د. محمود حسن محمد
يتميز ديننا الإسلامي بأنه دين القيم التي تؤهل شخصيةَ المسلم لأن تصبح شخصية متوازنة تحسن التخطيط لحاضرها ومستقبلها، ويَمتد تأثيرُها إلى العالم كله، ولقد تحوَّلت الشخصية المسلمة في ضوء هذه القيم إلى روح يقظة ووعي شامل بدور الإنسان ورسالته البنائية، فانطلقَ المسلمون في ضوء هدي الأنبياء يحملون الأمانة التي عجزت السمواتُ والأرض عن حملها، وقدموا للإنسانية حضارةً رائعة وثيقة الصلة بالأخلاق والقيم.
تزداد الأمم تَمكينًا في الأرض بازدياد تَمسُّكها بقيمها وفهم أفرادها لدورهم ومسؤوليتهم في الحياة، ومنذ أن تراجعت القيم في مُجتمعاتنا توقَّفت حركات التجديد الفكري، وضَعُفت رسالتنا الإبداعية؛ وذلك لأَنَّ القيمَ تُسهِم بنصيب كبير في ازدهار الأمم، وتطور إبداعاتها، وعُلُوِّ إستراتيجياتها، فتتطور ابتكاراتها، وتقوى خبراتها الاجتماعية والتنموية.
إنَّ خامات مُجتمعاتنا طيبة، وفطرتها نقية، وهي بحاجة لتربية واعية تحفظ تَماسُكَها القيمي وتنتشطها للعلو المادي والروحي؛ حيث أدى ضعفُ القيم لانحدار أخلاقي رهيب في مُجتمعاتنا، وسَعَت العولمة لتغييب الهويات، بل تحطيمها؛ كي يتمكن الغربُ من التسلُّط والسيطرة الكاملة.

لا بُدَّ أن تتغلغلَ القيمُ والأخلاق في جذور بنيتنا الروحية والاجتماعية وأعماقها؛ لتشعرَ مُجتمعاتُنا بالأمان والاطمئنان، فالأممُ السوية تتميز بقيمها وأخلاقها، كما أن المسلمَ الذي يريد أن يؤثر في العالم الذي يُحيط به ينقل قيمه بالقدوة العملية للآخرين، لا يُمكن للفطرة السليمة أن تَحيا بغير هَدْي السماء، فهو النور الذي يُهذِّب الطبائع، ويُرقِّق العادات، ويُهذِّب النفوس، وإذا أردنا للقيم الإسلامية أن تحقق التغيير الحضاري المطلوب في حياتنا، فلا بُدَّ من صياغة الشخصية الربانية، التي تجعل من التوحيد مُنطلقًا للحياة الإيمانية المخلصة والتضحيات العميقة.

إنَّ المسلم الذي تذوَّق حلاوةَ الإيمان يَحرص كلَّ الحرص على تقريب مفاهيم الإسلام وحقائقه للناس، حتى إنَّه لو ملك مثلَ الدنيا مالاً يتمنى أن يُنفقه في سبيل أن تسعدَ البشرية بنعمة هذا الدين العظيم، كما أنَّ المتميز بالقيم الماهر بامتثالها يتميز في نظرته للأشياء ومعالجة المواقف المختلفة، كما يتميز بمعرفته لنفسه وللواقع من حوله؛ لذلك فهو يتحرك بخطوات ثابتة، ويستثمر كل طاقاته في العطاء.

نحتاج إلى قيم، فإذا تحرَّكنا نحو إعادتها لمجتمعاتنا، فسنخطو نحو النهضة المرتقبة والتمكين الحضاري الأخلاقي، الذي يُعزِّز السلوكيات المنضبطة والعلاقات السليمة بين الناس، فقد اختار الله - عزَّ وجلَّ - أُمَّتنا؛ لتحيا بالقيم والأخلاق الحسنة، وتبني النفوس السوية، وتزرع الخير وتنشره في الأرض.

