الکاتب : أسرة البلاغ   
(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء/ 114).
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال/ 46).
المنازعات وحدوث المشاكل بين الناس ظاهرة ملازمة للمجتمع الإنساني، ولا يمكن أن يوجد مجتمع من غير أن تكون فيه مشاكل وخلافات ونزاعات وجرائم ومخالفات..
وتهتمّ الدراسات النفسية، ودراسات علم الاجتماع، والعلم الجنائي والفلسفة وعلم الأخلاق والتربية وغيرها من العلوم بدراسة الأسباب المؤدِّية إلى نشوء المشاكل والنزاعات والجرائم في المجتمع، والعمل على حلِّها ومعالجتها.. فإنّ أخطر ما يُهدِّد نظام الحياة وأمن المجتمع، واستقرار الوضع السياسي والإقتصادي، وسلامة الوضع النفسي للإنسان هو الجريمة والنزاعات والخلافات.. ويعمل القضاء والقانون والسلطة على حماية المجتمع وحلّ مشاكله عن طريق تسمية الفعل الجنائي وإنزال العقاب بالجاني.. أو حلّ المشاكل والنزاعات التي تنشأ بين الأشخاص بإرجاع الحقوق إلى أصحابها.. وفي حال تُركت النزاعات والخلافات من غير حلول ولا تسوية فإنّها تتطوّر إلى مشاكل جنائية، إذ يقدم البعض على ارتكاب الجريمة والإقتصاص من الخصم، واللجوء للثّأر..
إنّ سلامة المجتمع وأمنه واستقراره يكمن في الحيلولة دون حدوث المنازعات وارتكاب الجرائم، وحلّ المشاكل في وقت مبكِّر، قبل أن تتطوّر المشكلة، وتتحوّل إلى أزمة بين الأطراف أو جريمة يدفع الأفراد والمجتمع ثمنها الباهض..
من الأهداف الأساسية للأنبياء والمرسلين والرّسالات الإلهية هو (الإصلاح بين الناس).. لذا يُركِّز القرآن العناية، ويُثقِّف المسلمين على أهمية الإصلاح بين الناس، وحلّ المنازعات التي تحدث في المجتمع.. فليس من أخلاقية المسلم أن يكون متفرِّجاً على المشاكل والنزاعات، كأنّ الأمر لا يعنيه، بل هو مسؤول عن تحمّل تلك المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى.. عملاً بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
ونورد من نصوص هذه الثقافة القرآنية قوله تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ...).
النّجوى: هي حديث السِّرّ والخصوص بين المتناجين.. القرآن يشجب ويرفض مناجاة التآمر والعدوان ونشر الفساد ومقاومة الحق والعدل، وينزع من هذا الفعل العدواني صفة الخير، ويوجِّه إلى أنّ الخير هو في بذل الصدقة.. بذل المال للناس المحتاجين.. الفقراء والأيتام والأرامل والمرضى والعاجزين، والأمر بالمعروف لبناء المجتمع وتنميته وتطويره مادِّياً وإنسانياً، إذا ما حدثت المشاكل والمنازعات بين الناس، فالخير في ذلك.. وكلّ ذلك إصلاح.. والخير في الإصلاح بين الناس، وحلّ المنازعات بينهم، ولأهميِّة هذا العمل الإنساني الكبير يفضِّله الرسول صل الله عليه وسلم على المستحبّ من الصوم والصلاة.. ورد عنه قوله صل الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة.. إصلاح ذات البَيْن، فإنّ فساد ذات البَيْن هي الحالقة".
إنّ تصدِّي الأفراد المؤثِّرين في المجتمع، وإيجاد مؤسّسات ومجالس ومنظّمات مدنيّة محلِّية، تعمل على حلِّ المنازعات والإصلاح بين الناس، عند حدوث المشاكل والمنازعات قبل تطوّرها، وقبل وصولها للقضاء، لهي من أهمّ أعمال الخير التي يُقدِّمها الفرد والجماعة للمجتمع..
