خديجة الزغيمي
عندما عرض علي السفر لموريتانيا لتغطية أعمال ندوة عن الصوفية لم أتردد كثيرا في الموافقة رغم أن السفرة جاءت بشكل مفاجئ ولم تتح لي الوقت للاستعداد بشكل كاف، كنت متحمسة جدا للذهاب إلى موريتانيا فهذه المرة الأولى التي أذهب فيها لمغرب عالمنا العربي، ما جعلني متشوقة لمقابلة شعب جديد بالنسبة لي لم يسبق أن تعاملت معه، والتعرف على عاداته خاصة بعدما قرأت الكثير عن الموريتانيين وتاريخهم وعاداتهم.
أول ما لفت انتباهي في الموريتانيين هو بساطتهم وتلقائيتهم، فهم يعيشون على سجيتهم يرتدون ما يريحهم ويجلسون بالكيفية التي توفر لهم أكبر قدر من الراحة.. الرجال يرتدون" الدراعة" الثوب الموريتاني التقليدي الذي يشبه الجلباب إلا أنه واسع جدا كما أنه مفتوح من الجانبين، ويرتدون أسفله سروالا وقميصا، وهم يرون أن الدراعة هي الرداء الأمثل الذي يناسب مناخهم الحار وكثيرا ما تراهم يرتدونها دون قميص دون تحرج ما دام هذا يحقق لهم تهوية أكبر.

والنساء يرتدين أيضا الزي التقليدي الذي يطلق عليه "الملحفة" وهو يشبه "الثوب" السوداني وهو عبارة عن قطعة كبيرة من القماش يلففنها حول أجسادهن بطريقة معينة ودون استخدام لأي خياطات أو أزرار أو دبابيس أو أي أداة تستخدم لتثبيته، والأقمشة التي تستخدم في الملحفة يراعى فيها أن تكون من تلك التي لا تشعر مرتديها بالحرارة.

الجلوس مستلقيا

وترى الموريتانيين في مجالسهم يتخذون الوضعية التي تريحهم دون مراعاة أي اعتبارات أخرى وغالبا ما يفضلون وضعية الاستلقاء على جنوبهم، وقد تعجبت من هذا في البداية، فوفقا لما تربيت عليه فإنه لا يليق على الإطلاق أن تجلس مع ضيوفك بهذه الوضعية، ويعد هذا عدم احترام لهم خاصة إذا لم تكن على معرفة قوية بهم، ولكنني عرفت بعد ذلك أن الأمور ليست بهذا الشكل في موريتانيا.

أما ما أثار دهشتي أكثر ولم أتمكن من استيعابه حتى الآن هو أن النساء كثيرا ما يتخذن وضعية الاستلقاء على جنوبهن أو حتى ينمن أمام الرجال دون تحرج سواء في المجالس المختلطة أو في النزهة، ربما لكونهن يتخذن هذه الوضعية وهن ملتحفات بشكل كامل بالملحفة يجعلهن لا يرين فيها حرجا.

ومن الأمور التي تظهر فيها تلقائية الموريتانيين ولعهم بالسؤال والاستفسار حتى عن الأمور الشخصية وهذا الأمر ربما يضايق الكثيرين ممن لم يعتادوا هذا الأسلوب، لكنني لم أتضايق منه لأنني كنت أعلم أنني سأقابل عادات وطرق تعامل مختلفة ووطدت نفسي على التكيف معها، كما أنني وجدت أن هذا الأسلوب سيكون مريحا لي، إذ كما تركتهم يستفسرون وأجبتهم دون إبداء الضيق أخذت أنا الأخرى أسأل واستفسر عن كل ما أريد.

وأعترف بأن هذا قد أعجبني فكثيرا ما تتحرق شوقا لمعرفة شيئا ما ربما لأنه يبدو غريبا بالنسبة لك وربما فقط يدفعك الفضول لمعرفته ولكنك تتحرج من السؤال لأنك لا تعرف كيف سيكون وقعه على من تسأله، ولكن في موريتانيا بدا كما لو أن جميع رغباتي المعرفية تتحقق أو فلتقل أن فضولي كان يتم إشباعه.

