أ. د. عبدالكريم بكّار    
نستطيع أن نعرف التراث بأنّه: "مجموعة عطاءات الآباء والأجداد على المستوى الروحي والمادي عبر تفاعلهم مع الدين، وضمن خضوعهم لقيود الزمان والمكان اللذين تم الإنجاز فيهما".
ونحن مع الباحثين الذين لا يعدّون الكتاب والسنة من التراث؛ لأنّهما ليسا من إنتاج الآباء، ولا من معطيات التاريخ. وتعاملنا معهما يختلف تماماً عن تعاملنا مع التراث؛ إذ نمتثل لما جاء فيهما من قطعيات، ونجتهد في الظنيات وفق أصول وضوابط اجتهادية وتوليدية معروفة.
أمّا التراث فإنّنا نحكم عليه بعين المعايير التي نحكم بها على الواقع، أي: نملك سلطة تقويمه، من خلال المنهج الرباني المحفوظ عن التغيير والتبديل، مع الاستعانة بأقوال السلف، وما تراكم لدينا من خبرات حضارية متنوعة. وكما نختلف في صحة موقف أو عمل اجتهادي أو حضاري يمارسه بعضنا الآن؛ فقد نختلف أيضاً في الحكم على موقف أو قول يعود إلى الماضي. وما نعده تراثاً للتابعين عاشه التابعون – رضي الله عنهم – على أنّه واقع. والواقع الذي نحياه اليوم سوف يصبح تراثاً في نظر الأجيال القادمة. وكما أنه لا ننظر إليه نظرة تقديس وتصويب مطلق؛ فمن حق المسلمين اللاحقين أن ينظروا إليه النظرة نفسها؛ بل يجب عليهم أن يفعلوا ذلك. ونستطيع أن نقول هنا إننا – بحمد الله – الأُمّة الوحيدة على وجه الأرض التي تستطيع أن تحكم على واقعها وتراثها من خلال مبادئ ومنطلقات لم يركمها الماضي، ولا الواقع. فنحن إذ نحرم الربا أو الزنا، وإذ نوجب الصدق أو الوفاء بالعهد لا نفعل ذلك نتيجة تراكم الخبرات وتطور النظم، بل استناداً إلى نصوص قطعية مقطعة الصلة عن إنتاج البشر وخبراتهم وتنظيماتهم. وهذا ما يعطي أصولنا سمة الثبات والتحرر من الرؤى الجزئية المحدودة والوقتية التي يتسم بها نظر الإنسان إلى الأمور المختلفة. وهذا يعني انفصالاً جيِّداً بين الذات والموضوع؛ إذ إن استقلال الوحي عن التراث منحنا جرأة نادرة في مقاومة استحالة التراث واجتهادات البشر إلى قيود ومحدِّدات تجعل مستقبلنا ومتطلباته الفكرية والثقافية مرهونة لدى اجتهادات ورؤى ماضية. كما أن ذلك يجعلنا قادرين على ألا نكرر أخطاء الماضي وخطاياه التي قادتنا إلى الموقع الذي نحن فيه اليوم. كما أن هذه الوضعية الحضارية المتفردة والجامعة بين إلزامية الوحي والتخير من التراث – تمكننا من إنتاج حضارة تجمع بين جنباتها تنوعاً لا حدود له في إطار من التوحد الملتزم بمبادئ هذا الدين وقطعياته وغاياته.
ويعني ذلك مرة أخرى ثراءً حضارياً، يتسع لبني البشر جميعاً دون أن نفقد الاتجاه، أو نقود البشرية إلى الهاوية، على نحو ما تفعله الحضارة المادية اليوم. ونخلص من وراء ذلك كله، إلى أنّ التراث لا يشكل بمفرده (هُويتنا) العقدية والثقافية؛ كما أن تعزيز الشعور بتلك الهوية لا يتم من خلال العودة إلى التراث فحسب. فهويتنا مستمدة من المنهج الرباني نفسه. ووظيفة التراث إغناء المنظومات الرمزية والشعورية والعقلية لدينا بالمواقف والمُثُل الطيبة. لكنه لا ينفرد بتشكيلها. وهذا هو السر في قدرة هذه الأُمّة على التجدد والتجديد كلما أدت تراكمات العادات والتقاليد إلى وضع أكوام الرماد فوق جذوة التوحيد وألق المنهج الرباني الذي أكرمنا الله – تعالى – به.