إنّ وجود مثل هذه المؤسّسات في الأسواق وفي القرى والأحياء، يساعد على حلِّ المنازعات وفضّ الخصومات، كالّتي تحدث في الأُسر، بين الزوج وزوجته، والتي كثيراً ما تنتهي إلى الطلاق، وهدم أركان الأُسرة وتضييع أبنائها.. أو تحدث بين الجيران والأقارب والمتعاملين في الأسواق؛ لأسباب مالية أو منازعات اجتماعية وعشائرية، أو بين الفلاحين بسبب المياه والأراضي... إلخ.
نقرأ عناية القرآن الخاصة في إصلاح المشاكل الأُسرية، وحلّ منازعات الأُسرة، عندما يعرض صورة من مشاكل الأُسرة، ويدعو لحلِّها صلحاً.. قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء/ 128).
ويرشد القرآن الكريم في آيات أُخر إلى آليّة عملية لحلِّ النِّزاع الذي يحدث بين الزوج والزوجة.. جاء هذا البيان في قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء/ 35).
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة/ 228).
وسجّل القرآن الكريم حادثة منازعات بين قبيلتين في عصر النّزول، وحدث بينهما خلاف وقتال.. وجّه المسلمين في ذلك الوقت، ودعاهم إلى أن يُسارعوا للإصلاح بينهم والوقوف بوجه المعتدي الذي يرفض الإستجابة للإصلاح وحلّ هذا النزاع.
(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات/ 9-10).
ويكشف القرآن دعوته للإصلاح بين الناس وحل المنازعات والخلافات، وإنهاء المشاكل بمبادرات اجتماعية، وجهود مدنية خارج دائرة القضاء..
إنّ القرآن يدعو المسلمين إلى البرِّ، وهو المعروف والإحسان، وإلى تقوى الله، وإلى الإصلاح بين الناس فيخاطبهم بقوله: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً(1) لأيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 223).
ومرّة أخرى يدعو القرآن إلى تقوى الله وطاعته، وطاعة الرسول صل الله عليه وسلم، وهي الإلتزام بأحكام الشريعة وقيمها الإنسانية السامية.. وإصلاح مشاكل المجتمع التي تحدث بين الناس، وحلّ منازعاتهم بالتي هي أحسن.
(.. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأنفال/ 1).
إنّ المصلحين الذين يحلّون مشاكل المجتمع والمنازعات والخلافات التي تحدث بين الناس يستحقّون الثناء والتقدير والجزاء الكريم من الله سبحانه، وذلك رفع لشأن الإصلاح وحلّ المنازعات وتعظيم له.. وفي إصلاح المجتمع وتطهيره من المفاسد والإنحرافات الفكرية والسلوكية، وإصلاح العلاقات الإنسانية بين الناس.. نقرأ هذا التكريم والثناء في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف/ 170).
ولا يفوتنا أن نذكر هنا الدور الذي أعطاه التشريع الإسلامي للمتخاصمين في اختيار الحَكَم الذي يحلّ المشاكل والمنازعة بينهما.. إذا ما حدثت مشكلة في الأُسرة والقرية والسوق والمحلّة، وبين المتبايعين وغيرهم، واعتبر الحُكم الذي يتوصل اليه التحكيم ملزماً للأطراف.. ويسمى هذا الحكم بقاضي التحكيم.. بحث الفقهاء هذا اللون من التحكيم والقضاء بحثاً قانونياً إضافياً.. كم ساهمت جهود المخلصين في إنقاذ أُسَر عديدة من الخراب والإنهيار.. وكم حُقنت من الدِّماء.. وكم أُصلحت من المشاكل.. وكم قوِّم من الإنحراف والإنهيار.. وكم حُلّت من المنازعات والخلافات..