والسؤال الأساسي الذي كان لابد أن يطرح علي من الجميع رجالا ونساء وبدءا من أعضاء اللجنة المنظمة للمؤتمر الذي كنت أحضره وحتى صاحب المحل الذي كنت أشتري منه احتياجاتي هو؛ "هل أنت متزوجة؟" وعندما تأتي الإجابة بلا ينتقلون تلقائيا للسؤال التالي "ما قط تزوجتِ؟" وعندما يتلقون الـ"لا" الثانية يأتي السؤال الأخير "ليش؟" هنا أتوقف ولا أعرف بما أرد عليهم لأن أحدا لم يسألني هذا السؤال بهذه الطريقة المباشرة من قبل، ثم أستخدم الإجابة المعتادة عندنا "النصيب"، ولكن يبدو أنها لم تكن مقنعة للكثيرين.

وعلى الرغم مما يبدو في هذا الأسلوب من تدخل سافر في الأمور الشخصية فإنني وجدت أنه يعبر في النهاية عن الاهتمام الذي لا يتوقف عند معرفة تفاصيل حياتك الشخصية وإنما غالبا ما يستخدم هذه المعرفة في توطيد العلاقة وفي العمل على تحري ما يريحك.

ومن أكثر المواقف التي أثرت في أنني عندما عدت لمصر جاءتني مكالمة من رقم موريتاني غير مسجل لدي وعندما رددت سمعت صوتا مألوفا لكنني لم أتمكن من تذكره، كان الرجل يطمئن على وصولي ثم عندما وجد أنني لم أتعرفه قال لي أنا فلان، قلت من فلان؟ فإذا به صاحب المحل المجاور لمكان إقامتي في موريتانيا؛ كان قد طلب مني رقمي في مصر وربما أكون قد اعتبرت هذا الطلب غريبا بعض الشيء أو اعتبرته من الفضول الزائد إلا أنني في النهاية أعطيته الرقم وأنا بين الثقة من أنه لن يقوم أبدا بإجراء مكالمة دولية وبين التخوف من أن يمطرني بالرسائل أو يستخدم أسلوب الميسد كول المشهور عندنا، ولكنه فاجأني عندما اتصل فقط ليطمئن على وصولي.

فتيات في مواجهة "التسمين"

عندما رأيت النساء والفتيات الموريتانيات لم أجدهن على شاكلة الصورة التي رسمتها لهن من خلال قراءاتي والمعلومات التي كانت متوفرة لدي عن موريتانيا؛ فمن المشهور أن السمنة أو امتلاء الجسد من أهم علامات الجمال لدى المرأة الموريتانية وأن الأهل يجبرون الفتيات على تناول كميات كبيرة من الطعام حتى يصلن للجسد المثالي في تصورهم، ولكنني وجدت أجسام الموريتانيات خاصة المتزوجات لا تختلف كثيرا عن المصريات، وأن نسبة السمنة متقاربة جدا بين نساء البلدين وربما تكون أعلى في موريتانيا بين الفتيات غير المتزوجات ولكن ليست بالشكل الذي كنت أتصوره.

خديجة إحدى الفتيات اللاتي قابلتهن كانت شديدة النحافة، مازحتها قائلة إن أمها غير مسرورة بالتأكيد لنحافتها هذه فوافقتني وقالت أن أمها تقوم بمحاولات مضنية لدفعها لاكتساب المزيد من الوزن ولكنها تقابل هذه المحاولات بعناد.

صديقتي الأخرى خديجة أيضا حكت لي أيضا عن تجربتها في مقاومة التسمين قبل زفافها، إذ أن العادات تقضي بأن تذهب العروس قبل فترة من الزفاف إلى البادية لتتفرغ لتناول كميات كبيرة من الطعام لزيادة وزنها، وبما أن عائلة خديجة من العائلات المتمسكة بالتقاليد فقد كان من المتوقع منها أن تفعل هذا إلا أنها رفضت بشدة وتمسكت بموقفها.

يبدو أن معايير الجمال العالمية أو "المعولمة" بدأت تصل رويدا رويدا إلى موريتانيا، ولم تعد الأجيال الجديدة من الفتيات تقبل معايير الجمال التقليدية وأصبح لديهن أو لدى عدد منهن على الأقل الجرأة اللازمة لرفضها ولفرض رأيهم بعد أن كان يتم إجبارهن على تلبية تلك المعايير حتى وإن وصل الأمر لإرغامهن على تناول الطعام.

