أسرة البلاغ
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال/ 53).
(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد/ 11).
الحياة حركة وانتقال.. والعالم بأسره في حركة دؤوبة.. سواء المادي منه أو الإنساني.. فلا شيء يعرف الثبات والاستقرار غير قوانين الحركة والتغيير التي تتحرك وفقها المادة والنفس والفكر والمجتمع..
وإنّ من أهم قضايا المجتمع وموضوعات علم الاجتماع هو التغيير الاجتماعي.. وإنّ المهنة الأساسية للرسالات الإلهية هي إحداث التغيير والإصلاح في الحياة البشرية، والانتقال بها من وضع إلى وضع أرقى وأفضل، وقد عبّر القرآن عن التغيير بتعابير مختلفة.. فمرة بالكلمة الموضوعة للتغيير، كما في الآيتين الواردتين أعلاه، اللتين تحدثنا عن منطلق التغيير، وهي النفس الإنسانية.. ومرة يتحدث عن التغيير تحت عنوان الإصلاح.. وثالثة تحت عنوان الاخراج من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، وتارة بالانابة والتوبة والرجوع.. إلخ.
وذلك يعكس لنا حقيقة التغيير المطلوبة في القرآن بأنها الحركة والانتقال نحو الأفضل.. غير أنّ المسار التأريخي والاجتماعي للفرد والمجتمع يتحرك في جانبه الإنساني في الاتجاهين معاً.. فالتأريخ والحضارات والشعوب والأمم والأفراد تتحرك نحو الرقي والتكامل، كما تتحرك نحو السقوط والانهيار في جانبها الإنساني.. فيأتي قانون الاستخلاف والاستبدال والتداول..
وفي حديث القرآن عن إصلاح البشرية الذي هو هدف التغيير، وإخراجها من الوضع السيِّئ إلى الوضع الأفضل والأرقى – إخراجها من الظلمات إلى النور – نقرأ: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود/ 88).
(الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم/ 1).
(فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة/ 39).
(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي) (الزمر/ 17).
(فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
كما ويتحدّث القرآن عن السقوط والانهيار والتغيير نحو الأسوأ فيقول: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة/ 257).
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأعراف/ 85).
(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) (محمد/ 25).
(يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (المائدة/ 21).
ويتحدّث القرآن عن حركة التغيير في المجتمعات وعن سقوط الأمم والحضارات وفق قوانين التغيير (سنن الله).. ويعرض عينات كثيرة ومتكررة ليوفر للإنسان قراءة محسوسة لتأريخ الإنسان.. نقرأ من هذه التجارب قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (غافر/ 82-83).
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) (محمد/ 10).
(هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد/ 38).
(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران/ 140).
وكما قرأنا الآيتين الكريمتين في بداية هذا الموضوع أنّ القرآن يعتبر النفس الإنسانية هي منطلق التغيير.. فما لم يتغير المحتوى الفكري والنفسي لدى الإنسان لا يحدث التغيير الاجتماعي، وهذا التغيير الفكري والنفسي نحو الأفضل أو نحو التراجع والارتداد، هو نتاج عوامل عديدة..
نذكر أهمّها بإيجاز، فهي:
1- الرسالات الإلهية: ساهمت الرسالات الإلهية في إحداث عملية التغيير الفكري والنفسي بشكل مشروع تغييري متكامل.. فقد حمل الأنبياء الرسالات الإلهية لانقاذ الإنسان والتسامي بمساره ونمط حياته، وخاضوا ملاحم التغيير الفكري والنفسي والسلوكي، وأحدثوا نقلات نوعية متقدمة، وهزات كبرى في تأريخ الإنسان.. وكأوضح الأمثلة على ذلك الرسالة الإسلامية.. فتأريخ المسلمين على امتداد وجودهم، وتأثيره التغييري الكبير في العالم هو نتاج التغيير الفكري والروحي الذي أحدثه الإسلام..
إنّ دعوة الأنبياء إلى الإيمان بالله، واليوم الآخر، ومكارم الأخلاق، والقوانين والعبادات والنظم التي بشروا بها، قد أحدثت تغييراً كبيراً، وما زالت تؤثر كأقوى عامل في حركة الإنسان ونظام حياته وتفكيره.. وهكذا سلك الفكر والعقيدة وما أحدثته من تحول روحي ونفسي، أحدثت التغيير في التكوين الفردي والاجتماعي والنظم السياسية والاقتصادية.. إلخ.
