الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أما بعد..
بينما الحجاج مشغولون بالطواف في الحرم، والشمس حارة والزحام كثيف، والناس واقفون عند الكعبة المشرفة يسألون المولى جل جلاله..كان رجل من أهل اليمن يحمل أمه على كتفيه، وقد تصبب عرقه واضطرب نفسه، وهو يطوف بها لأنها مقعدة، ويرى أن من الواجب عليه أن يكافئها، لأنه قد كان يوماً من الأيام حملاً في بطنها ثم طفلاً في حضنها.
سهرت لينام، وجاعت ليشبع، وظمئت ليروى، فظن أنه كافأها حقاً.
وكان ابن عمر الصحابي الجليل واقفاً عند المقام.
فقال الرجل: [السلام عليك يا ابن عمر، أنا الابن وهذه والدتي، أترى أني كافأتها؟
قال ابن عمر: والذي نفسي بيده ولا بزفرة من زفراتها].
فكل هذا التعب والإعياء والجهد لا يساوي زفرة واحدة زفرتها في ساعة الولادة.
هذه صورة واحدة من صور المعاناة التي يقدمها الوالد وتقدمها الوالدة لهذا الإنسان.
جلس الرسول صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وإذا بشيخ كبير يدلف عليهم يتكئ على عصاه، وقد احدودب ظهره ورق عظمه واشتعل رأسه شيباً.
وقف على رأس المعلم الجليل يشكو إليه مظلمة من ابنه الذي عقه وتولى عنه في كبره.
فقال: (يا رسول الله ابني ظلمني، ربيته صغيراً، فجعت ليشبع، وظمئت ليروى، وتعبت ليرتاح.
فلما اشتد ساعده تغمط حقي وأغلظ لي ولوى يدي.
فقال صلى الله عليه وسلم: وهل قلت فيه شيئاً؟
قال: نعم يا رسول الله.
قال: ماذا قلت؟
قال: قلت:غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيناي تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها بدا ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: علي بالابن.
فذهب الصحابة فقادوا ابنه فإذا هو في جسم البغل!
فأوقفه أمامه وأخذ بتلابيب ثوبه وقال: أنت ومالك لأبيك) (1) ، والمعنى: أنت كمثل الرقيق لهذا الوالد يبيعك ويشتريك، فما أنت إلا من متاعه ودنياه.
وهذه الصورة تتكرر كثيراً في عالم اليوم، مرات من أناس شبوا على الطوق وقويت سواعدهم واشتدت كواهلهم وكبرت جماجمهم، فعقوا ربهم أولاً فما عرفوا بيوته، وأعرضوا عن كتابه وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم عقوا الوالدين في وقت الضعف.
فلم نعد نرى إلا الشيوخ والعجائز وهم يبكون من ذلكم العقوق الأليم.
وكم رأينا من طاعن في السن يدب على الأرض دبيباً يشكو ابنه.
ونحن نرفع شكواه إلى الواحد الأحد الذي ينصف سبحانه، والذي لا تسقط عنده مظلمة:
يروي لنا المعصوم صلى الله عليه وسلم قصة ثلاثة خرجوا إلى الصحراء من بني إسرائيل، فأظلم عليهم الليل البهيم، فصعدوا جبلاً ودخلوا غاراً، فانطبقت عليهم الصخرة فسدت أبواب الغار، فلا اتصال ولا عشيرة ولا قبيلة ولا أهل.
وهذه ساعة الاضطرار، ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)).
ولا يجيب المضطر إلا هو سبحانه، ولا يكشف المكروب إلا هو سبحانه، ولا يفرج عن المغموم إلا هو سبحانه.
ولقد ذكرتك والظلام مخيم والأُسد تزأر في ربا الصحراء
في وحشة لو غبت عني ساعة لوجدتني شلواً من الأشلاء
ضلّ الطريق فقمتُ أدعو في الدجى متضرعاً في حندس الظلماء
فأتوا يدفعون الصخرة فما اندفعت، وليس عندهم لا طعام ولا كساء ولا شراب.
بل هو الموت المحقق.
فاتصلت حبالهم بحبال الله، والتجأوا إليه سبحانه.
فقال قائل منهم: والله لا ينجيكم أحد إلا الله، فادعوه بصالح أعمالكم.
فقام الأول فتذكر أعماله فما وجد أحسن ولا أطيب من بره بوالديه.
فخاطب الله علام الغيوب الذي يعلم السر وأخفى وقال: اللهم إنك تعلم أنه كان لي والدان شيخان كبيران وكنت لا أقدِّم عليهما أهلا ولا ولداً، وقد غبت يوماً فأتيت وإذا هما نائمان فحلبت غَبوقهما -أي لبنهما في الليل- فقمت بالإناء على رأسهما حتى طلع الصباح والصبية يتضاغَون (أي يصيحون) تحت قدمي فما قدمت أحداً عليهما.
اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء مرضاتك فاكشف عنّا ما نحن فيه.
فانزاحت الصخرة قليلاً عن باب الغار غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
فقام الآخر.. إلى آخر الحديث المشهور.
ويقول المعصوم صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع) (1) .
كيف يدخل الجنة وقد قطع والديه؟
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله الرحم تعلقت بالعرش وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعه، أي: أشكو إليك القطيعة في الدنيا فأنصفني من القاطع؛ قال الله لها: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟
قالت: بلى، قال: فذلك لك) (1) .
فالقاطع يقطعه الله: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)).
وقد قرن سبحانه حقَّه بحق الوالدين في القرآن كثيراً، فقال: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)).
فكلمة (أف) على صغر حروفها لا يجوز أن تقال للوالدين.
فكيف بمن تنعم في القصور والفلل وأهان والديه؟
وكيف بمن قدَّم زوجته على أمه؟
وكيف بمن أغلظ في الخطاب وعصى في الجواب؟
إنها صور تتكرر في مجتمعنا ونراها ونسمعها كثيراً.
فليت أصحاب العقوق يتعظون بتلكم الآيات والأحاديث التي تحذرهم من هذا المسلك الأليم، الذي لا يستحقه الأبوان اللذان تعبا وشقيا وربيا.
وليتهم يعتبرون بقصص الصالحين وببرهم بوالديهم.
كان ابن سيرين يقدم لوالدته الطعام ولا يأكل من الإناء الذي تأكل منه خشية أن تسبق يده إلى لقمة تشتهيها.
وكان الإمام أحمد على جلالته يخدم والدته في البيت حيث لم يكن لها إلا هو بعد الله مُعيناً.
فكان يصنع طعامها ويكنس بيتها ويقوم بالأعمال عنها.
وللعقوق صور كثيرة، منها عقوق الوالدين كما سبق وهو أشهره.
ولكن هناك عقوق من نوع آخر، وهو عقوق الأمة لبارئها كما نرى، حيث انصرفت عن دينها وعن طاعة ربها وأصبحت تقلد الكافر البعيد في كل أحواله وسلوكياته، متوهمة أن التطور والحضارة يكونان في ذلك التقليد وتلك التبعية.
وما علِمَت أن الحضارة والرقي هي في التميز بشخصيتها وتحقيق كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم على الواقع.
أسأل الله أن يسدد هذه الأمة ويعيدها إلى مجدها من جديد لتكون خير أمة أُخرجت للناس.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.