وتشهد أُمّة الإسلام اليوم حركة عودة إلى التراث واسعة جدّاً نشراً وتمثلاً واستلهاماً. وتلك إحدى ثمرات المد الإسلامي الذي يشهده العالم اليوم. ويمثل جزء من تلك العودة رغبة أكيدة في التعرف على الذات والهوية الإسلامية وفق النموذج الذي يقدمه سلوك السلف وفهمهم لمختلف جوانب الحياة العقدية والفكرية والحضارية عامة. ويمثل جزء لا يستهان به من تلك العودة نوعاً من تحصين ذاتنا ضد الهجمة الشرسة والضغوط الضخمة التي تمارسها الثقافة الغربية على ثقافتنا العربية الإسلامية.
وتمثل العودة إلى التراث بعد هذا وذاك نوعاً من الاحتجاج الضمني على تفكك منظومات القيم، وانهيار الثقافات المحلية، والإخفاقات الكثيرة في أكثر المعارك الحضارية التي نخوضها على مختلف الصعد؛ وتمثل احتجاجاً على المحاولات الكثيرة الرامية إلى سلخ هذه الأُمّة عن تراثها برمته خيره وشره. وذلك ليس بهدف التحضير لتمثل الحداثة والمعاصرة؛ وإنما من باب التمهيد الثقافي للعيش عالة على فتات موائد الآخرين الذين لا يرون فينا أيّة أهلية لتقليدهم أو الاستفادة منهم!.
هذه في ظني هي التفسيرات المحتملة لهذا الالتصاق الحميم بالتراث الذي بدأنا نلمسه بشكل مكثف منذ ثلاثة عقود على الأقل. هذا التواصل مع التراث لم يتم من قبل الذين يرون توظيفه والاستثمار فيه فحسب، وإنما من قبل شريحة ثقافية أخرى، لم تتصل بالتراث إلا بغية نقده، وكشف عواره، والاعتقاد أنه يمثل الحاجز الأكبر بيننا وبين التقدم. ويمكن أن نذكر هنا بإيجاز ثلاثة مواقف متباينة من التراث على النحو التالي:

- الأوّل: موقف الذوبان في التراث:
وهذا الموقف يتبناه كثير من الإسلاميين؛ وذلك من خلال حركة النشر الواسعة التي تدفع لنا يومياً بعشرات الكتاب التراثية على امتداد العالم الإسلامي؛ حيث تأسست المئات من دور النشر وهيئات ومكاتب التحقيق التي أخذت على عاتقها تحقيق التراث ونشره، بغض النظر – في بعض الأحيان – عن القيمة العلمية للكتاب المنشور؛ بل بغض النظر عن كون الكتاب المنشور يساهم في دفع ثقافتنا في الاتجاه الصحيح، أم يساهم في تشويهها وزيادة عجزها عن استيعاب النظم الحضارية المعاصرة! فهناك كتب كثيرة تحيي معارك عقدية وفقهية وتاريخية بين فرق ومذاهب ليس لها وجود الآن. وكتب مشتملة على أحاديث ضعيفة وموضوعة كثيرة، تنتشر دون أي تحقيق، ولا تنبه إلى مدى ما يمكن أن تحدثه من أضرار في تصوراتنا وبنياتنا العقلية. وكتب كثيرة تبرز قضايا وموضوعات جزئية جدّاً، وتشغل الناس بها، من نحو ما نراه اليوم من كتب تفسير الأحلام والكتب التي تتحدث عن الجان والعفاريت وكيفية التحصن منهم... وكتب مملوءة بالخرافات والأساطير عن فضائل فلان وكرامات علان، لا تستند إلى أصل ولا فصل.
