تأليف : محمد فتحي
عرض: سلوى طلعت
الأمة الحية ثقافيًّا وفكريًّا تجد دائمًا سوقها الثقافية تعج بالمصطلحات في كل الفنون والمجالات، وهذه المصطلحات إذا انتشرت وتم تداولها بين عموم الناس ناهيك عن المختصين، فإنها تحتاج إلى ضبط حتى لا تختلف الأفهام حولها، وبانضباط المصطلحات تنضبط المفاهيم والتصورات.
ومن المصطلحات التي ظهرت حديثًا مصطلح "الإيجابية"، والذي كثر دورانه على ألسنة الدعاة والمربين دون تحديد لماهيته، فجاء هذا الكتاب "الإيجابية حياة الأفراد والمجتمعات" للأستاذ محمد فتحي النادي الباحث في الفكر الإسلامي في طبعته الثانية من إصدار دار الأندلس الجديدة للنشر والتوزيع، والذي يقع في 168 صفحة من القطع المتوسط، محاولة منه لتأصيل هذا المصطلح من الناحية الشرعية، وتحديد أبعاده، وملأ هذا الفراغ في المكتبة العربية والإسلامية.
مفهوم الإيجابية: وأول ما ابتدأ به المؤلف كتابه أن تعرض لمفهوم الإيجابية من الناحية اللغوية؛ حيث أوضح أن "الإيجابية" مصدر صناعي من الجذر اللغوي (وجب)، ووجب الشيء، أي: "لزم وثبت".
ثم عرّج على "الإيجابية" من الناحية الاصطلاحية فوجد أن العلماء لم تقدم تعريفًا لها رغم كثرة التناول، فحاول تقديم تعريف للإيجابية من وجهة نظره يعتبر نواة يمكن البناء عليه فعرفها بقوله: "هي حالة في النفس تجعل صاحبها مهمومًا بأمر ما شرعي، ويرى أنه مسئول عنه تجاه الآخرين مسئولية أدبية نابعة من ذاته، ولا يألو جهدًا في العمل له، والسعي من أجله".
فهو بهذا التعريف يقارب بين "الإيجابية" و"الذاتية"، وأخرج من الإيجابية أي عمل يتخذ للوصول إليه وسيلة غير شرعية؛ فالرجل الذي لديه همة عالية في جمع المال -مثلاً- ويسعى لتحقيق ذلك بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة كالسرقة -مثلاً- مهما كثر ماله لا يعتبر شخصًا إيجابيًّا، إلى جانب تأكيد المؤلف في التعريف على بذل الجهد والمداومة على ذلك، فليس بإيجابي مَن تأتيه صحوة عابرة تدفعه للعمل ثم تخبو ولا يصبح لها أثراً في حياته، فيرقد مع الراقدين.
قيمة الإيجابية وأهميتها: ثم يأتي صلب الكتاب تحت هذا العنوان، ويؤكد على أن الإيجابية هي الروح التي تدب في الأفراد فتجعل لهم قيمة في الحياة، وتدب في المجتمع فتجعله مجتمعًا نابضًا بالحياة، وهي الدليل الهادي والخريت الذي لا يضل الطريق، والأمل الذي لا يتبدد، والمطية التي لا تكبو، وهي صمام أمان للجميع، وهي جماع عدة أمور من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وبر ووفاء وصدق عهد مع الله .... إلخ.
ثم أخذ يُعدّد في نقاط بلغت تسع عشرة نقطة ما اعتبرها أن أهمية الإيجابية تكمن فيها، وقد اخترنا منها بعض النقاط:
1- تمنع من الانحراف في الدين:- يرى المؤلف أن الإيجابية تمنع من الانحراف في الدين؛ حيث إن هذا الدين الذي ختم الله به الرسالات، وأكمل به الشرائع، لو تُرك لكل واحد أن يدلو فيه بدلوه بالزيادة أو النقصان، ماذا سيكون حال هذا الدين؟!
لابد أن النتيجة الحتمية هي التحريف في هذا الدين، وضياع صورته الحقيقية، وتشويه شكله، وطمس معالمه الأصيلة، وتزييف أهدافه النبيلة.
ولكن لو أن كل مسلم علم أنه على ثغر من ثغور الإسلام، وأنه مطالب بالحفاظ على هذا الدين من تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، لظل هذا الدين في حصن منيع يستعصي على مَن يتربصون به الدوائر.
ومشكلة أي دين تكمن في الابتداع فيه؛ لذلك حذر النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- منه، بل هدد وأوعد مَن يقدم على هذا الفعل فقال: "مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي فَعَمِلَ بِهَا النَّاسُ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْزَارُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهَا شَيْئًا".