إنّ القرآن يدعوك لأن تكون مُصلحاً.. فساهِم في الإصلاح.. القرآن يُحدِّثنا أنّ الإصلاح وحلّ المنازعات إنقاذ من الهلاك والدمار.. وعندما يتعاون أفراد المجتمع ويُصلحون ذات بينهم، وما فسدَ من مجتمعهم، فإنّهم يُنقذون أنفسهم ومجتمعهم من الجريمة والسقوط والمنازعات والأحقاد.. القرآن يُسجِّل لنا هذا البيان بقوله: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (هود/ 117).
فالإصلاح في تشخيص القرآن وقاية من الهلاك والدمار، فلنقِ أنفسنا ومجتمعنا من الهلاك والدمار.
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال/ 25).
ويُثبِّت القرآن مبدأين أساسين للإصلاح، هما:
أوّلاً: أساس الحق والعدل.. فالقرآن يريد أن يبني الحياة، على أساس الحقّ والعدل.. وعندما يحدث نزاع بين طرفين، يأمرنا القرآن أن نحلّ هذا النِّزاع بالعدل والقسط.. قال تعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات/ 9).
ثانياً: والأساس الثاني من الأُسس التي يرتكز عليها الإصلاح، وحلّ المنازعات الذي يدعو له القرآن الكريم، هو أساس العفو والتسامح.. قال تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ...) (البقرة/ 237).
(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة/ 178).

- الأسباب الأساسيّة للمنازعات:
عندما ندرس المشاكل والخلافات والمنازعات بين الأطراف المتنازعة.. من خلال وثائق القضاء، والإستماع إلى أطراف النِّزاع في المجالات المختلفة، ومن خلال وثائق التأريخ والإستماع إلى وسائل الإعلام المعاصرة، نجد أهمّها:
1- الخلاف والنِّزاع على المكاسب والمصالح والموجودات المادية:
سواء في مجال الأفراد أو العشائر والقبائل أو الدّول..
ويشهد التأريخ بأنّ أخطر حروب الإحتلال والإستعمار كان من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية والأسواق والطرق التجارية.. وتشهد المحاكم ومؤسّسات القضاء أن معظم النزاعات الشخصية هي نزاعات حول الملكية أو الحقوق المالية أو الديون وأمثالها.
2- الخلافات الفكرية والعقيدية:
ومن أهمّ أسباب الخلاف والنِّزاع والإقتتال، هو الخلاف العقيدي والفكري بين الناس.. فالصِّراع بين الأنبياء.. دعاة الإصلاح والإيمان بالله وبقِيَم الحقّ والعدل والخير، وبين الطواغيت وأتباع الأفكار والعقائد الإلحادية هو من أبرز مظاهر الخلاف والصِّراع والنزاع البشري..
وكما شهد التأريخ ونشهد في عالمنا المعاصر الخلاف بين المسلمين والوثنيين والمسيحيين واليهود.. أو بين الفكر الماركسي والفكر الرّأسمالي والفكر الإسلامي، أو بين المذاهب الدينية، كمذاهب أهل السنّة وشيعة آل الرسول صل الله عليه وسلم، وبين المذاهب المسيحية.. مثل الكاثوليك والبروتستانت وغيرهم.. ذلك من أهمّ وأوسع وأخطر الخلافات والنزاعات بين الناس..
وكما هي مسألة فكرية وعقيدية، فإن حلّها يجب أن يكون فكرياً وثقافياً، فإنّ الجهل بين عامّة الناس والتّوظيف السياسي والنفعي لهذا الخلاف، هو السبب وراء تغذيته وتأجيج خلافاته وتعميقه.
والقرآن يدعو إلى حلِّ الخلافات الفكرية بين الناس بالطرق الفكرية والثقافية..
قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) (النحل/ 125).
قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 64).
(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصِّلت/ 34-35).
وقال: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) (العنكبوت/ 46).
