أسرة البلاغ
1- الوالدان:
شكرُ الوالدين شكرٌ منصوص، هو التالي لشكر الله تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) (لقمان/ 14)، شكر للّذين ربّياني صغيراً، مقدِّمين نفسي على نفسيهما، ومؤثرين هواي على هواهما، ولو سألت أي أب وأي أُم: أي المكافآت أفضل؟ لوجدت إجماعاً أو شبه إجماع.. أن يكون أولادنا قرّة عين لنا.
شكر الوالدين: دعوة إلهية، إذ لم يثنّ الله شكره على شكر أحد كشكر الوالدين، وهو نفحة إنسانيّة لمن يعتبروننا أو وجدونا (بعضهم) بل (كلّهم).. وفي الحديث: "مَن لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالِق"، يقول تبارك وتعالى لعبدٍ من عبيده يوم القيامة: أشكرتَ فلان؟ فيقول: بل شكرتك يا ربّ، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره!!
الآباءُ والأُمّهات جنودُ الرحمة الإلهية المسخّرون لخدمة (الأبناء)، هم أروعُ صور رحمته وأكملها، وكلّ رحمته كاملة، هم أياديه الرحيمة تمسحُ بالحبِّ على رؤوسنا، وعيونه الرحيمة التي تتفقّدنا، وقلبه الرحيم الذي يسعنا حبّاً وحدباً وكرامة.
يرى النّبي صلى الله عليه وسلم شابّاً بارّاً يحملُ أمّه العجوز على ظهره ويطوف بها حول البيت، فيسأل الشابُّ النبي صلى الله عليه وسلم: أوفيتها حقّها يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لم توفها طلقةً من طلقاتها"!!
(عطاء) الأبوين دائماً أكبر من (شكرنا) لهم، مهما كان شكرنا كبيراً، ومهما كان عطاؤهم صغيراً، وليس في عطاءهم صغير، لأنّه ينضح من قلوب ليس لنا فيها إلا الحب والرحمة، وإلا فهل تجدُ إنساناً يؤثرك على نفسه كأبويك؟!
شكرهم يبدأ بكلمات الشكر، مروراً بتقبيل اليدين، والإحسان إليهما والدعاء والإستغفار لهما، ولا ينتهي عند حدّ!
شكرُ الوالدين الأكبر هو أن تكون (إبناً بارّاً) بهما، و(عبداً صالحاً) لله، و(إنساناً نافعاً) في المجتمع، و(شخصاً مرضياً) في العمل والسلوك.
تلك أكبر المكافآت التي يمكن تقديمها لهم أحياءً وأمواتاً!
2- المُعلِّم:
"كادَ المعلِّم أن يكونَ رسولا"، والمعلِّم عنوان عريض يتسع لكلِّ مَن أضاء لنا علماً، وأنار دربنا بموعظة، أو أثرى حياتنا بتوجيه وإرشاد، أو أمدّنا بزاد المعرفة في أي باب، هو الرسول والإمام والعالمُ والمربِّي ومعلِّمُ المدرسة، والمرشدُ والداعيةُ والمبلِّغُ والخطيبُ والكاتبُ والمثقّفُ والأديبُ ومُقدِّمُ البرامج النافع والصديق المخلص... إلخ.
هؤلاء معلِّمون، لأنّهم أخرجونا من الظلمات إلى النور، قبل دروسهم، قبل علومهم كنّا عمياناً أو أشبه بالعميان، بعدها تفتّحت أبصارنا، واستنارت بصائرنا، فصرنا كيونس (ع).. نرى النور حتى في كبد الظلمات الحالكة..
كلّ معلِّم – بحسب مكانته – يضيفُ إلى لبنات بنائنا لبنة، أو لبنات، وإلى سجلّ حياتنا بصمة أو بصمات، وإلى شخصياتنا نضجاً أكثر وفهماً أكبر ووعياً أرقى وحركةً أنشط وعطاءً أوفر، ولذا فإنّ يدَ المعلِّم بيضاء كيد الأب، الأب المعلِّم الأوّل، وهو الأبُ الثاني، ولذلك أيضاً فكل معلم يستحقُّ شُكرين: لتعليمه مرّة ولأبوّته مرّة!
قيل (للإسكندر): ما بال تعظيمك لمؤدِّبك أكثر من تعظيمك لأبيك؟
قال: لأنّ أبي سبب حياتي الفانية، ومؤدِّبي سبب حياتي الباقية!!
وكان (الكسائي) يؤدِّب الأمين والمأمون أولاد هارون الرشيد، فإذا أراد النهوض من عندهما، تسابقا على تقديم نعله له، ثمّ يصطلحا على أن يُقدِّم كل واحد منهما واحدة، فقال له هارون: مَن أعزّ الناس؟
قال الكسائي: لا أعلم أعزّ من أمير المؤمنين.
قال: بلى، إنّ أعزّ الناس مَن إذا نهض تقاتل وليّا عهد المسلمين على تقديم نعله له، وزاد في عطائه على حُسن أدبه لهما، وفي عطائهما على حُسن تواضعهما.
ودخل مؤدِّب (الواثق) عليه، فأظهرَ إكرامه، وأكرم إعظامه، فقيلَ له: مَن هذا يا أمير المؤمنين؟
قال: هذا أوّل مَن فتقَ لساني بذكر الله، أُذنايَ على رحمة الله!!
