د. ديمة طارق طهبوب
عضل الإناث يعتبر خطيئة شرعية واجتماعية منتشرة في بلادنا, حيث تُمنع الفتاة من الزواج بمن رضيت دينه وخلقه لأسباب واهية قد يراها الأهل وجيهة وهي غير ذلك، ولقد نبه القرآن على خطورة هذه الممارسة ونهى عنها فقال سبحانه "وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ".
وقد نفهم إنَّ الإناث يتعرضن للعضل والمنع بسبب استقواء المجتمع عليهنّ, أما أنْ يخضع الذكور للعضل من قبل الأهالي فهذه سابقة ما سمعنا بها في آبائنا الأولين, ولا في سيرة خير الأنام والمرسلين, عليه الصلاة والسلام.
فبدعوى الخبرة الحياتية, والنظرة الثاقبة الفاحصة, وبسلطة البر, تستخدم الأم أحيانًا كل قوتها لتسيير أهم قرار في حياة ابنها, فتبحث له عن زوجة بمواصفاتها هي, ولو استطاعت أن تزوّجه ست الحسن أو تفصل له زوجة بالمسطرة والبيكار لما قصّرت, ولو استطاعت أن تجد له امرأة في جمال السيدة سارة لما توانت, ولو كان ثمن ذلك أن تدخل البيت تلو البيت, وتكسر القلب تلو القلب, وهي تقلّب في البنات والعائلات, كما لو أنَّهم سلع أو قطع قماش يخضعون لتقييم الجودة!!
والمؤلم أنَّه حتى بعض الأمهات المتدينات لا ينجون من هذه الممارسات, واستشهاداتهنَّ جاهزة, "إذا نظر إليها سرّته", ولا يدركن أن معاني السرور لأبنائهن غير معاني السرور لهنّ.
شخصيًّا لم أجرّب الموقف, فلست شابًّا عضلته أمه عن الزواج بمن اختارها قلبه وعقله ورأى فيها نصف دينه ودنياه, وهو مع ذلك لا يستطيع حزم موقفه وإنفاذ إرادته برًّا بأمه!

ولست أمًّا قررت كسر قلب ابنها بسلطة الأمومة لإنفاذ رأيها, وكأنها هي التي ستتزوج وتعيش بقية عمرها مع تلك الفتاة التي اختارتها ولم يخترها ابنها!

لذا سأنقل الشكوى مباشرة من الميدان, من شاب واع متعلم, صاحب خلق ودين, لم يكتف بحفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقاييس اختيار الزوجة الصالحة على الدين والخلق, بل أراد أن يضع الأحاديث في موضع التطبيق, فوقفت له بالمرصاد من لا يستطيع لها صدًّا ولا لأمرها عصيانًا, وكيف يفعل ذلك وقد تخلَّق في رحمها, وخفق قلبه أول ما خفق بنبض قلبها, وتعلَّمَ أبجديات الحب في حضنها, فلما أراد أنْ يطبق ما علمته هي له من حسن الخلق, وكرم النفس, وسعة القلب والأفق, وقفت في وجهه, فأصبح هو بين نارين؛ نار عقوق أمه أو كسر قلبه، أمران أحلاهما مر، والأم لا تلين فترفق بقلب ابنها, ولا هو يرضى بعقوقها كما لا يرضى بكسر قلبه.

يشكو أحدهم فيقول تعقيبًا على أحد مقالاتي:

يا أمهات أولاد الحلال اتقوا الله في أولادكم! لأنكم ستسألون عن مواقفكم من "أولاد وبنات الحلال" بدعاوي جاهلية, فعندما يصل الموضوع لزواج أولادكم ويدخل حيز التنفيذ يوضع كل كلام الدين على الرف, وتعمل أحكام العرف المقيت المخالف للدين ابتداءً!

كما وتجهض الكثير من فرص الارتباط بين أولاد وبنات الحلال من قبل الأمهات, بدعوى أن:

- الفتاة ليست جميلة (بنظر الأم), وعلى الابن أن يسلم فهو لا يعرف في الجمال!, مع أنها أعجبته عندما نظر إليها بنية الحلال, لكن القرار صدر بعد المعاينة: "مش حلوة يعني مش حلوة، أنت طويل، هي قصيرة، أنت نحيف، هي مليانة"!

