاعتقاد وحرية العبادة وحرية الأحوال الشخصية مكفولةً في النظام الإسلامي؛ لأن حمايتها جزءٌ أساسيٌّ في هذا النظام وما دامت مبادئ الشريعة الإسلامية تتضمن أُسُسًا للتشريع الحديث يعترف المشرِّعون المحدثون أنفسهم بأنها أرقى من التشريع المدني المستمدّ من التشريع الروماني؟!
أي فرق بين أن تستمدَّ الدولةُ تشريعاتها من الشريعة أو من التشريع الفرنسي بالنسبة للمسيحي مثلاً؟ إن القانون الفرنسي لا يكفُل له ضماناتٍ أوسعَ مما تكفل له الشريعة، ولا يمنحه في الدولة حقوقًا أكبرَ مما تمنحه الشريعة، والشريعة لا تمسُّ وجدانَه الدينيَّ ولا عبادتَه الخاصَّةَ ولا أحوالَه الشخصيةَ، بل تكفلها له وتحميها حمايةً كاملةً لا مزيد عليها.
وحتى في التشريع الجنائي والتجاري والمدني فإن ما يتعلَّق بالعقيدة وينبني عليها يلاحظ أن النظام الإسلامي فيه لا يجبر الأقليات على تشريع يمس عقيدتهم، فالإسلام مثلاً يحرِّم شرب الخمر على المسلمين، ويعاقب الشارب عقوبةً خاصةً، ولكن إذا كانت هناك أقلياتٌ تُبيح عقائدُها لها شربَ الخمر فإن الإسلام لا يعاقب هذه الأقلية.
والإسلام مثلاً لا يَعُدُّ الخمر أو الخنزير مالاً مقوَّمًا، فإذا كان الخمر أو الخنزير مِلكًا لمسلم وأُتلف، لم يكن على مُتلفه عقوبة ولا تعويض، فأما إذا كان مِلكًا لغير المسلم ممن يُبيح لهم دينُهم تجارةَ الخمر والخنزير فإن المعتدي عندئذ يغرم.
كذلك الزكاة، فهي معتبرةٌ في الإسلام ضريبةً وعبادةً في وقتٍ واحدٍ، ومن ثم لا يُكلّفها أصحاب الديانات الأخرى ما لم يرغبوا في أدائها، ولكنهم يدفعون مقابلها ضريبةً لا تحمل معنى العبادة؛ كي لا يُجبَروا على أداء عبادة إسلامية في الوقت الذي يجب أن يسهموا في التأمين الاجتماعي للأمة؛ لأنهم يتمتعون بثمرة التأمين الاجتماعي الذي فُرضت الزكاة من أجله ويتمتعون بالضمانات الاجتماعية عن طريق هذا التأمين.
وهكذا نجد النظام الإسلامي يلاحظ أدقَّ المشاعر الوجدانية لمعتنقي الديانات الأخرى، لا في الأحوال الشخصية فحسب ولكن كذلك في دائرة التشريع الجنائي والمدني والتجاري، وهي قمة لا يبلغ إليها أي تشريع أرضي من التشريعات الحديثة.
خاتمة
المواطنة والمحافظة على المكتسبات الوطنية وأمن الوطن واستقراره من أولويات الإسلام والدولة المسلمة، وقد وجدت مع أول أيام الهجرة،و بل مع بيعتي العقبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم بايع الأنصار على أن ينصروه ويؤوه، لكنه عليه السلام لم يأخذ منهم فقط، بل أعطاهم، والتزم لهم بشروط منها انه التزم بمدينتهم.
ثانياً: هاجر عليه السلام وفي المدينة وثنيون مساوون للمسلمين في العدد، ومع ذلك احتواهم حتى دخل أغلبهم الإسلام، وتحول البقية القليلة إلى منافقين.. كانوا يعادونه ويعلنون رفضهم، كما في قصة ابن سلول عندما قال للنبي عليه السلام "رأس الدولة" مستفزاً: "لا تغبروا علينا.." وقال أيضا: "أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول؛ فإن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه" (البخاري: 4- 1663) ومع ذلك احتواهم.
ثالثاً: وجد النبي عليه السلام اليهود يشكلون ميليشيات معارضة مسلحة ومدربة ومحصنة جداً، فتغاضى عن ذلك وشكل معهم وطناً واحداً، لهم فيه ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين بوثيقة وقع عليها الجميع، ومع ذلك استفزوه وشتموه وحرضوا عليه، فلم يحرك ساكناً حتى تحركوا عسكرياً وشكلوا خطراَ فعلياً، لا محتملاً على الدولة ومواطنيها مسلمهم ووثنيتهم.