وهناك كتب كثيرة جدّاً لم يكن لها يوم أن أُلِّفت أية قيمة علمية، ولم تُحدث في زمانها أيّة أصداء ثقافية، وربما لم تُقرأ حينها؛ كما أنها لا تمثل اليوم أيّة إضافة فكرية أو معرفة لما هو مطبوع ومنشور في علومها وفنونها.
ولا يخفى أن أعداداً ضخمة من التجار ومتنوري العوام، صاروا يرتزقون من وراء نشر هذه الكتب مستغلين تعطش الشاب المسلم للتعرف على تراثه، والسطحية الموجودة لدى كثير من القراء.
وإلى جانب الحرص على نشر ما هو مهم من تراثنا، وما ليس مهماً نجد لدينا نوعاً آخر من الذوبان في التراث يتمثل في الخوف من كل قول، أو رأي لم نجد له سابقة تراثية، يجري التأسيس عليها؛ فترى الذين يدعون إلى الاجتهاد والتجديد يقفون موقف المشنِّع على من يأتي بقول جديد، مهما كانت درجته العلمية وخبرته. وهذا مع أنّ الحوادث غير محدودة، والنصوص محدودة، وليس أمامنا من خيار سوى الاجتهاد. وطبيعة الاجتهاد تسمح بالمجيء بقول موافق للسابقين أو مخالف لبعضهم. وحين يكون المجتهد مؤهلاً، وقد بذل أقصى جهده فإن علينا إفساح المجال له بإدلاء رأيه ما دام لم يخالف إجماعاً، أو قال قولاً في مسألة فيها أدلة ظنية، أي محتملة للاجتهاد، ثمّ الاختلاف.
ونحن إذا لم نجتهد تركنا مسائل كثيرة دون حكم ولا رأي، وهذا يعطل الحياة، أو يدفع الناس إلى ملء الفراغ بالقوانين الوضعية التي لا تستند إلى روح الشريعة ولا نصوصها.

- الثاني: موقف الجاحدين للتراث:
ليس بين الأُمم الموجودة اليوم، أُمّة تملك تراثاً كالذي تملكه أُمّتنا، في تنوعه وغزارته. كما أنه لا يوجد تراث تعرض للطعن والجحد والتشريح بالقدر الذي تعرض له تراثنا الإسلامي. وقد فتح المستشرقون الأوربيون باب نقد تراثنا بوضع المناهج النقدية، وبدراسة نماذج منه على نحو يوحي للقارئ بتفاهته وضآلته وكونه العقبة الكؤود التي تحول دوننا، ودون تمثل النظم الحضارية الحديثة. وكان القصد النهائي من وراء ذلك كسر شوكة الاعتزاز بذلك التراث تمهيداً لاحتلال وعينا، وتهيئتنا للغزو الثقافي الضخم الذي جاء في أعقاب ذلك.
وورث مناهج المستشرقين وراؤهم ونتائج بحوثهم أعداد ضخمة من الباحثين من بني جلدتنا، وصارت مهمتهم إكمال ما بداه أساتذتهم. وزاد في عدائهم للتراث الإخفاقات المتتالية التي واجهتها النظريات والمناهج والحكومات التي حذت حذو الغرب في التنمية والتحديث؛ حيث وجدوا في التراث (الشماعة) التي يمكن أن يُعلق بها كل انكسار وإخفاق يحدث لهذه الأُمّة في عصورنا الحديثة. يقول من يسمونه بـ(مفكر الجيل) د. زكي نجيب محمود: "هذا التراث كله بالنسبة إلى عصرنا فَقَد مكانته؛ لأنّه يدور أساساً على محور العلاقة بين الإنسان و(الله)، على حين أن ما نلتمسه اليوم في لهفة مؤرِّقة هو محور تدور عليه العلاقة بين الإنسان والإنسان".
