ليلى حلاوة
لا تغيب عنا صورة كثير من كبار السن الذين نسمع عن زواجهم وهم في أواخر العمر طلبًا للأنس، ومن أجل سد الاحتياجات المتبادلة بين طرفي العلاقة الزوجية، خاصة ما يتعلق منها بالوحدة والأنس.. هناك نماذج أخرى للزواج المتأخر، ولكنها تخص البعض ممن عاش تجربة مريرة مع الطلاق أو الترمل أو العنوسة أو غيرها.. وفي غفلة من الزمن يمر العمر فيصل الواحد منهم إلى الأربعين أو الخمسين، وفجأة يلمح في الأفق شبح الوحدة وانشغال الجميع عنه.. وقد تنضج احتياجاتهم النفسية والجسدية وتنضج كذلك معرفتهم بالمجتمع الذي "لا يعجبه العجب"، وهنا تطفو على السطح الحاجة إلى الزواج من شريك يحتوي كل تلك الاحتياجات ويسدها..
ولكن هل يتجرأ الكثيرون في مجتمعنا على القيام بهذه التجربة "الزواج المتأخر"، خصوصًا من النساء.. فالرجال كما يعرف الجميع مباح لهم ومتاح لهم خوض كل التجارب بما فيها الزواج أكثر من مرة وليس الزواج في سن متأخرة فقط.. ولكن بالنسبة للنساء هل يسهل عليهن اتخاذ هذا القرار؟ وما مدى قبول المجتمع المتمثل في الأبناء والمعارف والأصدقاء وغيرهم لذلك؟ وما هي مميزات وعيوب هذا الزواج؟
تقول ليلى (47 سنة): لقد فوجئت بعد سنوات الزواج الطويلة مع زوجي أنني قد صبرت وتحملت كثيرًا من أجل أولادي.. ولكن بعد أن كبر الأولاد وذهب كل واحد منهم في ناحية، ولم يبق في البيت سوى أنا وزوجي، أخذت المشاكل المختبئة تظهر على السطح.. ولم يحتمل كل منا ذلك.. فقررنا الانفصال "بشياكة" وأقنعنا الأولاد بضرورة اتخاذ هذه الخطوة.. وبعد الانفصال بعام تزوج زوجي، وبعد ذلك بعام تزوجت أنا أيضًا.. وقد أشركت أولادي في اختياري، بالرغم من اعتراضهم على زواجي، بالعكس من والدهم الذي لم يعترضوا على زواجه، مطلقًا "فلم يعلقوا حتى".
أما أمل (50 عاما) فتقول: ترملت منذ كان عمري 30 عامًا.. وقعدت على أبنائي كي أربيهم، ورفضت كل من تقدموا للزواج بي، بالرغم من إلحاح والدتي عليّ بالزواج.. ولكن بعدما كبر أبنائي وذهبوا للجامعة شعرت بالوحدة.. لكنني لم أندم على عدم زواجي، وقررت أن أعيش ما تبقى من عمري، حيث طلبت من صديقتي المقربة البحث عن زوج مناسب لي، وقد شجعتني على ذلك، وقالت لي أنه خيار صائب.
وفي تعليقها على هذا الموضوع تقول د.دعاء راجح، المستشارة الاجتماعية: إن تأخر سن الزواج أصبح واقعًا معاشًا، نتيجة التأخر في سن الزواج الأول، ونتيجة زيادة معدلات الطلاق والزواج للمرة الثانية.. وأعتقد أن من حق أي إنسان، سواء كان امرأة أم رجلاً، أن يتزوج مهما تأخر السن.. فالزواج حاجة فطرية، فطر الله الناس عليها، فهو يحقق إشباعًا نفسيًا وعاطفيًا وجسديًا واجتماعيًا، لا يتحقق إلا في ظل العلاقة الزوجية، وتظل هذه الحاجة موجودة في الإنسان مهما تأخر به السن.