3- الصديقُ المُخلص:
هذا إنسانٌ كريمٌ يستحقُّ كُلّ الشكر، لأنّه سببٌ من أسباب صلاحنا وعافيتنا وهدايتنا، حين رآنا نتجنّب الصواب ونسير في طريق الأخطاء والعثرات، أشفق علينا، فأخذ بأيدنا ليخرجنا ممّا نحنّ فيه، ويحذِّرنا من مغبّة ما نحنُ مقبلون عليه، ولمّا رآنا نخطو صوب الصلاح شجعنا على المضيفي طريقه.. وسار معنا فيه، إنّه سببٌ من أسباب نجاحنا ونجاتنا وخلاصنا واستقامتنا، أحبّنا في الله، وصافانا في الله، آخانا في الله، وأعطانا في الله، وسيرافقنا في رحلة المحبّة إلى الله في نعيم جنّته، لنكون وهو على سُرر متقابلين.
4- الزوجة:
الزوجة لأنّها العاملةُ بلا أجر، وهي تستحقّه، هي المتعاطية بروحيّة العطاء الإيثاري لا بروحية العمليات الحسابية الأربع..
لها الحق في أن تُطالِب بالأجور على جميع خدماتها بما في ذلك إرضاعها لولدها؛ لكنّها (تُقدِّم) ذلك و(تُقدِمْ) عليه بطيبِ خاطر، ونموذجٍ أريحيّ آسر.
كم تستحقُ من الشكر هذه التي تحيلُ بيتها إلى جُنينة ينسى فيها الزوج والأولادُ همومهم وتعبهم، ويجدون الأنس والراحة والحنان واللّقمة الشهية، والكلمة الأشهى والإبتسامة العذبة، والرحمة أودعها الله فيها (زوجةً)[1] و(أُمّاً)[2]!
5- الخادِم:
مُقدِّمُ الخدمة – أي خدمة – مجانيّة أو مأجورة يستحقّ الشّكر منّا، هو يقفُ في انتظار خدمتنا وتوفير سبل راحتنا، وقضاء بعض حوائجنا، إنّه رهن الإشارة يتعب من أجل أن يوفِّر لنا وقتاً أوسع لأعمالنا وراحتنا أيضاً.
قد ينظر البعض لعمله نظرة دنيا أو دونيّة؛ لكنّها يتحمّلها هانئ البال لأنّه يُقدِّم خدمته لمستحقِّها.
إنّ عامل التنظيفات الذي يعيش بين الأوساخ والجراثيم والروائح الكريهة لنحيا في نظافة وسلامة من الآفات والأمراض في بيئة سليمة صالحة تسرُّ الناظرين يستحقّ الشكر منّا كلما تذكّرنا نظافة شوارعنا وساحاتنا وحدائقنا العامّة، بل وبيوتنا أيضاً، إذ لولاه لتراكمت الأوساخ وفضلات الطعام والنفايات في بيوتنا وفتكت بنا الأمراض.
كان لدى النبي صلى الله عليه وسلم خادم خدمه لمدّة طويلة، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم يُكرِّمه ويكافئه على طول وحسن خدمته ورعايته له، فسأله عمّا يتمنّاه منه في قبال خدمته المشهودة والمشكورة؟
فكّر الخادم مليّاً، وقال: أن تكون شفيعي يوم القيامة لأدخل الجنّة معك! أطرقَ النبي صلى الله عليه وسلم ثمّ رفع رأسه مبتسماً، وقال: لك ما تُريد، ولكن أعنِّي بطول السجود!
(الجنّة) شكرٌ على (خدمة)!
درسٌ للمطفِّفين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون!!
6- المُحسِن:
سُمِّي المحسنُ محسناً، لأنّه يقدِّم عملاً حسناً للناس فيستحسنوه، والشائع أنّ المحسن هو المتبرِّع بالمال فقط، والحال أنّه لا يصحّ حصرهُ به وإن كان هو من أبرز مصاديق الإحسان، فكلُّ عامل بالحسنى فهو محسن مادِّياً كان إحسانهُ أو معنويّاً، وعلى ضوء هذا، فالوالدان حسنان لأولادهما، والمعلِّم محسن لتلاميذه، والعالِم محسن لمريديه، والمصلح محسن لمن يصلح أوضاعهم، ويرأب الصدع بينهم، ويعيد بناء جسور الثِّقة بينهم من جديد، والساعي في قضاء حاجات الناس محسن، والدال على الخير محسن، والمكثِّر للسواد[3] محسن، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من أفضل المحسنين، لأنّهم ينظِّفون الساحة الإجتماعية من (الأوساخ) و(الجراثيم) و(السموم) و(التلوّث) و(الروائح الكريهة) ممّا تعجز عنه بلديات العالم كلّه، ويزرعون من شتلات الحبّ، وزهور المودّة، وبذور الخير والتعاون والتكافل ما لا يستطيع المزارعون في كلّ الدنيا الإتيان بمثله.
المحسنون في حياتنا كثيرون، نلتقيهم في دروب الحياة كلّ يوم، ولأنّهم متطوِّعون يزجون الخدمة ويسدون المعروف لوجه الله، فقد لا نلتفت إليهم، فإذا رأيت مجتمعك (أكثر نظافة) تذكّر أن هناك مَن قاموا بتنظيفه، واشكرهم، قد لا تعرف أسماءهم، اللهُ يعرفهم، اشكرهم عن طريقه!
[1]- زوجةً، لقوله تعالى: (وجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدّةً ورَحْمَةً) (الروم/ 21).
[2]- أُمّاً، لقوله سبحانه: (إن كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) (القصص/ 10).
[3]- مُصطلح "تكثير السّواد"، يُراد به الذين تعمرُ بهم المساجد والمراكز والأنشطة الإجتماعية، فمجرّد حضورهم ومشاركتهم بالإستماع هو بحدِّ ذاته إحسان لأنفسهم ولغيرهم.
هؤلاء يستحقون الشكر وهم أولى به
- التفاصيل