ويرى بعضهم ضرورة الإسراع في التحديث، وجواز استخدام العنف في سبيل الخلاص من التراث؛ يقول حسن صعب: "ما دام التحديث ضرورة للتقدم، والتقدم يجري بالسرعة الخارقة التي نشهدها؛ فإنّ التمهل في إزالة عوائقه باسم التدرج أو التطور، هو إيغال في التخلف بوعي، أو بدون وعي". ويقول أيضاً: "إنّ التحديث طريق ثوري للتقدم. إنّه يتطلّب تغييرات نوعية وكمية سريعة في الفكر والسلوك. وليس هناك من يماري اليوم في ثورية التحديث، أو ثورية الانتقال من التخلف إلى التقدم. ولكن التساؤل هو حول العلاقة بين الثورة والعنف... وليس النضال في سبيل التقدم، أي: في سبيل التحديث أقل خطراً من النضال في سبيل التحرر السياسي. ولذلك يبدو العنف فيه حقاً للإنسان المناضل أو الثائر في سبيله إذا تعذر عليه سبيل الإقناع السلمي".
ويرى أدونيس: "أنّ المجتمع العربي بحاجة إلى تغيير شامل جذري لا يتم إلا بالثورة".
ومن نفس المنطلق التحديثي صفّق نديم البيطار لهزيمة حزيران التي لابدّ أن تقضي على كل البنى التقليدية في المجتمع العربي؛ إذ سيصبح العرب أكثر من أي وقت مضى أمام اختيار لا مهرب منه: فإما التخلص من التقاليد، أو الإبقاء على الاحتلال الصهيوني؛ لأنّ التخلص من التقاليد هو شرط التخلص من الاحتلال!
أمّ الأسس التي علينا أن نحدّث حياتنا على هديها؛ فهي المقاييس التي ترضيها الحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي والماركسي؛ فعلى مقدار الاقتراب من أحد النموذجين تكون درجة تحضرنا. لكن الكل مجمع على أن شيئاً من التحضر لن يتم ما لم ننسلخ عن الماضي بكل ما فيه، ونستأنف المسيرة من جديد!!.

- الثالث: الموقف الانتقائي:
يرى كثير من المفكرين المسلمين سلوك السبيل المعتدلة المتوسطة بين الذين ذابوا في التراث، وبين الذين يريدون الخلاص منه ودفنه؛ فهم يرون التراث عبارة عن ثمار جهود بشرية، اهتدت بهدي الإسلام الحنيف غالباً، وتفاعلت مع مبادئه وأطره. وكان أصحاب تلك الجهود بشراً من البشر، يجتهدون، فيصيبون، ويخطئون.
وقد يغلب عليهم الركود والتقليد أو الهوى؛ فيعجزون على الاستفادة من المنهج الرباني في التعامل مع أحداث عصرهم؛ فتكون مواقفهم وأقوالهم موضع الإدانة من المنهج الرباني نفسه. والنقد لبعض أعمال السابقين ليس وليد رغباتنا في التجديد، وإنما تمّ في أزمة ماضية، بدءاً بعصر الصحابة – رضوان الله عليهم – ثمّ ما تلاه من عصور؛ فقد كان العلماء الربانيون والأئمة المجتهدون ينتقدون الأقوال والأعمال التي يرونها مخالفة للحق والصواب، وينبهون الأُمّة على ضرورة البعد عنها، والحذر منها. وكتب التراث تطفح بذلك. ثمّ إن الانحرافات التي وقعت من الأجيال السابقة – التي نسمي إنتاجها تراثاً – هي التي وصلت بهذه الأُمّة إلى الوضع السيِّئ بعد أن كانت في القمة. ومن ثمّ فليس من الصواب إطلاق القول بأنّ السابقين كانوا أكثر منا تفتحاً وحرِّية وحداثة في إنتاجاتهم الثقافية، وفي قبول الجديد. فأنواع التحلل من القيم الإسلامية وتيارات الزندقة والمجون والمفاهيم الخاطئة – كل ذلك ليس من التفتح في شيء. والاستناد إليها على أنها نماذج تاريخية وتراثية – يصح البناء عليها والاستفادة منها – نوع من النكوص الحضاري وإعادة إنتاج الخطايا والأخطاء من جديد.