قد تفضل الزوجة المطلقة أو الأرملة أن تتفرغ لتربية الأولاد، وقد تجد في أمومتها ما يعوضها عن احتياجها إلى الزواج، وقد تكتم هذه الرغبة تضحية من أجل أبنائها، ولكن بعد انفصال الأبناء عنها، وتكوينهم لأسرهم، تشعر بالوحدة وتعود الرغبة في الظهور مرة أخرى، ولكن النظرة المجتمعية قد تحول دون ذلك، فالمجتمع ينظر باستنكار، وقد ينظر بسخرية، لمن يبحث عن الزواج بعد الخمسين مثلاً، وإن كان مقبولاً بعض الشيء في حق الرجل، ولكنه يبدو مستنكرًا في حق امرأة، ولا أدري سببًا لهذا الاستنكار.
وتضيف المستشارة: إن الزواج المتأخر أكثر استقرارًا وأكثر نضجًا، حيث يمتلك كلا الطرفين الخبرة والنضج الذي يؤهلهما للتعايش والتقبل والتفاهم وربما الحب.
وما يميز الزواج في سن متأخر أنه أكثر قدرة على الاستمرار، حيث يشعر كل منهما أن لا وقت للتجربة والخطأ.
كذلك مع انعدام المسئولية المالية والتربوية يكون الهدوء النفسي.. فالأبوان قد كبر أبناؤهما وأصبحوا في غنى عنهما.. وهذا يجعلهما أقل تعرضًا للضغوط النفسية، وأكثر قدرة على الاستمتاع بالحياة.
وأهم المشكلات التي تواجه هذا النوع من الزواج هي النظرة المجتمعية، التي من الممكن أن تتغير مع الوقت، بالإضافة إلى الاختيار غير الموفق وغير المتكافئ، كالفارق الكبير في السن أو في المركز الاجتماعي، والذي يقع فيه قطاع واسع من الرجال بدعوى (تجديد الشباب)، ولكنه مع الوقت يصطدم بالواقع، وغالبًا ما يعاني هذا الزواج إن استمر أو يكون مصيره الفشل. كذلك رفض الأبناء لهذا الزواج قد يسبب مشاكل للطرفين في البداية، ولكن ما تلبث أن تزول مع الوقت ومع شعور الأبناء بسعادة آبائهم.
علاج المجتمع
ومن جهتها تقول أميرة بدران، المستشارة الاجتماعية والأخصائية النفسية: إن مجتمعاتنا العربية فيها درجة من التفكير الأوتوماتيكي الناتج عن طريقة التربية التي تربى عليها الناس، بالإضافة إلى الخبرات التي يمر بها الناس أثناء حياتهم.. ومن ضمن الأفكار الأوتوماتيكية السلبية الزواج مرة ثانية، أو الزواج بعد الترمل، والطلاق والزواج في سن الخمسين، وأن هذا يعني أن المرأة أنانية، وتفكر في اللذة وليس مهمًا لديها أي شيء آخر، ومن الممكن اعتبار هذه السيدة شخصًا استغلاليًا، وهكذا.
أما التفكير السليم فيقول أننا نحترم الحرمان العاطفي والجسدي، نحترم الاحتياج لوجود شريك يقاسمنا الحياة ويساعدنا على التعامل مع تحدياتها، وكثير من السيدات دفعت ثمن هذه الأفكار، من خلال حرمانها من تلبية احتياجاتها المعنوية والمادية والمالية، وهذا ما جعل كثيرًا من النساء يلجأن للزواج العرفي، فالموضوع له جذور اجتماعية راجعة لتلك المفاهيم التي ساهم فيها الإعلام بدون وعي، عندما أعلى من شأن قصص التضحية والأم المضحية، وركز على النظرة السلبية للمرأة التي تتزوج مرة ثانية.
أيضًا المؤسسات الدينية التي فضلت التحدث عن دور الأم والأب في الرعاية والتركيز على الحديث الشريف: "أيما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة"، وبالتالي فهذه دعوة غير مباشرة لتفضيل السيدة الأرملة أو المطلقة للجلوس لتربية أبنائها وتجاهل احتياجاتها النفسية والجسدية. ونحن نعلم أن القدرة على ذلك تختلف باختلاف قدرات الأشخاص.