إنَّ إنسانية الإنسان لا تكتمل إلا بالإيمان والعلم والأخلاق، كما أنَّ التطور الذي لا يستند إلى الفضائل تذبل زينته سريعًا، وقد لا يكتمل مشوارُه، ولن ننطلق حضاريًّا من جديد إلا بالقيم التي تبني العناصر القوية، والشخصيات الطموح، والعقول المبدعة، والطاقات المنتجة، وعلى متن خطوطها تسافر شخصيتنا إلى كل أنحاء العالم، فيتأثر بنا الناس، ومن شأن الفاعلية الحضارية لهذه القيم أنْ تُعيدَ إلينا قوتنا واستقلاليتنا ومهابتنا بين الشعوب، وتؤهل الأجيال المستقبلية لأن تجيدَ فنون التربية والحوار وتؤسس لطرق جديدة للعيش الكوني السعيد، وتصمد أمام التحديات التي تتعاظم يومًا بعد يوم.

فالقيم تؤثر تأثيرًا مباشرًا على شخصية الإنسان وسلوكه وأهدافه وتطلعاته، فإيمانه بهدفه يحفزه للعطاء، ويحركه للعمل، كما أنَّ ارتباط مبادئ الإنسان بقيمه يَجعل منه عنصرًا فعالاً ومؤثرًا بدرجة قوية، فإلى القيم من جديد؛ كي تختفي الأنانية من سلوكيتنا، فتنضبط هذه السلوكيات بالتوجيهات، والقيم الإسلامية الجميلة، وتعود أواصر القرابة والأخوة في الله - عزَّ وجلَّ - إلى حياتنا، وتتطهر مُجتمعاتنا من الفساد والتلوث الأخلاقي والمصالح الشخصية وتختفي الصراعات والفتن، التي تسبب الشقاء لبني الإنسان، والشرور المستطيرة، وينتشر التسامح، والصدق، والصبر، والأمانة، والإخلاص، والإتقان، والتعاون، والتعايش، واحترام الذات، وتقدير الثقافات، وتعلو رسالة العلم والعلماء والإبداع والمبدعين، ونتمكن من صناعة قراراتنا، وبناء نَهضتنا المنشودة، ونزداد بالقيم تقاربًا، وتَماسُكًا، وتفاعلاً.

والذي نفسي بيده، لو فينا المثقف الذي لا يقطع الصلة بربه وإن تزلزلت الجبال، والإعلامي الصادق الذي لا يُلقي كلمة في غير مصلحة نهضة الأمة، والتكنولجي المخلص الطموح الذي يُحسن فقهَ ما في البر والبحر والجو، والداعية الذي يطبق ما يقول حرفًا حرفًا - لَهَرع العالم نحو الإسلام الذي يحث على الأخلاق والقيم، ويهتم بعمارة الأرض؛ حتى تنزل القيامة.

لقد كلف الله - عزَّ وجلَّ - المؤمنين أن يعرفوه ويعرّفوا به ويقوموا بالحق، ويُعينوا الخلق للقيام به، وينهضوا بأنفسهم ويحفزوا كلَّ نفس للنهوض، ومن أجل هذا المقصد أنزل الله على رسولِه قولاً ثقيلاً؛ فالحياةُ في نظر المؤمنين أكاديمية لتربية الخلق على الإيمان، والاستقامة والقيم، ولا ينهض بقيادتها إلا القلوب المخلصة المنكسرة وهم رجال الحق والحقيقة، المبدعون الأذكياء الذين يتفننون في سد حاجة المحتاجين، وتنبيه الغافلين، وتذكير المؤمنين، ونشر القيم في المجتمعات الإنسانية؛ كي تستقيم كل أمورها.

وعندما نُقوِّي ارتباطَنا بقيمنا ومبادئنا التي أدخلت الناس في دين الله - عزَّ وجلَّ - أفواجًا، وننمي بذورَ الخير الموجودة في أعماق الإنسان، ونحصن الأجيال الجديدة بالقيم التي تصون هويتهم الفكرية والحضارية - سنحقق السعادة لمجتمعاتنا ولكل المجتمعات من حولنا، وستتحرر حياتنا الاجتماعية من القيود التي تحول دون استقرارها وانطلاقها نحو الرقي الأخلاقي، وتتحرَّر الروح المعنوية لإنسان العصر الذي انحرف عن القيم، فانحطت كرامته وشخصيته الإنسانية.

المصدر: شبكة الألوكة

JoomShaper