والبدعة لا تقوم ولا تظهر إلا عند غفلة أهل الحق، وقعودهم عن القيام بالمسئولية المنوطة بهم، المعلقة في أعناقهم، فإذا وَجَدَتْ عند ابتدائها مَن يردها، فإنها ترجع مدحورة إلى جحرها، ولا تزال تطل برأسها بين الحين والآخر، وتنظر من طرف خفي حتى تجد الغفلة والسهو من أهل الحق فتعود من جديد.
2- تعمل على تصحيح المفاهيم
إن المجتمع الإنساني تتفاوت فيه مستويات الفهم؛ فهناك مَن يسير على الجادة، وهناك مَن ينحرف به الطريق، والمجتمع الإسلامي ليس بدعًا في هذا الأمر، ولكن ما العاصم إذا ما حدث انحراف في الفهم؟
هنا لم يتركنا الإسلام للأهواء تتقاذفنا حيث تشاء، ولكنه وضح لنا المنهج؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي".
فالفهم الصحيح عند المؤلف يعتمد على شقين: شق نظري، وشق تطبيقي. أما النظري فهو كتاب الله، وأما العملي فهم القائمون على تطبيق ما جاء في كتاب الله، وعلى رأس هؤلاء عترة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو أن الأمر ترك هكذا كلٌ يفعل ما يراه صوابًا دون مرجعية من العلماء العاملين الذين يقفون بالمرصاد لكل من أخطأ الطريق، لوجدنا أن الإسلام ينشعب بعدد الآراء والأهواء.
3- تمنع من عذاب الله عز وجل:- المسلم الفطن هو الذي يعرف كيف يقي نفسه من السوء، بل ويقي غيره منه، وأعظم السوء أن يحل بقوم غضب الله وعقابه وانتقامه لذنوب اقترفوها ولم يرجعوا عنها.
ولا يحل العذاب بقوم إلا إذا فشا فيهم المنكر غير عابئين بنصح ناصح أو إرشاد مرشد، والطامة الكبرى أن يقع الجميع في المنكر ولا يوجد من يردهم عنه.
ولاشك أن الذي يتحرك لتغيير المنكر هو الذي ينجيه الله عز وجل من سوء العذاب، ويتضح هذا من تلك القصة التي أمر الله عز وجل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يذكّر يهود بها، فقال: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)
[الأعراف: 163-165].
4- تحافظ على المجتمع من عوامل الضعف:- المجتمع البشري كالأفراد تمامًا بتمام، يصيبه ما يصيبهم، والعلاقة بين المجتمعات والأفراد علاقة طردية؛ فكلما حسنت حالة الأفراد حسنت حالة المجتمعات، والعكس بالعكس؛ لأن المجتمع ما هو إلا أفراد البشر الذين تجمعهم علاقات وروابط وأهداف واحدة، ويعيشون في صعيد واحد.
فإذا كانت الأهداف والغايات سامية، والوسائل مشروعة، والتصورات واحدة، والتعاون بين الأفراد قائم، فهذا مجتمع قوي يقوم على أسس سليمة متينة.
أما إذا انحطت الغايات، واستخدمت الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وحدث اختلاف في التصورات، فالنتيجة الحتمية أنه لا تعاون بين أفراد هذا المجتمع، مما يكون مؤشرًا على ضعفه.
فالإيجابية هي التي تبني الفرد بناءً سليمًا، وإذا شعر الفرد بمسئوليته تجاه مجتمعه أهمه ما قد يجده من سلبيات فيه، فيعمل على تغييرها أو إزالتها بالتعاون مع مَن ينتهجون نفس المنهج وتجمعهم نفس التصورات.
وقد صور النبي صلى الله عليه وسلم في تصوير دقيق حال الأفراد إذا كانوا إيجابيين، ونتيجة ذلك على المجتمع الذي يعيشون فيه، والذي صوره بسفينة تسير وسط الأمواج المضطربة، وحالهم إذا كانوا سلبيين وأثر ذلك على المجتمع نفسه، صور ذلك كله في صورة تمثيلية فقال: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْمُدْهِنِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا يَصْعَدُونَ فَيَسْتَقُونَ الْمَاءَ فَيَصُبُّونَ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلاَهَا. فَقَالَ الَّذِينَ فِي أَعْلاَهَا: لاَ نَدَعُكُمْ تَصْعَدُونَ فَتُؤْذُونَنَا. فَقَالَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا: فَإِنَّا نَنْقُبُهَا مِنْ أَسْفَلِهَا فَنَسْتَقِي. فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ فَمَنَعُوهُمْ نَجَوْا جَمِيعًا، وَإِنْ تَرَكُوهُمْ غَرِقُوا جَمِيعًا".