ويدعو المسلمين إلى الاحتكام إلى الله وسنّة رسوله صل الله عليه وسلم في حال حصول الخلاف والنِّزاع بينهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) (النساء/ 59).
3- النِّزاعات القومية والإقليمية والعشائرية:
ومن أخطر النِّزاعات أيضاً بين الشعوب والأُمم هي العصبية القومية والصِّراع القومي.. والنِّزاعات العشائرية، لا سيّما بعد أن نُظِّر المفهوم القومي والعنصري، وصارت له نظريات سياسية وإقتصادية وأمنية، بل وبيولوجية.. وقسم بنو الإنسان إلى قوميات متفاوتة.. ووضع نظام الأمن القومي، وتكوّن مفهوم الإستعلاء القومي، وأُسِّست الدول القومية، ونشبت الصراعات القومية والعنصرية بين الناس..
والقرآن يرفض كل هذه النظريات والفوارق العنصرية والقومية.. فليس لها أي أساس علمي أو أخلاقي أو قانوني أو بيولوجي.. بل هي عصبية انتمائية على أساس اللغة والنّسب.. ويؤكِّد القرآن أنّ الناس سواسية في الإنسانية ووحدة المنشأ البشري.. والناس كلّهم أبناء آدم وحوّاء.. والإختلاف في اللغة واللّون لا يعطي ميزة ولا يُشكِّل فارقاً استعلائياً.. قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم/ 22).
فهذا الإختلاف آية من آيات الله، تدعو إلى التأمّل في عظمة الله وحبّ الخير للجميع واحترامهم وتكريمهم، وليس للإستعلاء عليهم وإيجاد الفرقة والخلاف بينهم، والصِّراع على موجودات الحياة.. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...) (الحجرات/ 13).
4- النِّزاعات السياسية والحزبية:
إنّ قراءة المساحة البشرية على امتداد تأريخها.. ومنذ نشأة السلطة والدولة.. كان الصراع على السلطة والتسلّط والقيادة هو من أهم أسباب النِّزاع البشري وأهمّ وأخطر الأزمات التي عانت منها البشرية، كالحروب والخراب والدّمار والعداوات.. وما زالت هذه النزاعات تتصدّر أسباب الصراع والخلاف والنِّزاع.. والقرآن يُحذِّر من اتِّباع القادة والطّواغيت ومن استعمال القوّة الغاشمة ومن العدوان والتسلّط، ويعرض فرعون طاغية التسلط السلطوي مثالاً لهذه الظاهرة.. قال تعالى مخاطباً النبي موسى (ع) وأخاه هارون (ع):
(إذْهَبا إلى فِرْعَوْنَ إنَّه طَغَى) (طه/ 43).
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 4).
ويتحدث في موقع آخر عن الفساد والصِّراع السياسي، فيقول:
(وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة/ 205).
5- النِّزاعات الأُسريّة:
وعندما نتحدّث عن النزاعات البشرية، فلابدّ من أن نثبت أن من أهمّ النزاعات البشرية هو النزاع الأُسري.. النزاع بين الزوج وزوجته، وانعكاس ذلك على أوضاع الأبناء وبقية أفراد الأُسرة.. وتحدث تلك الخلافات بسبب سوء الخلق من أحد الزوجين، أو عدم احترام حقوق الآخر.. أو الغيرة الباطلة، أو الأوضاع المالية للأُسرة، أو عدم قناعة أحدهما بالآخر... إلخ.
وقد تحدّث القرآن عن هذه الظاهرة كثيراً، وقام بوضع الحلول والمعالجات لها.. وأكد على التفاهم والتشاور والتحكيم بين الزوجين لحلِّ المشاكل والنزاعات.. واعتبر الطلاق آخر العلاجات التي كرّهها، وصرف النظر عنها.. قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء/ 128).
(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء/ 35).
(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) (الطلاق/ 2).