رابعاً: ينسف النبي عليه السلام مقولة "أدونيس" وأمثاله من الجهلة بالتراث، والذي يدعي أن المواطنة في الدولة الإسلامية قائمة على الدين فقط، وان المواطن غير المسلم يقدم كل الواجبات مقابل بعض الحقوق، فيقوم عليه السلام بأخذ الزكاة من المسلمين، في الوقت الذي يعفي اليهود من كل شيء حتى الجزية، ويثري سلوكيات أمته مع الآخر فيعفي اليهود من واجب الدفاع عن المدينة رغم الاتفاق المبرم بينهم.
خامساً: يؤكد عليه السلام مفهوم الوطنية بأرقى صوره، عندما يقوم بإسقاط الجنسية الوطنية - لا الاخوة الإسلامية ولا الرابطة العقائدية - عن صاحبيه "أبي بصير" و"أبي دجانة" رغم ثنائه على دينهما وإخلاصهما وشجاعتهما في انتزاع حقوقهما بأنفسهما بعد صلح الحديبية.. يرفض صلى الله عليه وسلم إدخالهما ويحلا مشاكلهما مع جرائم قريش بأنفسهما، ويديرا أمورهما بأنفسهما بعيداً عن دولته الإسلامية. فعل عليه السلام ذلك بينما كان اليهود وعبد الله بن سلول وفريق عمله من المنافقين والوثنيين.. يتمتعون بحماية الدولة الإسلامية في المدينة، التزاماً ببنود صلح الحديبية الجائرة.
هذا التمايز بين الوطنية والأخوة الإسلامية التي لها حقوق أخرى عظيمة، تمايز يسبق الإسلام به ويسمو حتى على الأنظمة الديمقراطية. على سبيل المثال: (الفرق بين المواطن الفلسطيني المسلم واليهودي المهاجر في واحة الديمقراطية "إسرائيل") ومع ذلك فإن الغرب الآن وليس الأمس.. الغرب بديمقراطياته، وفي آخر نسخها، يقف خلف إسرائيل كي تكون دولة يهودية "دينية" فقط، تمهيداً لطرد ما تبقى من الفلسطينيين من المسلمين والمسيحيين.
إن المواطنة تنبني عليها الحقوق والواجبات وترتكز عليها مسألة المساواة داخل الدولة وترتبط بها الحياة السياسية عموما.
أن ما تم في فترة المدينة المنورة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هو نوع من إقرار حق المواطنة من ثم لابد من الاستعانة به في الحاضر.
والحديث على ما جرى في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين من بعده تنتهي للقول بأنهم أقاموا نوعا من العهد الاجتماعي بين مكونات المدينة التي كانت خليط من القبائل وأهل الأديان من اليهود والمشركين وغيرهم، على كل حال هذه الطريقة أقرب إلى الطريقة التوافقية.
وفى ظني أن المسالة تحتاج للبحث في نظرية لأصول الاجتماع الإنساني نفسه، كيف يمكن أن تحتاج للبحث في نظرية لأصول الاجتماع الإنساني نفسه، كيف يمكن أن يجتمع البشر سواء تعلق الأمر بالشر وهم بطبيعة الحال متمايزون من حيث الأعراف والأديان والثقافات ولكن فوق هذا وذاك يمكن أن يكون هنالك إمكانية لاجتماع هؤلاء الناس في اطر وكيانات سياسية تجمعهم تعبر عما هو مشترك بينهم وتحتفظ لكل المختلفين خصوصياتهم، وللكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا بأية مرجعية يمكن أن تتناول هذا التصور في أصول الاجتماع البشرى عند البشرية، بطبيعة الحال هنالك أكثر من خيار وبالنسبة لي وبحكم انتمائي للإسلام أحاول قدر الإمكان أن تكون الحلول مستلهمة من الأصول والمصادر الإسلامية، وفى ظني إننا كمسلمين إذا تجاوزنا تاريخ المسلمين وذهبنا إلى الأصول فإننا سنجد أن هنالك إمكانية للبحث عن قواعد للحياة المشتركة بين البشر مع الاحتفاظ لكل منهم بما شاء من ثقافة وقيم ودين ومعتقدات، وفى القرآن الكريم هنالك تمييز كبير ما بين مفهوم الاستخلاف الذي هو مفهوم عام لكل البشر بغض النظر عن الدين أو العرق وغيره، وهنالك أيضاً مفاهيم متصلة بالتمكين السياسي لولاية المؤمن القائمة على الإيمان، والتي تقوم على الدين والتي يسميها القرآن بمفهوم التمكين لذا يمكن أن تنشأ في مجتمع متنوع ومتعدد من حيث الأديان والأعراق، ومن حيث أننا بشر مستخلفون في الأرض بغض النظر عن الدين أو العرق، وهذا يضمن لهؤلاء أن يجتمعوا على أسس خاصة بهم قامة على الإيمان بما يؤمنون أنه الحق, ومن ناحية أن هنالك فرصة للحياة المشتركة للبشر ككل، وهنالك خصوصية للبشر عندما يجتمعون على أطر ثقافية دون أن يكون هنالك ثمة تعارض مابين المفهومين, وفى ظني أن المسألة تحتاج إلى تطوير لمفهوم المواطنة من خلال مرجعيات رصينة لأن أية محاولات لا تنطلق من مرجعية يطمئن لها العقل والإنسان ستكون قليلة الأهمية والفائدة.