5- تساعد في نشر الدعوة الإسلامية:- المرء الشديد التمسك بما يؤمن به تجده جذوة متقدة لا تخبو، يحوّل المكان من حوله من حال إلى حال، نتيجة لأثره فيه.
وهذا الأمر تستوي فيه كل العقائد والأفكار حتى وإن كانت باطلة، فتجد النصرانية بها من يكون شديد الحماس لها، ويبذل كل ما في وسعه، ولا يألو جهدًا في أن يبشر بها، ونجد كذلك الشيوعيين وغيرهم ينشرون أفكارهم؛ لأنهم مؤمنون بها، ومعتقدون فيها، ومخلصون في العمل لها.
والعيب ليس فيمن يبشر بما يؤمن به حتى ولو كان باطلاً، ولكن العيب فيمن يكون على الحق ولا يدفعه ذلك لنشر دعوته بين الناس، رغم أنهم في أمس الحاجة لها.
إن من تخبط البشر أن يلجئوا إلى ديانات وضعية كالبوذية مثلاً؛ لأنها قد تعالج بعض الأمور الروحية التي يفقدها الماديون في حياتهم، فلا هم بقوا على دينهم المحرف، ولا هم دخلوا في دين سماوي صحيح جاء من عند الله (الإسلام).
إن هؤلاء يحتاجون منا أن ندعوهم، وأن نكثف المجهودات لتبليغ رسالة ربنا جل وعلا لهم.. إن البشرية محتاجة لمن يقوّم لها تصوراتها، ويهديها سبلها، ويرشدها للمنهاج الأقوم، فقد جربت كل الطرق والحلول، ولم يبق إلا الإسلام.
وحالنا والإسلام كصاحب بضاعة متميزة لا توجد عند غيره، ولكنه لا يجيد عرضها على الزبائن، فيزهد فيها المبتاعون.
على مَن تقع الإيجابية؟
تحت هذا العنوان يحدثنا المؤلف عن النماذج الحية التي تعتبر النبراس لهذه الأمة، ووطأ لذلك بسؤال: هل الإيجابية يشترك فيها الجميع صغارًا وكبارًا.. شيوخًا وأطفالاً.. رجالاً ونساءً، أم أنها تنحصر في فئة معينة ولا تتعداها؟
وكانت الإجابة القاطعة بأنها تقع على شتى المراحل العمرية، وأن الكل يتحملون المسئولية، وإن كانت بدرجات متفاوتة، وبدأ في سرد بعض النماذج التي أخرجها من بطون كتب التاريخ، ولم يفته العصر الحديث فأورد بعض النماذج التي كانت مثالاً يحتذى على الإيجابية، والتي تدلل على أن هذه الأمة أمة ولادة مهما عصفت بها الرياح أو تهددتها المشاكل الطاحنة، فتحدث مثلاً عن حبيب النجار وأصحاب الكهف، وتكلم عن أبي أيوب الأنصاري وعمر المختار والشيخ أحمد يس ، وتحدث عن أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وبعض الصحابيات كأم سليم بنت ملحان (الرميصاء)، وختم حديثه بخنساء العصر الحديث السيدة مريم محمد يوسف فرحات (أم نضال)، والتي تقدم أولادها واحدًا تلو الآخر شهداء في سبيل تحرير فلسطين.
وصايا على طريق الإيجابية
ويختتم المؤلف كتابه بوصايا على طريق الإيجابية، ومنها:
- اعمل على نشر التناصح الإيجابي والعمل الفعال، وعدم ترك السلبية تتفشى بين الأفراد والجماعات.
- عدم المبالاة بالمعوِّقين الذين يقفون حجر عثرة في سبيل المصلحين.
- لا تفقد الأمل الذي يحدونا ويحمينا من اليأس القاتل.
- اعمل مع الذين يدعون لله وإياك وتركهم أو الابتعاد عنهم؛ لأن الذئب إنما يأكل من الغنم القاصية.
- توجه نحو العمل واترك الجدال والمراء.
- اعمل على توثيق الارتباط بين العلم والعمل، أو بين النظرية والتطبيق.
- من حسن التربية والتوجيه بذر بذور الإيجابية في النشء الصغير.
(الإيجابية... حياة الأفراد والمجتمعات)
- التفاصيل