والحقيقة أن الزواج في الإسلام كان أبسط كثيرًا من التعقيدات والتقاليد الاجتماعية التي خلقناها بأنفسنا، وأصبحنا أسرى لها، فقد كان الصحابي أيام رسول الله يتزوج في أي سن، كما أنه يتزوج مرة واثنتين وثلاثًا، وهذا يعم النساء والرجال، بما فيهم بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، أي أمهات المؤمنين، حيث كان النبي نفسه هو الزوج الثاني أو الثالث.
وبالفعل في مجتمعنا نتقبل زواج الرجال في سن متأخرة مرة واثنتين أكثر مما نتقبله من النساء، وهذا ناتج عن الأفكار المعششة داخل رؤوسنا، مثل أن الرجل يحتاج للعلاقة الجنسية أكثر من المرأة، وأنه لا يستطيع أن يقوم بالواجبات المنزلية، ولكن الحقيقة أن الرغبة الجنسية علميًا تتساوى عند الرجل والمرأة، ومن الناحية الثانية فإن الرجل حينما يسافر ويتغرب أو يكون في الخدمة العسكرية يقوم بالغسل والتنظيف وتجهيز الأكل لنفسه.. فالأمر عادي بالنسبة إليه، ولكننا كنساء من نربي أبناءنا بشكل خطأ، حينما أفهمنا أبناءنا الذكور أن تلك الأشياء خاصة بالبنات فقط، وأن ذكورته تترفع عن تلك الأمور، وكان سيدنا محمد، وهو أفضل من كل الرجال، يقوم مع أهله بالواجبات المنزلية بشكل عادي جدًا.
المميزات والعيوب
وبالنسبة للزواج في سن متأخرة قليلاً فإن له بعض المميزات:
*يكون الاختيار ناضجًا جدًا، لأن الإنسان يكون قد وصل إلى نضوجه وخبرته في الحياة ومعرفة الناس، وبالتالي يكون أقدر على ضبط حساباته وفقًا لحقيقة احتياجاته التي تختلف من شخص لآخر ومن ظرف لآخر.
*في السن المتأخر يكون الاحتياج للشراكة على المستوى النفسي والعاطفي أعلى من الشراكة الجسدية، وبالتالي يكون هذا الزواج معينًا كبيرًا للشخصين المتزوجين معًا.
*في هذه السن الكبيرة يكون الأولاد "شقوا طريقهم" في الحياة، وتبدأ ظلال الوحدة في الظهور، وبالتالي يكون الزواج حلاً ممتازًا جدًا في كثير من الحالات.
*الاتزان النفسي والعاطفي يكون واضحًا وله أثره الإيجابي، ويجعل الشخص يعطي على جميع المستويات الحياتية، وفي كل المساحات بشكل أفضل، خصوصًا حينما يكون هناك توافق مع الطرف الآخر، فيشاركه نفس المشكلات التي من الممكن أن يعاني منها مثل الوحدة، المرض، الرعاية النفسية...إلخ.
أما عيوب هذا الزواج
*فتكون حينما يكون قرار الزواج ناتجًا عن شيء آخر غير الاحتياج والشراكة، فيكون قرارًا مراهقًا لشخص يمر بأزمة منتصف العمر، أو من أجل حرمان شخص من ميراث.
*يعيب هذا الزواج أيضًا أنه ينتج عنه الكثير من المشكلات في حال -لا قدر الله- لم يكن الشخص صاحب قرار الزواج على درجة من النضج الموجودة في هذا السن، ويقوم باختيار شخص غير مناسب، هنا ستحدث مشكلة، لأن قدرته على التحمل والتقبل تكون أصعب بكثير مما إذا كان لا يزال شابًا أو فتاة في مقتبل العمر.
*عيوبه أيضًا تكون متعلقة برد فعل المجتمع أكثر من عيوب متعلقة بالزواج نفسه.. والحل بالطبع يكمن في علاج المجتمع نفسه بتحسين أفكاره وتصحيحها من خلال الإعلام والمؤسسات الدينية والمجتمع المدني، وغير ذلك.
زواج آخر العمر.. مميزات وعيوب!
- التفاصيل