كلمة التميّز من الكلمات ذات البريق والتوهّج في هذا العصر، وإن كان مضمونها من الأمور التي يُقدّرها الناس في كلّ العصور.
فهذه الكلمة تعني في استعمالنا العصري التفوُّق على الأقران في جانب أو أكثر من مجالات التفوّق. فهناك الطالب المتميّز بين زملائه، فهو يحصّل الدّرجات العليا في امتحاناته، وهناك لاعب كرة القدم المتميّز الذي يكون سبباً في تفوّق النادي أو الفريق الذي يلعب معه، وهناك التاجر المتميّز الذي يُعرف باستقامته، وحسن سمعته، وحنكته في التّسوّق بما يُحقّق له الأرباح الطائلة...

أهميّته

والحياة سباق بين الأفراد، أو بين المؤسسات، أو بين الدّول... والمتميّز هو الذي يتقدّم الصّفوف ويُحقق الغلبة.
وإذا كان التميّز في جميع الجوانب لا يكاد يتأتّى لأحد، فإنّ من حاز جانباً من جوانبه أو أكثر من جانب، ولم يكن ضعيفاً أو متخلّفاً في الجوانب الأخرى.. كان تميّزه أدعى إلى الثّبات والتّقدّم. ومن كان متميّزاً في مجال، متخلّفاً في غيره، فقد يتقدّم بسبب تفوقه ثمّ ينتكس بسبب تخلفه.
وإذا كان للتميّز أهميته في أي مرحلة وفي أيّ بلد، فإنّ له مزيد أهميّة في أمّة جعلها  الله متميّزة في عقيدتها ومنهاجها، وجعل قدوتها سيد الأنبياء والمرسلين ، بل تزداد أهميّة التميّز أكثر في جيلٍ كَثُرَ فيه الفساد، وفشت في الغثائيّة، وكانت الحاجة إلى المتميّزين أكبر، ليتحقّق لها النّهوض.
قياسه
كثير من الآباء والأمّهات يُحدّثونك عن تميّز أولادهم، لا سيما في سنوات الطفولة الأولى. فما أكثر ما يُحدّثك أحدهم عن الذكاء الحاد لولده، وعن المهارات الفذّة، واللباقة الرائعة، وربما عن الجمال الفائق له!! حتّى إذا كبر الولد بدأ المعيار يعتدل أو ينقلب. فقد كان شعور الأبوّة والأمومة، وما يرافقه من حبّ عارم، هو الذي يُصدر الأحكام.
ومع تقدّم العمر وخوض التجارب، تبدأ مظاهر الضعف والإخفاق، بل الخطأ والتسيّب، بالبروز... وتكون على حساب مشاعر الإعجاب التي كانت تسيطر، يوم كان الابن طفلاً.
وفي الحالتين، حالة الطفولة، وحالة الشباب... يحتاج الأمر إلى معيار يُقاس به التميّز والتخلّف.
وإذا كانت المعايير الأكاديمية التي يضعها المختصّون في علم النّفس، تحتاج إلى مؤسسات وأجهزة وإحصاءات... لا تكون في متناول الوالدين، فإنّ الحاجة تقتضي وضع معايير تقريبية، تُعين في معرفة المدى الحقيقي لتميّز الأبناء، ثمّ وضع إرشادات لكشف جوانب التميّز وتوجيهها وتنميتها.

