د. بشرى بنت عبد الله اللهو
أدخلت ابنتي البكر إلى مستشفى الأطفال في يوم عقيقتها لحساسية في الصدر، كان منتشرا بين أطفال المنطقة الشرقية، قيل إنها من آثار حرب الخليج، وقيل من أثار التلوث البيئي الناتج من المصانع.
أدخلتها في مستشفى الولادة والأطفال الحكومي، وقام الزملاء والزميلات بالواجب، حتى انتهي بي المطاف إلى جناح الأطفال، وهناك تنتهي الواسطات وليس علي إلا مواجهة الواقع، حيث كان الجناح مكتظاً، ولا توجد غرفة خاصة، وعلي مشاركة الأمهات همومهن ومعاناتهن.
وكانت هذه أول تجربة تنويم لي، أول مالفت نظري، هو أنه في نهاية الممر، توجد غرفة يدخل لها الأطفال هادئين، ثم يخرجون منها باكين، أما أمهاتهن فمنهن داعية الله أن يشفي ولدها، ومنهن من تدعو على الممرضة والمستشفى و.... فتساءلت ما هذا المكان؟!
فردت جارتي:هذه مجزرة الأطفال!!
فأجبت بسؤال آخر: ماذا تعني بقولك؟!
- هنا يضعون إبرة المغذي الوريدي للطفل، يستخدمون إبرة كبيرة، ولا يستخدمون إبرة صغيرة ناعمة كالذي يستخدمها القطاع الخاص! فيتعذب الطفل حتي يكاد يهلك!
لم تمض دقائق حتى نودي علي فسألت: إلى أين؟!
فأجابت جارتي: إلى المجزرة، أنصحك أن تمكثي هنا، فلن يتحمل قلبك هذه المجزرة.
فتساءلت في نفسي: يا لبرود هذه الأم!! كيف أترك طفلتي في موقف عصيب كهذا؟!!
حملتها بيدي ووضعتها على طاولة  الفحص: فلم أرَ إلا والممرضة تجثم عليها، وتمسك بها بقوة، والأخرى تغرس بذراع  ابنتي بإبرة، غرستها أكثر من مرة ولم تعثر على الوريد، ثم انتقلت للذراع الأخرى، وأعادت السيناريو نفسه، وإذا بابنتي قد وصل بها البكاء مداه، فمن شدة بكائها انقطع صوتها، وإذا هي تحملق بعينيها إلى الأعلى، واحتقن وجهها من عسر تعانيه، وشعرت أن روحها تقرقع في الحلقوم، وأنا حينها أنظر لا أملك من أمري شيئا، فأدركت أنني كأم يجب أن يكون لي موقف، وألا أقف مكتوفة الأيدي، تركتها وابتعدت، وأعدت تقييم الموقف، الممرضتان كزبانية تعذيب عند سجون أحد الطغاة! وابنتي تئن من جراء تعذيبها، فلم تهدني عاطفتي إلا أن أبتهل إلى الله  بقلب ضارع: اللهم إنهم يعذبونها، ولا يرضيك أن طفلاً يعذب، اللهم توفها عندك وأرحها من هذا العذاب.
صمتت طفلتي، وطال صمتها، وهطلت دموعي، وأدركت أنها النهاية، وأنني فقدت ابنتي إلي الأبد، ارتبكت، ولم أدرِ ماذا أفعل؟!! لم يكن أحد من أهلي بقربي يساندني، فلم أجد إلا أقرب قريب فناديت بحًرقة: يا الله .
وما هي إلا ثوانٍ حتى عاد صراخ ابنتي، ففرحت فرحتين: فرحة بعودتها للحياة، وفرحة أن الله أحكم الحاكمين لم يستجب دعائي، فحمدت الله، وحررتها سراعا من بين أيدي الممرضتين وانطلقت بها، وغادرت غرفة التمريض تاركة ملابسها خلفي .
فإذا بجارتي بالمرصاد:هل تصدقينني الآن ماذا تعني المجزرة؟!
تعافت ابنتي وكبرت و حفظت القرآن وستتخرج بإذن الله من كلية طب الأسنان.
كلما تذكرت القصة أتساءل: كم كنا نختار خيارات نتمنى من الله أن يحققها،  فهذا ما ندركه في علمنا القاصر، وفي استعجالنا للخير، وما علمنا أن الله قد اختار لنا أفضل مما نتمنى.
لأنه مَن أرحم؟! أنت أم الرحمن الرحيم؟!

==============

JoomShaper