- اختلاف العمر: يعني لو رأى فيها خديجة أم المؤمنين أو فاطمة الزهراء من صفات الدين والحسب والنسب والجمال, وكانت تكبره قليلاً بسنتين أو ثلاثة فقط, فلن يشفع له قلبه المحطم ولا نظرته الناضجة للموقف!

- هم فلاحين ونحن مدن, لهجتنا ولهجتهم: وكأننا من أجناس وطين مختلف, وحتى لو كانت الفتاة تفهم في "الاتيكيت" من الطراز الأول فلا شيء يشفع لها!

ويتابع الشاب شكواه: "كثير من الشباب الملتزم تحطم قلبه بشدة, بسبب موقف والدته التي تراه مهما كبر طفلها الصغير الذي يمسك بطرف ثوبها، تريد أن تختار له طعامه ولباسه ومدرسته... وزوجته، والدته التي ربما لا تدرك أنه أصبح رجلا بمشاعر وأحلام وطموحات وشخصية مستقلة، وأنه أيضًا يحمل فكر وحكمة تمكنه من اختيار شريكة الحياة بكفاءة, وعندما يرى في إحدى البنات ما يطمح له ويسارع أن يخبر والدته لتمشي في الطريق وفق الأصول يرتطم بممانعتها, وكلام مثل: "أنا أو هي اختار!, أهكذا ربيتك؟!!, أليس من حقي أن أفرح بك كبقية الأمهات؟؟, أهكذا مفهومك للدين أن تختار على هواك أي فتاة تريديها!!".

وحتى لو رضخت مرحليًّا لاستجداء ابنها بالحسنى, للسير في بداية الطريق, لعل صدرها ينشرح فإنها تذهب لبيت الفتاة ولديها نية مبيته بـ"تطفيش الناس" وينتهي الموضوع قبل أن يبدأ, غير أن هناك قلب آخر يكون قد تحطم, وهو قلب الفتاة!

ماذا يريد الأهل؟! هل يريدون من الشباب الملتزم أن يفسدوا لا سمح الله حتى يخلصوا من تعنت أهاليهم؟!, أم أنَّ الحل الوحيد لديهم أن يرتبطوا بفتيات لا يحملون أي هم أو فكر أو رسالة في الحياة.. اللهم إنها "ملحلحة, وحلوة, وجدها كان يلبس البدلة والطربوش لا الجلباب والدشداشة"!!

ثم متى سينتهي تقليد الاجتماع من وراء الستارة، ولماذا تذهب الأم وحدها لمعاينة "البضاعة"؟!

ألم يأمر الرسول الشاب الذي أراد أن يخطب أن يذهب هو، هو وليس أمه, لينظر إلى من يريد أن يخطبها؟!

لم أجد بدا من نقل شكوى هؤلاء الشباب لتتكلم نيابة عن الصامتين العاضين بالنواجذ على العفة والفضيلة وبر الوالدين أيضًا، ولم أجد خطابًا أخاطب به الأمهات سوى الزفرات الحارة لأبنائهن ورأي الشرع الذي أفتاه الدكتور صلاح الخالدي من حرمة أن يمنع الآباء والأمهات أبناءهم من الزواج بصاحبات الدين والخلق.

فماذا تريد الأم سوى سعادة وهناء ابنها مع من اختارها على بصيرة, وأن تكون سببًا ميسرًا لسعادته لا حجر عثرة في طريقه!!

كما أن للأبناء عقوق فهناك للآباء عقوق أيضًا, وقد يعق الآباء أبناءهم قبل أن يعقوهم!

وأما الختام, فنصيحة الأحنف بن قيس لمعاوية بن أبي سفيان يوم سأله عن البنين, بعد أن غضب على ابنه يزيد, فقال له: "البنون ثمار قلوبنا, وعماد ظهورنا, ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة, فإن طلبوا فأعطهم, وإن غضبوا فأرضهم, فإنهم يمنحونك ودهم, ويحبونك جهدهم, ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملوا حياتك ويتمنوا وفاتك".

JoomShaper