مؤشرات التميّز

ونحن هنا نذكر بعض هذه المؤشرات، مما يُناسب بيئات مختلفة، وما يُناسب المجتمعات الإسلامية بالذات. فمن هذه المؤشرات:
1- التفوق المدرسي: مهما اختلفت المراحل الدّراسية (من حضانة ودراسة ابتدائية وثانوية وجامعية)، ومهما اختلفت الأنظمة والمناهج بين مدرسة وأخرى، ودولة وأخرى... فإنّ التّفوّق الدراسيّ مؤشّر جيّد على التميّز. وأقلّ ما فيه أنّ الطالب متقدّم على أبناء صفّه أو مدرسته، وأنّ الذي يُثبت هذا التقدّم جهة أخرى غير أسرة الطالب.
2- حفظ القرآن الكريم، فالطالب الذي يحفظ أجزاء من القرآن الكريم يُثبت قدراً من التفوّق، لا سيما إذا كان عدد هذه الأجزاء كبيراً، وكان حفظه متقناً، وكان يحفظ معها تفسير هذه المحفوظات، ولو تفسيراً أولياً على مستوى معاني المفردات، ومن يُتابع قضايا تحفيظ القرآن الكريم، يصل إلى نتيجة تكاد تكون حتمية، وهي أن سلوك الحافظ، وصفاء روحه، وحسن أدبه وسَمْته... تتناسب ـ إلى حدّ كبير ـ مع حفظه.
3- اهتمامات الطفل أو الشاب ونجاحاته في تحقيق ما يُريد. فإذا كانت هذه الاهتمامات تدور حول مطالعة الكتب المفيدة، والمجلاّت الراقية النّظيفة، ومتابعة البرامج الثقافية والدّينية... وممارسة الهوايات الذّكيّة.. كان ذلك مؤشّراً جيّداً على تميّزه.
4- مصاحبة الأخيار، فالطالب المتميّز يُصاحب عادة، أصحاب التميّز في دينهم وخُلقهم وعلمهم... بخلاف الطالب الهَمَل الذي يُصاحب أمثاله.
5- التزام العبادة الصحيحة، والارتباط بالمسجد، والاشتراك في نشاطاته، والبعد عن العادات السيئة التي تليق بأبناء الشوارع والسُّوقة والمنحلّين.
6- شعور الطفل بالمسؤولية، كالتزامه بتنفيذ ما ينبغي تنفيذه، والتزامه بالمواعيد ومشاركته في الخدمات الأسريّة أو الصّفيّة، وانسجام سلوكه مع أقواله.
7- حسن تصرّفه في مختلف المواقف، وتخلّصه من المآزق، ولباقته في التعامل مع الآخرين.

