محمد أبوعبيد
مثل بناية متماسكة متراصة وجميلة تتداعى أمام أهلها طبقة طبقة ولم يبق منها إلا القليل حتى باتت على شفا صيرورة الأطلال. ذلكم حال لغتنا العربية التي لو نطقت ، وهي المنطوقة ،لصاحت في وجه أهلها فزعاً على ما آلت أليه من مكانة لدن أهلها . ليست هنا دعوة لاسترجاع سيبويه من لحده ،وعظامه رميم ،أو استنساخ الفراهيدي ، ولا فرض أحكام النحاة والصرفيين بالقوة، إنما إنقاذ ما تبقى من لغتنا العربية التي تهانُ من قبل أهلها ، ويُنكّل بها بأدوات القمع العربية ، بحجة أنها ثوب قديم عفا عليه الزمن .
إذا عفا الزمن على لغتنا العربية ، فإن الزمن لا يستثني أهلها ، فنصبح ممن عفا الزمن عليهم أيضاً ، فلا قيمة لقوم من دون لغتهم ، فكيف إذا كانت لغة من أجمل اللغات ، وأكثرها طرباً وجذباً في علوم الآداب . وأية قيمة تلك التي قد نكسبها إذا كان تباهينا الحاضر هو بإتقان لغات الغير وجهل لغتنا الأم ! .
لا تقليل من أهمية تعلم لغات الآخرين ، خصوصاً المسيطرة عالمياً حالياً ، وهي الإنجليزية . بل على العكس ، ثمة ضرورة جادة لتعلمها وإتقانها نظراً لأهميتها في العلوم الحالية ، وفي كل معاول التكنولوجيا العصرية التي لا ناقة للعرب فيها ولا جمل . بيْد أن تعلم الإنجليزية وأجادتها يجب ان لا يلغي اللغة الأم ومكانتها عند أهلها ، ويجب أن لا يكون هو "الباروميتر" الذي يقيس درجة تمدن وتطور الفرد العربي .
الأدهى هو حين يكون من منوط به الحفاظ على اللغة ، يلعنها بالأخطاء الفادحة مثل الكثير من صحفنا العربية حالياً ، والمواقع الإعلامية اللإلكترونية، وشاشات "فضائحيات" اللغة ،خصوصاً التي تكون العربية السليمة فرضاً فيها .
حالة أخرى تستدعي الأسف والحزن ، حين يرى المرء أطفالاً عرباً ناطقين بغير العربية ، وهم من آباء وأمهات عرب ، ويعيشون في أصقاع العرب . لو كانوا ينطقون باللغة العربية والإنجليزية وهم في نعومة أظفارهم لما كان ضرر ولا ضرار ، بل سيكون ذلك حقاً من مدعاة الفخر حين يعرف الطفل لغته ولغة غيره في آنٍ معاً . إنّ مثل هذه التنشئة الخاطئة للطفل تخلق في نفسه حالة من الضياع أو التشتت، فلا يعود يدرك إلى من ينتمي ، فالأنتماء إلى اللغة لا ينفي أبداً أن يكون المرء واسع الإطلاع على الغير ومدركا لغته وثقافته وحتى أسماء نجومه ولاعبي فرق كرة القدم عنده .
إن الجيل الناشىء عندنا ، يعرف أهل الفن في الغرب ، من سينما وتلفزيون وغناء ورقص ، ولا اعتراض على ذلك إن كان يعرف أيضاً من هم أبن خلدون والمتنبي ، وابن بطوطة وأحمد زويل ومحمود درويش . وليس المطلوب أن يحفظوا أشعارالبحتري ، ولا كتب القلقشندي ، ولا تاريخ ميلاد أبي تمام ،لكن على الأقل أن يعرفوا من هم هؤلاء ما داموا يعرفون من هي الليدي غاغا وبيونسيه وأيكون .
هناك بقية من لغتنا العربية فأنقذوها كي لا تندثر البقية وتصبح مجرد رموز يدرسها طلاب التاريخ والآثار كما يدرسون الرموز الهيروغليفية والأحرف المسمارية .
ستبكون على أطلالها إنْ لم تنقذوها
- التفاصيل