2- الدافع الغريزي: يحمل الإنسان في أعماق تكوينه دوافع ونوازع غريزية، كغريزة (الأنا) حب الذات، وغريزة التملك، وغريزة الجنس، وغريزة الاجتماع، وغريزة حب التسلط على الآخرين.. إلخ. وعندما يطلق العنان لهذه الغرائز بلا حدود، أو تعبّر عن نفسها بطريقة عدوانية، أو مرضية شاذة، فعندئذ تتجه حياة الفرد والجماعة باتجاه معين في مجال السياسة والعقيدة والاقتصاد والعلاقات الجنسية والسلوك الاجماعي، والوضع النفسي للفرد، وتصبح المنفعة الفردية واللذة الحسية هي مقياس السلوك الفردي والاجتماعي.. وعندما تضبط وتوجه توجيهاً صحّياً منظماً، تتجه حياة الفرد والجماعة في مجالاتها كافة اتجاهاً إيجابياً وبنّاءً..
وهذا الاختلاف يأتي نتاجاً للوعي والإرادة.. وبذا يحدث التغيير، ويتصرف محتوى الذات الداخلي للإنسان بعملية التغيير.. فحين تكون سلوكيته غريزية بهيمية تصنع وضعاً اجتماعياً على هذه الشاكلة.. لذا يصفه القرآن بقوله: (إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا) (الفرقان/ 44).
وحين يتجه المجتمع اتجاهاً عقلياً وعلمياً تتجه أوضاع المجتمع نحو نمط حياتي آخر، يصفه القرآن بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (البينة/ 7).
3- حركة الفكر البشري الذاتية، وما ينتجه التفكير الإنساني من فهم وتصورات، متأثراً بدوافع عديدة، كصورة الواقع المعاش، أو التأثر التأريخي، أو الأوضاع النفسية المرضية، أو الاستنتاج الخاطئ.. إنّه لمن الواضح إنّ الفعل الإنساني في المجالين الفردي والاجتماعي، هو نتاج دوافع الغريزة وحركة العقل والإرادة.. ولو شئنا تحليل المركبة الاجتماعية بما فيها من أوضاع الاقتصاد والسياسة وسلوك فردي واجتماعي، ومفاهيم وثقافة حضارية بشتى اتجاهاتها.. لو شئنا تحليلها لرأيناها في معظمها نتاجاً لغريزة والعقل الإنساني.. وأن مسار التحول والتغيير نحو الرقي والتكامل، أو نحو السقوط والانحطام هو نتاج تفكير الإنسان وردود فعله النفسية تجاه الواقع المحيط به.
4- ظروف البيئة الطبيعية: تؤكد التجارب التأريخية ودراسات علم النفس والاجتماع والحضارة أنّ الهزات التي تصيب الفرد والجماعة، سواء الطبيعية منها، كالفيضانات والجفاف أو الخصب، أو الاجتماعية كالحروب والأمراض والاضطهاد.. إلخ، تحدث تغييراً وتأثيراً في أوضاع الفرد والجماعة.. بالاتجاهين السلبي أو الإيجابي..
ويتحدّث القرآن عن أثر الهزات والحوادث والكوارث الطبيعية في التحول والتغيير الاجتماعي فيقول: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف/ 168).
(وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف/ 130).
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم/ 41).
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) (العنكبوت/ 14).
5- البيئة الاجتماعية وعلاقتها بالتفاعلات الفكرية والنفسية: ليس الإنسان الفرد وحدة فكرية ونفسية منفصلة، لا يتأثر ولا يؤثر فيما حوله من الأوضاع الاجتماعية.. بل إنّ ما يحمله من أفكار وسلوك وأوضاع نفسية هو نتاج لظروف وأوضاع البيئة الأسرية والاجتماعية التي ينشأ فيها.. فالإنسان يولد كما يقال صفحة بيضاء، وتتشكل شخصيته الفكرية والنفسية من خلال ما يتلقاه من البيئة المحيطة به.. والحديث النبوي الشريف يوضح هذه الحقيقة بقوله:
(كل مولود يولد على الفطرة إنّما أبواه يهوّدانه وينصّرانه).
غير أنّ الإنسان قادر بارادته وتفكيره على أن يعيد تشكيل عقله ووضعه النفسي، وينتقل من وضع إلى وضع آخر.. وإذاً فالبيئة التي يعيش فيها الإنسان لها تأثيرها الكبير في التغيير.
6- الاقناع الفكري: ويشكل الاقناع الفكري عن طريق الدعوة والإعلام وإيضاح الحقائق، أو عن طريق الخداع والتضليل والاستغفال أسلوباً هاماً من أساليب التغيير..
وانطلاقاً من هذا الأساس بعث الله النبيين والمرسلين، وأوجب الدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. لذا يؤكد القرآن على هذه الحقيقة بقوله: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف/ 108).
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104).
التغيير الاجتماعي والدور المطلوب
- التفاصيل