أساليب ووسائل تدعم التّميّز

الوالد الذي يُحبّ أن يكون ابنه متميّزاً، يحتاج إلى التعرّف على مجموعة من الأساليب والوسائل التي تُعينه على كشف جوانب التميّز في أبنائه، وتنميتها وتوجيهها.. ليتّبع ما أمكنه من هذه الأساليب والوسائل بما يتناسب مع ظروفه الخاصّة وظروف العصر والبلد والبيئة التي يعيش فيها.
ونحن نذكر هنا ما نظنّه عوناً في هذا المضمار، ولنحصر هذه الأساليب والوسائل ونضعها ضمن زمَر حتّى لا نغرق في التعداد. وننوّه ابتداء بأنّ الأسلوب الواحد يصلح وضعه في أكثر من زمرة. فتحفيظ القرآن الكريم مثلاً يُمكن أن يتمّ في البيت أو في المسجد أو في المدرسة أو في حلقة خاصة. فإذا صنّفناه من أعمال المسجد فلا يعني أن نزهد فيه خارج المسجد، بل نعوّضه في مكان آخر إذا لم يتحقّق في المسجد. وهكذا معظم ما سنذكره.
1- داخل البيت:
البيت هو المؤسسة التربوية الأولى، لا سيما في السنوات الحاسمة من حياة الإنسان تربوياً. وأول ما نذكره من دور البيت في هذا الشّأن أن يتزوّد الوالدان بثقافة تربوية، ويطّلعا على أساليب المربّين الناجحين في التعامل مع الأبناء، ثمّ أن يكونا قدوة لأبنائهما في كلّ ما يأمران به وينهيان عنه، ويريدان لأبنائهما أن يفعلوه أو يتجنّبوه.
ثمّ أن يعطيا دروساً منزلية لأبنائهما من جلسات لتلاوة القرآن الكريم، أو قراءة كتاب مفيد، أو جلسة وعظ أو حوار، أو إعانة لأبنائهما في واجباتهم المدرسية. ثمّ الاهتمام بمصادر الثقافة المختارة: بأن يكون في البيت مكتبة تضمّ الكتب والمجلاّت والأشرطة المسجّلة وأشرطة الفيديو وأقراص الكمبيوتر... وينتقى ذلك بما يُفيد ويُمتع، ويُشجّع الأبناء على القراءة والاستماع... والنّقد أو التلخيص لما يقرؤونه، ومحاولة إصدار مجلّة بيتية أو شريط مسجّل من أناشيد وكلمات وتمثيليات.
ثمّ إجراء مسابقات مختلفة في حفظ القرآن الكريم، وإعداد البحوث، والثقافة العامة، وصناعة بعض الأشياء المفيدة...
2- في المسجد
اصطحاب الولد إلى المسجد لأداء الصلوات، وحضور دروس العلماء، وتكوين الصحبة الصالحة، والاشتراك في حلقات التّحفيظ، والانتباه إلى خطب الجمعة وتلخيصها ونقدها، والالتزام بما يسمعه الطفل من مواعظ وعلوم.
3- في المدرسة:
اختيار المدرسة الجيّدة النّظيفة الفعّالة (إن أمكن)، وتشجيع الولد على الإسهام في النشاطات المدرسية الجيّدة، والتواصل المستمر بين الوالدين وإدارة المدرسة للتعرّف على وضع ولدهما والعمل على تطويره. وما يُقال عن المدرسة يُقال مثله عن المراكز الصيفية.
4- المربي الخاص:
من الجيّد أن يكون للولد مربٍّ خاص. ولا نقصد أن يؤتى بهذا المربي إلى البيت للعناية بالولد، فهذا الأمر لا يكاد يكون ميسّراً، كما أن جدواه محدودة. إذ أنّ التربية في الجو الجماعي أجدى وأعمق من التربية الفردية (إلاّ في مواقف خاصّة). لذلك فالحلّ الأمثل هو ربط الولد بحلقة علم وتوجيه، يقوم عليها مربٍّ موثوق في علمه ودينه وخلقه. وليتعاون الأب مع هذا المربّي، وإذا احتاج الأمر إلى جلسات خاصّة بين المربّي والولد لمعالجة بعض المسائل فهذا شيء حسن.
5- أعمال ونشاطات قد تتمّ عبر المؤسّسات المذكورة آنفاً أو خارجها وتدور كلّها حول تنمية الشخصيّة وصقلها لتنطلق في مجالات التميّز التي هيّأها لها الله تعالى.
فمن ذلك تنمية روح المبادرة وتحمّل المسؤولية، والإشعار بالأهميّة، ويتمّ ذلك بأساليب مختلفة، كأن تسند إلى الولد بعض المسؤوليات التي تناسب سنّه، وتترك له حرية اختيار الثوب المناسب (من بين مجموعة أثواب) وأن (يُكنّى بأبي فلان ولا يُكتفى بأن يُسمّى فلاناً) وأن يُراقَب بلطف ليُرى كيف يتصرّف بالمال والوقت، ثمّ يُعطى التوجيهات المناسبة، وتُراقب جديّته في التعامل مع الوقت والمال والجهد... فلا يصرف الكثير من ذلك في العبث، ولا يشرع في عملٍ ثمّ يتركه من غير إتمام... هذا مع إعطائه فرصاً للعب واللهو.. فيما لا يُنافي الدّين والخلق، ويُوجّه إلى ما هو هادف ومفيد...
وأن يُعلّم اللباقة في الحديث والتّصرّف: كيف يحيي، وكيف يشكر، وكيف يعتذر عن الخطأ، وكيف يستفسر عمّا لا يعرف، وكيف ينتقد؟...
وأن يُعوّد على استشعار هموم الناس، والإحساس بمشاعرهم، وإعانة من يحتاج إلى خدمة، والتصدق على من يحتاج إلى مال...
وأن يُشجَّع على اكتساب المهارات والهوايات المفيدة، لا سيما الحاسب الآلي (الكمبيوتر)، والمطالعة وزيارة المكتبات، وحضور النّدوات... وأن تكون له حصّة من الترفيه النّظيف أو الهادف: كالرحلات والأسفار والحوافز التشجيعية...

 

موقع رابطة العلماء

JoomShaper