ولابدّ من القول: إن قدرتنا على التعامل الصحيح مع التراث والاستفادة الجيِّدة منه، تتوقف على مدى نمو (ذاتيتنا) الثقافية اليوم، ومدى وعينا بعصرنا ومتطلباته، ومدى وعينا بحاجاتنا وإمكاناتنا.
وما هذا الاضطراب الواسع في التعامل مع التراث إلا المرآة العاكسة لما تعانيه كينونتنا الثقافية من خلل، وما نعانيه من الغموض والانبهام في إدراك متطلبات الواقع واستشرافات المستقبل.
ويمكن هنا أن نوجز بعض تفاصيل الموقف الذي يجب أن نتخذه من التراث على النحو الآتي:

1- توظيف التراث:
تراثنا غني بالتجارب والأساليب والنماذج التي تثير الإعجاب، والتي نرى أنها تمثل استجابة ظاهرة للمنهج الرباني الذي أكرمنا الله به، والتي نرى أنها ما زالت تسعفنا بصور شتى في إصلاح شؤوننا اليوم، وفي إعمار الأرض التي نعيش عليها. وهذا كثير جدّاً في تراثنا، ومن نحو المظاهر الحضارية والإنسانية التي سادت في حضارتنا فترات طويلة، كآداب القضاء وأنواع الأوقاف ومساعدة الضعفاء. وكبعض الأساليب التربوية والتعليمية، وغير هذا كثير، مما لم يزل صالحاً في شكله وجوهره لإعادة تطبيقه وتوظيفه في حياتنا المعاصرة.

2- الاستلهام:
ونعني بالاستلهام جعل المواقف التراثية بمثابة المحفّز والدافع لنا نحو الإنجازات الكبرى. وهذا يعني التركيز على الجوهر دون المظهر. وذلك كالذي نجده في سيرة أفذاذ هذه الأُمّة من روح التضحية والعطاء والبذل في سبيل الله – تعالى – وفي سبيل الصالح العام. وكالذي نجده في سير العلماء من قبول الحق والصبر على طلب العلم والصدع بالحق والزهد في طلب الدنيا والجاه. من الحرص على المصلحة العامة، وإشاعة المعروف وتحقيق العدل وقبول النصح، ومشاورة أهل الحل والعقد. وكالذي نجده سائداً في المجتمع الإسلامي، من إكرام الضيف، ونصرة المظلوم، وحماية الضعيف والإنفاق على المعسرين، وصون الحياة العامة من الانحراف، والحرص على نظافة البيئة والرفق بالحيوان...
وإنما تكون الاستجابة لجوهر هذا النوع دون نظمه وشكلياته، لأن تراكم المعارف والخبرات الإنسانية وتعقد ظروف الأداء واتساع الحاجات وتنوعها – جعلت المراحل الزمنية السابقة قاصرة – بصورة غالبة – عن الوفاء بحاجات المراحل اللاحقة. فالتنظيمات والأطر والأوعية الحضارية المختلفة التي كانت سائدة أيام الصحابة – رضوان الله عليهم – لم تتسع للمستجدات في حياة التابعين؛ مما دعاهم إلى الاجتهاد والاقتباس مما عند الأُمم الأخرى. كما أن ما توفر من ذلك في زمان التابعين لم يف بحاجات تابعي التابعين، ففعلوا ما فعله أسلافهم وهكذا...
والإصرار على نقل الأشكال التي استهلكها تقادم الزمن وتطور الحاجات سيكون في ضرره قريباً من نبذنا المضامين الخيرة لها.