إلا أنه وبخلاف موضوع التسمين فإن الموريتانيين لا يزالون يتمسكون بتقاليدهم بشكل كبير ومنها تقاليد الزفاف وكان هذا مما أثار إعجابي لأنني سئمت من طقوس الزفاف شبه الموحدة التي أصبحت تسود الآن لدى كثير من الشعوب خاصة لدى المتمدنين منهم، وهي في معظمها طقوس الزفاف الغربية الحديثة مع تطعيمها بلمسة محلية وأهم علم على هذه الطقوس الموحدة هو رداء العروسين؛ البذلة السوداء في الغالب للعريس وفستان الزفاف الأبيض للعروس.

ومن أهم الطقوس التقليدية لاحتفالات الزفاف في موريتانيا أن تقوم صديقات العروس بإخفائها عن عريسها، ويتفنن في الذهاب بها لمكان يصعب على العريس التفكير فيه، فقد يحجزن لها في فندق أو حتى يذهبن بها إلى البادية ويكون على العريس وأصدقائه إيجادها، وعندما يتوصلون لمكانها بعد عمليات تحر مضنية، يكون عليهم مواجهة صديقات العروس اللاتي يرفضن تركها، ويتطور الأمر إلى شجار بين الطرفين يصل في الغالب إلى الضرب، وهو ما اندهشت له كثيرا إذ كيف يقوم رجال بمد أيديهم بالضرب على نساء، وعندما عبرت عن هذا لصديقتي قالت لي إن الأمر كله لا يعدو أن يكون مزاحا وهو التبرير الذي لم يكن مقنعا لي فهذا المزاح قد يصل لحد تمزق ملابس الفتيات أثناء الشد والجذب، وفي النهاية تترك الفتيات العروس ولكن بعد حصولهن على مبلغ معتبر من المال يستخدمنه بعد ذلك في إقامة حفلة نسائية للعروس.

ويحمل هذا الطقس أهمية كبرى للفتيات اللاتي يحلمن باليوم الذي يتم فيه اختطافهن بهذه الطريقة التي تحمل في طياتها تعبيرا عن مدى أهمية العروس والتقدير الذي يكنه لها أهلها وصديقاتها الذين من الصعب عليهم تسليمها لزوجها بسهولة، وكذلك عن مدى محبة العريس لها التي تتمثل في سعيه بشتى الطرق لمعرفة مكانها والرجوع بها.

فقد حدثتني صديقتي عائشة بأسى عن اختطافها الذي لم يتم لأن والدها كان يكن احتراما كبيرا للعريس ولم يرض له "البهدلة"، وبالتالي اتصل بصديقاتها وطلب منهن إعادتها مع وعد بإعطائهن ما يردن من المال، ثم اكتشفتُ بعد ذلك أن كل هذا الأسى كان على زواجها الثاني بينما أخذت تحدثني بحماس عن زواجها الأول التي تمت فيه كل الطقوس.

السواد لباس العروس

وفي يوم الزفاف يرتدي العريس الدراعة التقليدية البيضاء بينما ترتدي العروس ملحفة سوداء، نعم ما من خطأ فيما قرأته للتو ترتدي العروس السواد يوم زفافها، والأدهى من ذلك أنها لابد أن تغطي وجهها بالملحفة طوال فترة حفل الزفاف ولمدة ثلاثة أيام بعد الزفاف لا تكشف وجهها إلا أمام زوجها حتى صديقاتها تغطي وجهها أمامهن.

وعندما كنت أعبر عن إعجابي بتمسك الموريتانيين بتقاليدهم وخاصة في الزفاف ردت علي صالحة -إحدى صديقاتي التي كان قد مر على زواجها ثلاثة أشهر- بأنني لو جربت تغطية وجهي بالملحفة لثلاثة أيام متصلة فسوف أغير رأيي بالتأكيد، وعلى عكس عائشة التي كانت تتحدث باعتزاز وحماس عن تقاليد الزفاف الموريتانية بدت صالحة ناقمة على بعضها على الأقل؛ فلم تفهم السبب في أن تلتحف العروس بالسواد يوم عرسها وأن تكون على وشك الاختناق نتيجة تغطية وجهها طوال فترة العرس التي قد تصل لخمس ساعات، وأخبرتني عائشة أنها تحلم بارتداء فستان الزفاف الأبيض وأنها عبرت عن رغبتها هذه لزوجها الذي وعد بتلبيتها لها.

