د. ديمة طارق طهبوب
أوجعوا رؤوسَنا بتلك الدّعاية عن الحبّة التي تريح الرّأس، و التي يمكن لنساء اليوم أن يأخذْنها لمنع الحمل، و هذا اسمها الصّريح و الطّبيّ (حبوب منع الحملcontraceptives )، و التي لم تكن متوفّرة لأمّهاتنا و جدّاتنا بحسب الدّعاية، و بالتّالي كانت حياتهم صعبة، و لم تكنْ أحلى- كما تروّج حملة حياتي أحلى-، و شعارها العلنيّ لتنظيم الأسرة و المباعدة بين الأحمال، إلاّ أنّها في مضمونها لا تختلف عن الحَمَلات التي تنتشر في كلّ أرجاء الوطن العربيّ لتحديد النّسل.
و حتى الدّعايات التّلفازيّة للحملة التي انتشرت مؤخّرًا في غاية الخطورة؛ فهي تهدف إلى تربية المجتمع على قبول الفكرة منذ الصّغر، فهي على لسان طفلة صغيرة تصف والدتها بشكل طريف، و التّغيّرات التي تطرأ عليها في فَتَرات الحمل، و كيف أنّها تكون سريعة مرّات و بطيئة مرّات أخرى، و ضعيفة مرّات و سمينة مرّات أخرى، و دائمًا مشغولة! و من كثرة تكرار الدّعاية على لسان الطّفلة على التّلفاز في كلّ أوقات البثّ صباحًا و ظهرًا و مساءً أصبح الأطفال يحفظونها، و هي بمعانيها و رسالاتها تدخل إلى اللاوعي، بحيث تصبح مقبولة تمامًا، و نمط حياة سائد و منتشر!
سنحاول طرح نظريّة المؤامرة جانبًا، و سنحاول التّغاضي عن الشّركاء الغربيّين لهذه الحملة، و أجنداتهم، و شروط المساعدات و الهبات و القروض، و سنحاول التّعاطي بحسن نيّة مع هذه الحَمَلات، و الادّعاء لبرهة أنّها تهدف إلى التّركيز على نوعيّة الإنجاب و التّربية، و توفير حياة فضلى للأسرة، في ظلّ المعطيات الاقتصاديّة المتعثّرة، مع أنّ هذا الطّرح قد يكون من السّذاجة في ظلّ معرفتنا بالسّياقات التّاريخيّة لمثل هذه الأفكار، و الأبعاد السّياسيّة و الدّيمغرافيّة لمشاريع الحدّ من النّسل و المسؤول عن استيراد أفكارها إلى الوطن العربيّ، في الوقت الذي ما زالت الكنيسة الكاثوليكيّة -على سبيل المثال- تحرّم حبوب منْع الحمل، و تجرّم من يبيعها!
إنّه من السّذاجة بمكان أن نتعاطى مع ما يُسمّى بمشاريع تنظيم الأسرة ب"عباطة"، في الوقت الذي يقوم فيه العدوّ الصّهيونيّ بمشاريع لتشجيع الإنجاب، ويقوم بتوفير حوافز و تسهيلات ماديّة غير مسبوقة تشجّع الذي لا يريد أن ينجب لينجب، و لو من باب الإثراء الاقتصاديّ.
"إسرائيل" التي تقدّم نفسها للعالم كواحة للدّيموقراطيّة و التّقدّم و الحضارة في الشّرق الأوسط لا تخجل أن تشجّع مواطنيها صراحة على الإنجاب بأرقام تزيد على الخمسة أطفال، في الوقت الذي أصبحنا ننظر لمثل هذه الأرقام كمستحيل من ناحية اقتصاديّة، و كأنّنا نرزق أنفُسَنا شربة ماء أو لقمة خبز!! و كدلالة على التّخلّف، و أنّ نساءنا كالأرانب لا شغل لديهنّ سوى الإنجاب!!
فلماذا لم تنتشر هذه الرّوح السّلبيّة عند الصّهاينة الذين ينظرون إلى تكثير عددهم كسلاح أساسيّ في معركة المكان و الدّيمغرافيا و تثبيت الحقوق؟!