3- التجاوز:
نعني بالتجاوز هنا غض الطرف، وعدم الوقوف عند بعض ما كان سائداً في الأيام الماضية مع أنّه تراث إسلامي؛ وذلك لأنّه كان يلبي حاجات مؤقتة، أو لأنّه كان يعبّر عن أزمة أكثر من تعبيره عن الالتزام بالهدي الرباني، أو الواقع التاريخي المعيش، أو لأنّه كان رد فعل خاطئاً، أو نتيجة سوء تقدير، أو سوء فهم للمنهج الرباني، أو كان نتاج رؤية جزئية محدودة لبعض الأمور والقضايا... وبكلمة واحدة، هي: كما أن كثيراً مما يتم إنتاجه اليوم على المستوى المعرفي والصناعي والتنظيمي – لا يستحق أن يقرأ، أو يطبق، أو يُقتنى؛ فإن في الماضي أشياء كثيرة لا تستحق الاهتمام، وقد حصل في عصور الجمود والانحطاط – بعد ذبول الحضارة الإسلامية وكفها عن النمو والعطاء – أن قعد الفكر عن الإبداع والتوليد واجتراح المجهول، كما ضعفت حركة اليد، وصارت عطالة كل منهما تمد في عطالة الآخر عبر دورات رديئة مزعجة. فغلب جانب التأمل الفلسفي على جانب المزاوجة بين البحث العلمي والتجربة الحية. وساد الجدل اللفظي تأثراً بالمنطق اليوناني، ونتيجة لضعف حركة المعلومات؛ صار توصيف خصائص الأشياء، وتعليل الظواهر المختلفة ينبع من تصورات واهمة، لا مكان لها إلا في أذهان قائليها. ودخلت الأُمّة في مرحلة رديئة من (اجترار الذات)، فكثرت الشروح والمختصرات والحواشي وكتب العرافة والتنجيم والسحر، وانفصل الفكر عن الواقع، فتوجه التنظير للواقع التاريخي، وصار الواقع المعيش عاطلاً من الفهم والتعليل والمعالجة. وقد يستغرب المرء أن (ألفية ابن مالك) قد شرحت بما يزيد على (120) شرحاً!. وأفرد الترمذي – (ت 279هـ) شمائل المصطفى (ص) – في كتاب، فجاء بعده أكثر من (13) مؤلفاً اشتغلوا بشرحه! وكتب القاضي عياض كتاب (الشفاء)؛ فإذا أكثر من (20) مؤلفاً يقومون بالشرح والاختصار.
ومنذ القرن السابع الهجري حتى القرن الرابع عشر ألف بعض العلماء نحواً من (29) كتاباً في أسماء النبي (ص). وهذا كله مع أن هناك جوانب أكثر أهمية في حياته (ص) كانت بحاجة إلى العناية والتوضيح. والأُمّة اليوم تعاني من مشكلات جمة، والطاقات محدودة، والوقت لا ينتظرنا، وأوقات القراء وأموالهم أيضاً محدودة. وليس ذلك فحسب؛ بل إن من التراث الذي ينشر الآن ما يمثل تراجعاً ونكوصاً عن مسيرة العمل؛ حيث يكون ما ألّف قبله أكثر نفعاً وأوعى للمعرفة منه.
فينبغي أن نحقق، وننشر من ذلك (الكم) الضخم من الكتب التراثية ما يمثل إضافة حقيقية للمعرفة السائدة في زماننا في التخصصات كافة. كما أنه ينبغي أن نعنى بنشر ما يشير إلى الملامح التطورية لكل تخصص، كأنّ ننشر أول كتاب أُلف في ذلك التخصص، وآخر كتاب أضاف إضافة حقيقية إليه.
وكأن ننشر الكتاب الذي يشكل قفزة نوعية في فنّه، أو يشكل منعطفاً، أو يعرض وجهة نظر مغايرة لما هو سائد وهكذا...
ولا ينبغي – في نظري – أن نقف كثيراً عند أشكال العمارة والجسور والأنفاق التي شيدت في الماضي؛ ولكن نستفيد مما قد يكون فيها من الستر والمتانة والعزل الحراري والتهوية والإحاطة بالمسجد... مما هو دائم النفع، وينسجم مع مبادئنا وحاجاتنا.