ويبدو أن الملحفة السوداء تحظى برمزية معينة لدى المتزوجات، فأثناء تجوالي مع عائشة لفتت نظرنا سيدة ترتدي ملحفة ببيضاء، وأخذت عائشة تقول إن لا شيء يضارع جمال الملحفة البيضاء ولكن للأسف على المتزوجات أن لا يكثرن من لبسها بل الأفضل لهن أن يكثرن من لبس السواد، وعندما سألتها عن السبب قالت لي إن هناك قصة مشهورة في موريتانيا تقول إن أحد الصحابة كان يحب زوجته جدا حتى أنه أهمل أعماله كي يظل إلى جانبها وعندما وجد أنه تعدى الحد الطبيعي ذهب يستشير الرسول صلى الله عليه وسلم فسأله الرسول أي لون تحب زوجتك أن ترتدي أجاب: السواد، فطلب منه أن يجعلها تكثر من لبس البياض وعندها خف عشق هذا الصحابي لزوجته؛ وبغض النظر عن صحة هذه القصة فالكثير من الموريتانيات متأثرات بها.

الطلاق أرحم من العنوسة

عندما بدأت في التعرف بعمق أكبر على من التقيت بهم من موريتانيين وموريتانيات لفت نظري ارتفاع نسبة الطلاق بينهم، فتقريبا خمسة من أصل ثلاثة عشر ممن تعرفت عليهم من النساء والرجال كانوا مطلقين، وقد قال لي أحدهم نسبة لا أعرف مدى دقتها هي أن نسبة 36% من الزيجات تنتهي بالطلاق؛ لهذا السبب كان الجميع عندما يعرف أنني غير متزوجة يسألني ألم أتزوج من قبل.

وقد حاولت صالحة أن تخرج بتفسيرات لارتفاع هذه النسبة فأرجعتها إلى التسرع في إتمام الزيجات من ناحية وإلى عدم استهجان المجتمع للطلاق، بل ذكرت أن البعض ينظر إلى من تزوجت عدة مرات على أنها امرأة مرغوبة وذات جاذبية كبيرة وقد تكون في بعض الحالات أفضل ممن لم يسبق لها الزواج خاصة لو كانت متأخرة عن سن الزواج.

وضربت صالحة المثل بإحدى معارفها التي كانت قد بلغت السابعة والعشرين دون أن تتزوج وبالطبع كانت أسرتها تتلهف على تزويجها لأول طالب وهذا ما حدث إذ بينما كانت الفتاة ذاهبة لجلب الماء عرض عليها شاب يقود سيارة أن يوصلها إشفاقا منه عليها كما قال لثقل حمولتها، ولكنها رفضت فما كان منه إلا أن تبعها وعرف مكان منزلها ثم جاءها في المساء بأهله خاطبا ووافق أهل الفتاة وتم العقد في اليوم التالي مباشرة، وبعد مرور عام على الزواج وبعدما رزق الزوجان بطفل تم الطلاق.

ربما يكون التسرع في الزيجة هو سبب الطلاق وربما يكون عدم تخوف الأسرة من أن ينتهي هذا الزواج إلى الطلاق هو سبب التسرع في إتمامه، خاصة أنهم قد يرون أنه من الأسهل أن تحصل ابنتهم على زوج وهي في الثامنة والعشرين إن كانت مطلقة عنها إن كانت عزباء.

ولا يبدو أن وجود الأطفال يشكل فارقا في حال عزم الزوجين على الطلاق فمعظم من عرفتهم من المطلقين لديهم أطفال، وفي حالة زواج كل من الوالدين مرة أخرى غالبا ما يربى الطفل بين أخواله أو أعمامه، ووفقا لما قالته لي مريم التي تدرس علم الاجتماع في جامعة نواكشوط فإن الدراسات التي تمت على هؤلاء الأطفال وجدت أنهم لا يختلفون عن أقرانهم الذين تربوا بين أبوين لأن تنشئتهم بين أقاربهم توفر لهم الجو الأسري اللازم للنشأة السوية، لا أعرف إن كان ما قالته مريم دقيقا أم أنه محاولة لإقناع النفس بأنه ما من مشكلة هنالك.

إسلام أون لاين

JoomShaper