و في الوقت الذي نحاول أن نربّي المجتمع بداية من الأطفال في دعايات تحديد النّسل ينشر جيش حرس الحدود الإسرائيليّ صورة للدّعاية له، يظهر فيها بطن امرأة حامل في شهرها التّاسع، و قد رسم عليه صورة لطفل رضيع يتدثّر بلحاف يحمل شعار حرس الحدود و تحته عبارة "مقاتل جديد في الطّريق" و الصّورة حيّة لدرجة تستفزّ المشاعر و هي تصوّر جميع أطراف المجتمع كشركاء في مشروع الوطن؛ فالأمّ عندهم تحمل و تلد و تربّي لأجل إسرائيل، و الجنديّ عندما يحارب فإنّه يحارب عن الأمومة و الطّفولة و المستقبل، و هم يستفزّون في الجنود غريزة الرّجولة و الحماية في توفير الأمن للفئات المستضعفة، و أمّا ذلك الجنين في الرّحم أو الطّفل في المهد فسيتربّى على ما أظهرته الصّور التي تسرّبتْ سابقًا عن الجنود الإسرائيليّين و هم يلبسون ملابس كُتب عليها (born to kill ) مولود ليُقتل! فعن أيّ تسامح و تعايش و سلام نتحدّث و هذه المعاني الإجراميّة المتطرّفة و العنصريّة هي التي يتربّى عليها الشّعب، و هو ما زال جنينًا في أرحام الأمّهات؟! و لماذا تقوم الدّنيا إذا صوّرنا أطفالنا بالعصابة الخضراء على رؤوسهم، و تكون التّهم جاهزة بالإرهاب، و يعمى العالم عن مثل هذه الصّور و الممارسات على الطّرف الإسرائيليّ؟!
و في مقابل حَمَلاتنا لتحديد النّسل يطلق العدو حملات (إسرائيل حقّ بالولادة birthright Israel ) و هي حملة تهدف لإعادة الشّباب اليهوديّ حول العالم لزيارة ما يدّعون أنّه بلدهم و تذكيرهم أنّ أرض إسرائيل حقٌّ لهم دينًا و تاريخًا.
هذه مخطّطاتهم ومشاريعهم فأين مخطّطاتنا و حملاتنا، و أيّ الفريقين أحقّ بالنّصر على هذه الحالة إنْ كنّا صادقين مع أنفسنا؟! أم أنّ الله سبحانه سينصرنا فقط بالدّعاء و حسن النّوايا؟!
لن أذهب بعيدًا في استحضار أمثلة نظريّة، و لكنّي رأيْتُ جدّتيّ: الأولى أنجبت تسعة و الثّانية ثمانية، غير الذين سبقوهما إلى الجنّة بإذن الله سقْطًا. لم تعرفا حبوبًا من أيّ نوع و عانتا الكثير من وجع الرّأس، و لكنّهما أخذتا الكثير من الأجور، و لكمْ رأيْتُ عند كبرهما دموع الرّضا في عينيهما على الأولاد و البنات الذين حصّلوا أعلى الدّرجات العلميّة و العمليّة على ضيق ذات اليد في زمنهم، و خدموا أوطانهم في مجالاتهم، و أزعم أنّ أمّهات اليوم بالواحد و الاثنين و الثّلاثة لسنّ أكثر سعادة، و لا رضًا و لا إنجازًا!
الإنجاب و الأطفال رزق و نعمة، و هدف و فكرة، و مشروع و مستقبل فقط لمن أدرك الخطر القادم و التّحدي العظيم الذي ينتظر الأمّة، لو أعدّت له حقّ الإعداد، و من أغلق بالباب بقصد و تنّكر، و كفر بالنّعمة فقد حرم نفسه و وطنه الخير.
لا نريد دعاية (حياتي أحلى) و لا الأمّهات اللّواتي يسوّقن لها. نريد أمّهات يجلسن بجانب المهد و ينشدْن لأطفالهنّ:
نمْ يا صغيري إنّ هذا المهدَ يحرسه الرّجاءْ
من مقلةٍ سهرت لآلام تثورُ مع المساءْ
فأصوغُها لحنًا مقاطعه تَأَجَّج ُبالدّماءْ
أشدو بأغنيتي الحزينةِ ثم يغلبُني البكاءْ
وأمدُّ كفّي للسّماء لأستحثّ خُطا السّماءْ
فلئنْ حييتُ فسوف أسردُه عليكْ
أو متُّ فانظرْ مَن يُسرُّ به إليكْ
فإذا عرفْتَ جريمةَ الجاني و ما اقترفتْ يداهْ
فانثرْ على قبري وقبر أبيكَ شيئا من دماهْ
لا تصغِ يا ولدي إلى ما لفّقوه وردّدوهْ
من أنّهم قاموا إلى الوطن السّليب فحرّروهْ
لو كان حقًّا ذاكَ ما جاروا عليه و كبّلوهْ
ولَما رمَوْا بالحرّ في كهفِ العذابِ ليقتلوه
ولَما مشَوْا بالحقِّ في وجهِ السّلاح ليُخرسوهْ
بهذا فقط يعود التّاريخ المجيد ليصبح حاضرًا و مستقبلاً زاهرًا.
قَتَلة في الرّحم
- التفاصيل