4- الاعتبار:
في تراثنا نجاحات كثيرة، وإخفاقات أيضاً كثيرة. وإن الله _ تعالى_ أمرنا في مواضع كثيرة في كتابه، وعبر القصص القرآني أن نأخذ العبرة من أعمال السابقين وانتكاساتهم؛ حتى لا نصير إلى عين النتائج التي صاروا إليها إذا ما نحن سلكنا سبلهم. وتاريخنا وتراثنا أولى بالاعتبار والاستفادة. ولا نعني بالاعتبار أنّ العبرة لا تؤخذ إلا ما هو خطأ؛ فقد يكون عمل ما في حد ذاته (محايداً) لكن وروده في سياق معين وظروف محددة أدى إلى جعله خطأ.
وفي البداية فإن مما لا شك فيه أن أخطاءً كثيرة ارتكبت، ومعاصي جمّة اقترفت أدت بمجموعها إلى أن تترك هذه الأُمّة مكان الصدارة، والصيرورة إلى البحث عن مكان في ذيل القافلة، وصرنا – كما في حديث القصعة – غثاء كغثاء السيل مع كثرة العدد، ووفرة الإمكانات؛ ففقدنا الوزن والتجانس.
إنّ مواطن الاعتبار في تراثنا وحضارتنا أكثر من أن تحصى: فالركون إلى الدنيا والتمادي في الترف أديا إلى الأحقاد الشخصية وحولا المجتمعات الإسلامية إلى بؤر للصراع الاجتماعي. والفهم الخاطئ للقضاء والقدر، والزهد أدى إلى فشوّ الكسل والبطالة والجبرية وتعذيب الأجساد والانفصال عن واقع الحياة. والإسراع في حركة الفتوح أدى إلى قصور آليات الاستيعاب التربوي والثقافي والاجتماعي عن مواكبتها. واعتماد النظام (اللامركزي) في الحكم مع عدم تطوير نظام الشورى على نحو ما يقتضيه اتساع رقعة الدولة أدى – مع أسباب أخرى – إلى تفتيت الدولة العباسية. والجري وراء المنطق اليوناني الذي يعادي التجربة.. أدى إلى انطفاء شعلة المنهج التجريبي، وإلى التخلف في الإنتاج الصناعي، وكساد سوق الحِرَف والمهن، وهكذا...
إنّ الاعتبار بما مضى من أيام الله يحتاج منا إلى التمتع بأهلية الرؤية الشاملة، ومحاولة تلمس الظواهر الكبرى في تاريخنا، والبعد عن الغرق في الجزئيات، ثمّ البحث في العلل والأسباب الكامنة وراء حدوثها.

5- النقد:
إن أبناء جيلنا ورثوا عن الآباء والأجداد الكثير من الأمجاد والبطولات والتجارب النافعة. كما أنهم ورثوا تركة مثقلة بالمشكلات. ومن حق الورثة أن يسلطوا الأضواء على ما ورثوه، فيحاولوا الانتفاع بالجيد وفرز الرديء؛ ما دام ليس من الصواب رفض ذلك الإرث جملة واحدة، أو قبوله جملة واحدة. وهذا ما فعله الأخيار في كل مرحلة من مراحل تاريخنا؛ فكانوا لا يسمحون للأخطاء أن تستشري فيهم مهما كان نوعها. وكتب الأقدمين تطفح بالردود على آراء ونظرات سابقة. فقد أبى الله – تعالى – الكمال إلا لكتابه، والعصمة إلا لأنبيائه.
وإنّ الواحد منا ليؤلف الكتاب، أو يعمل العمل، ثمّ يعيد فيه النظر بعد (مُديْدة)؛ فإذا به يكتشف فيه خللاً، أو يكتشف في نفسه قدرة على السعي به نحو موقع أكمل!. إنّ العقل الإنساني محدود، وهو لا يبصر الأشياء إلا ضمن حدود الزمان والمكان وقيودهما. ومن ثمّ فإنّ القصور لابدّ واقع في منتجاته كلها.