الكاتب: د. إبراهيم محمد أحمد بلولة: عميد المركز الإسلامي الأفريقي بجامعة أفريقيا العالمية.
تقدم الكاتب بهذا البحث لدورة الانعقاد الثانية من "الندوة العلمية العالمية المتخصصة في قضايا الدعوة الإسلامية في السودان"، والمنعقدة تحت عنوان "حول الآفاق المستقبلية للدعوة الإسلامية في السودان"، والتي عقدت بالعاصمة السودانية تحت رعاية المجلس الأعلى للدعوة المنبثق عن وزارة الإرشاد والأوقاف".
هوامش الدراسة:
(1) أحمد طه، المواطنة في الإسلام – تراث الماضي ومستجدات الحاضر، نبأ نيوز، مارس 2006م.
(2) أنظر: مجموعة الوثائق السياسية ص 41-47 بتصرف.
(3) انظر: السيرة النبوية للدكتور محمد علي الصلابي (1/571).
(4) انظر: نظام الحكم لظافر القاسمي (1/37).
(5) أنظر: وثيقة المدينة.. المضمون والدلالة للأستاذ أحمد قائد الشعيبي ص 209.
(6) في وجود أبي لؤلؤة المجوسي في المدينة المنورة دليل على دفع ما يثار حول عمر بن الخطاب من أنه استأصل غير المسلمين، وأزالهم من الجزيرة العربية تماما، والمعلوم أن أبا لؤلؤة غير مسلم.
(7) انظر: فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي (2/710).
(8) انظر المصدر السابق.
(9) الرسالة القبرصية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص22. نقلا عن: ابن تيمية للعلامة الشيخ محمد أبي زهرة ص384
(10) انظر: مقال (الإسلام والجزية) للعلامة الشبلي المنشور في مجلة (المنار) في العدد
(11) انظر: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لآدم متز ص:75.
(12) المرجع السابق، ص: 89.
(13) انظر: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لآدم متز ص74.
(14) أنظر نظام السلم والحرب في الإسلام – للدكتور/ مصطفى السباعي ص 42،43، طبعة المكتب الإسلامي – بيروت.
(15) لم يضع الكاتب لهذا الحديث تخريجا بأصل الدراسة.
(16) انظر: تاريخ مصر وولاتها للكندي ص131. نقلا عن: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري للمستشرق الألماني آدم متز ص69.
(17) المصدر السابق.
(18) المصدر السابق.
(19) وهبة مصطفى الزحيلي، موقف الإسلام من أتباع الرسالات الإلهية الأخرى، مؤتمر مكة الثالث، يناير 2004م، ص 17 – 20.
(20 ) شرح الأربعين حديثاً النووية (ص 39).
(21)شرح الأربعين النووية
(22) نهج البلاغة (ص 111).
محمد تقي العثماني، سماحة الأحكام الشرعية في علاقة المسلمين بغيرهم، مؤتمر مكة المكرمة الثالث، 2004م، ص 294 - .296
(23) تاريخ الطبري، 4: 218.
(24) أخرجه البخاري في المناقب، باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان، رقم الحديث (13700).
(25) بدائع الصنائع، للكاساني 111:7.
(26) كتاب الأموال لأبي عبيد ص (184)، فقرة 466، 467، دار الكتب العلمية بيروت 1406هـ
المواطنة.. رؤية إسلامية سودانية
- التفاصيل