6- النِّزاعات بسبب الأنانية والأزمات النفسية:
تفيد الدراسات العلمية التي أجراها علماء النفس وعلماء الإجرام والإجتماع، أنّ الكثير من الخلافات والمشاكل الاجتماعية سببها الوضع النفسي والعُقَد والمشاكل النفسية للإنسان، وأنّ الحلّ لهذه المشكلة هو التربية والتوجيه السليم وتوفير الصحة النفسية لأولئك المرضى، وإعادة تنظيم الشخصية، وحلّ مشاكلهم التي يواجهونها..
والقرآن الكريم يوضِّح هذه الحقيقة بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...) (الرعد/ 11).
وقال تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي...) (يوسف/ 53).
وقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10).
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 88-89).
فالآيات تعتبر أنّ الأوضاع الداخلية والأفكار والحالات النفسية والتكوين الباطني لأخلاقية الإنسان هي الدافع الأساس وراء سلوك الإنسان.. وأنّ الكثير من المشاكل والأزمات والأوضاع الضارة بالفرد والمجتمع هي انعكاس للوضع غير الصحي للتكوين الفكري والنفسي للإنسان.
لكي ننجح في التخلّص من المنازعات، وتُحقِّق جهود الإصلاح والوساطة أهدافها، ينبغي مُراعاة عناصر أساسية، أهمّها:
1-الاهتمام بالتربية السليمة والتوعية والتّثقيف على خطورة المشاكل والنِّزاعات وضررها على حاضر الإنسان ومستقبله، وما ينتظر المعتدي من عقوبات قضائية تطال حياته حياة أُسرته، وإنّه مسؤول أمام الله سبحانه يوم الحساب.
2- العمل على حلِّ مشاكل الإنسان المادية، مشاكل الطعام والشراب والجنس والخدمات والأمن... إلخ.
3-دراسة أسباب المشكلة التي نسعى لحلِّها لتتوفّر أمامنا الصورة الكاملة للمشكلة، لا سيّما خلفيّاتها القديمة، والعلاقة بين ماضي المشكلة وحاضرها.
4-دراسة الوثائق والأدلّة والحجج التي يُقدِّمها كل طرف قبل وضع الحلول.
5- توفير فهم جيِّد لطبيعة الأشخاص وتكوينهم النفسي الذين هم أطراف المشكلة.
6-  معرفة مطالب كلّ طرف ومعرفة البيئة والأعراف التي تحدث فيها المشكلة ومراعاتها.
7- اختيار الوقت والمكان المناسب للقاء الأطراف، وتوفير جوّ نفسي وحواريّ مريح بعيد عن التوتر والإنفعال.. وعندما يشعر الوسطاء بعدم تحقيق التقارب في الجلسة الأولى، ينبغي تأجيلها بجوٍّ نفسي مريح إلى وقتٍ محدد أو يُحدّد مستقبلاً، ولنصبر على الحوار وجهود الوساطة حتى حلّ المشكلة.
8- وضع تصوّرات أولية للحلول ودراستها قبل عرضها كصيغة نهائية.. ويُفضّل إذا كان هناك تباين بين الأطراف في قبول الحلّ، تقديم أكثر من تصوّر للحلِّ يُرضي الأطراف المتنازعة.
9- أن يكون الوسطاء ممّن لهم مقبوليّة عند الأطراف المتنازعة، ولا ينظر إليهم نظرة انحياز، أو لا يحظون باحترام البعض.
10- أن تقبل الأطراف الإلتزام بنتائج الوساطة والتحكيم.
11-توثيق ما يتوصّل إليه وسطاء الحلّ والتحكيم للحيلولة دون الإدِّعاءات المحتملة ولتثبيت الحقوق وصيانتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-         الهوامش:
(1) لا تكثروا من الحلف بالله.. وهي دعوة إلى تجنّب اليمين، وإن كان صادقاً، إلا لضرورة مشروعة، كإثبات الحقّ ودفع الباطل.


JoomShaper