ولابدّ لنا هنا من الإشارة إلى أمر مهم، هو: أنّ الحكم بالخطأ لا يقتضي اللوم دائماً وذلك لأن من الإنصاف أن نضع كل شيء ننظر إليه في سياقه التاريخي والمعرفي. ونظراً للتقدم العلمي الهائل؛ فإن من الطبيعي أن يثبت خطأ كثير من الأقوال والتعليلات والمواقف السابقة لدى الأمم والأجيال جميعاً، وأن يخفت بريق كثير من النظريات والأساليب والمعارف المختلفة. ونحن إذ نحكم بالخطأ أو القصور على شيء من ذلك نوجّه اللوم حين يقصر صاحب الرأي أو التجربة في استخدام الوسائل المتاحة في عصره، أي: حين يكون متخلفاً عن عصره ذاته، لا عن عصرنا نحن. أو حين يخالف العالم المسلم بينات المنهج الرباني مخالفة تعد انحرافاً لا اجتهاداً مؤصّلاً. أما ما عدا ذلك فإنّ الحكم بالخطأ لا يعني الحكم باللوم أو التقصير. فنحن لا نلوم أهل القرن الثالث الهجري؛ لأنّهم لم يصنعوا درّاجة، أو لأنهم لم يكتشفوا قوانين الجاذبية... وذلك لأنّ العتبة المعرفية السائدة في تلك الوقت لا تسمح بذلك. ولو كان كبار عباقرة ومخترعي عصرنا يعيشون في تلك الحقبة؛ لما أمكنهم أن يقدموا للناس شيئاً مما قدموه في العصر الحديث.
ومع كل هذا فإنّ النقد لما نعتقد أنه خطأ أو انحراف يظل ضرورة حيوية. وذلك النقد برهان ساطع على التقدم المعرفي، وعلى أن جهود العلماء السابقين مصيبها ومخطئها – قد قامت بوظيفتها حين رفعت درجة وعينا وخبرتنا وتقنيتنا، وساعدتنا على أن نتجاوزها، لنتمكّن في النهاية من نقدها وتقويمها.
وتكمن أهمية النقد في أمرين أساسيين:
الأوّل: أنّ النقد يسهم في بلورة وعينا بذاتنا من خلال منحه المحددات والمشخّصات لأبعاد هذا الوعي ومفاصله ومحصلاته؛ حيث نحاول أن نجعل منه ذاتاً (لا استمرارية) للسياقات والمعطيات السابقة.
ونجعل مما ننقد موضوعاً نعمل فيه وعينا وخبراتنا المتراكمة؛ وذلك سعياً للمحافظة على التواصل مع أهدافنا والاتجاه الذي رسمناه لأنفسنا؛ كيلا يذهب به الامتداد.
الثاني: أنّ النقد يساعدنا على النجاة من تكرير الأخطاء السابقة؛ فالنقد يدل على إدراك الخطأ وتشخيصه ورفضه. وحين يُشفع بالتعليل المنهجي والمنطقي والتجريبي الكافي؛ فإنّه يمنحنا حصانة ممتازة ضد النكوص والتلطخ بأوحال الأخطاء السابقة.
ولا أظن أن من المفيد كثيراً أن نذكر نماذج مما ثبت خطؤه أو قصوره من أعمال السابقين، فذلك كثير ومعروف. لكن يظل المهم بالنسبة لنا هو امتلاك التفيكر السببي المنطقي، والتمتع بالحس النقدي، والاستحواذ على رؤية حضارية شاملة، تمكن من إدراك كل العناصر والأبعاد اللازمة لقيام أُمّة عاملة بواجب الاستخلاف في الأرض ونشر أعلام الهداية وإعمار الأرض بعيداً عن الانسياق وراء عنصر من عناصر البناء، أو الانجراف في تيارات المبالغات وردود الأفعال والرؤى الوقتية الجزئية. وعلى الله قصد السبيل.
المصدر: كتاب من أجل إنطلاقة حضارية شاملة

JoomShaper