ليلى حلاوة
رغم حصولها على 96% في الثانوية العامة إلا أنها لم تسلم من عتاب والدتها اللاذع والقاسي؛ فقد كان هدف أمها أن تلتحق بكلية الصيدلة، ولكنها لم تستطع الالتحاق بها بفارق درجة واحدة من المجموع النهائي للثانوية العامة.. وعندما أرادت أن تسكن بالمدينة الجامعية الخاصة بالفتيات المغتربات، لم تستطع أيضا وبسبب نصف درجة أخرى.
ظلت هبة،التي أجبرت على الالتحاق بكلية العلاج الطبيعي، جالسة أمام باب المدينة الجامعية تتساءل: ماذا ستقول أمها لو عرفت أنه لم يتم قبولها بالمدينة، رغم محاولاتها المستميتة مع المديرة كي تستجيب لطلبها.. فنصف درجة في رأيها ليس بالمعضلة الكبيرة..!
ولم يكن توفير سكن لائق وآمن لفتاة آتية من قرية في أقاصي دلتا مصر هو ما يزعج طبيبة المستقبل، بل أن تخبر والدتها بذلك كان هو مصدر إزعاجها الحقيقي.
وكان رد فعل الأم متوافقا مع توقعات هبة، والتي أصبحت في نظر أمها "شخصًا غير متحمل للمسئولية".
قصة هبة ليست القصة الأولى أو الأخيرة, ولكنها قصة من بين ملايين القصص تحكي عن طموحات الآباء التي يحملونها بكل قسوة على عاتق أبنائهم الصغار، وبلا هوادة يحاسبونهم على عدم تحقيقها.
مآسي الأبناء
يحكي أحد الشباب (ابن طبيب مشهور) أن والده ضغط عليه واتخذ قرار دخوله كلية "الطب" بدلا منه، ولأن أباه رجلا تسلطيا فلم يستطع إقناعه بدراسة الحاسب الآلي الذي يحبه، ودخل الابن الكلية التي اختارها والده ولكنه فشل في أن يحرز فيها أي نجاح ويسأل: "ماذا أفعل؟".
فتاة عشرينية أخرى تحكي قصتها مع المجموع ومع الأهل، فقد حصلت على مجموع أدخلها كلية الهندسة في حال أنها كانت تريد الالتحاق بكلية أدبية تحبها، أما الأهل فكانوا يريدون لها الالتحاق بالطب البشري ولكنها فشلت في تحقيق رغبتهم وعوضتهم بدخولها الهندسة رغما عنها، ولكن مع اقتراب الامتحانات أصيبت بهزة نفسية شديدة، وانتابها خوف جديد من نوعه بالإضافة إلى بكاء هستيري لا تستطيع التحكم فيه، ومع كل ذلك فكرت أن تلتحق بالكلية التي تريدها وتنسحب من تحقيق رغبات والديها ولكنهما رفضا رفضًا قاطعا، فقررت أن تلعب على الوتر الحساس وتقنعهم بإعادة الثانوية العامة رغبة في تحسين المجموع حتى تلتحق بكلية الطب الحلم الأول، وبالطبع كان هدفها هذه المرة هو دخول الكلية الأدبية ولكن بطريق ملتوٍ وعلى حساب سنوات جديدة من عمرها.
أي طريق يسلكه الأبناء من أجل إرضاء الآباء؟ وكم من سنوات العمر تضيع بسبب الجري وراء رغبات جميلة ولكنها للأسف غير مناسبة للمجبرين على اللهث وراءها.
ولكن قبل أن نظلم الآباء كعادتنا نحن الأبناء دعونا نعرف وجهة نظرهم، وكيف يفكرون بالنسبة لنا وقت أن كنا صغارا، وكيف يجيب عليهم مستشارونا التربويون.
طموحات الآباء
تقول إحدى الأمهات في استشارة "التفوق الدراسي.. ليس مقياسا لذكاء طفلك": هل يمكن اتباع نظام معين مع الابن منذ صغره لغرس قيمة التفوق الدراسي في داخله؟ بصراحة أرغب في أن يكون ولدي متفوقا ومتميزا في المدرسة، فأنا اختبرت هذا الشعور وهو شعور رائع".
وتعليقا عليها تقول المستشارة منى أحمد: "من المهم أن نتفق على حقيقة أن مفهوم التفوق يختلف بشكل كبير عند الآباء عن التفوق الحقيقي الذي يجب أن نتعامل به مع أبنائنا، فالتفوق لدى معظم الآباء هو حصول الطفل على أعلى الدرجات، وإذا لم يحقق ذلك أشعرناه بالفشل وعدم التفوق حتى وإن زاد معدل تحصيله، وهذا خطأ كبير في التعامل مع أبنائنا وتحصيلهم الدراسي، فمهم أن يكون مفهوم التفوق لدى كل مربٍّ أن يظهر الطفل أقصى ناتج يترجم ما لديه من قدرات، وأن يزيد هذا الناتج تدريجيا مقارنة بنفسه وتحصيله".
وتحكي أم في رسالة أخرى: "أنا جامعية وزوجي طبيب، ونطمح أن نربي أبناءنا ليرقوا لأعلى درجات العلم والمعرفة، ولكنهم يخذلونني دائما رغم قدرتهم على التفوق".
وترد عليها المستشارة عزة تهامي قائلة: "إننا لا ننهار بسبب أن أبناءنا لا يصلون للمستوى الذي نبتغيه لهم في الدراسة، فحينما ندرك أن لأولادنا جوانب أخرى: نفسية وعقلية واجتماعية، ولديهم احتياجات بل طموحات أخرى ربما تكون غير طموحاتنا، ولديهم قدرات ومهارات أخرى غير القدرة على التحصيل الدراسي وجني الدرجات، هنا فقط سنعرف ما العلة الحقيقية وراء إخفاقهم الدراسي، ولا أعني بالطبع إهمال الدراسة، لكن علينا أن نضع كل شيء في حجمه الطبيعي ولا تكون الدراسة هي محور الحياة أو هي كل علاقة بيننا وبين أبنائنا، ولا أظنك ستردين على ذلك بأنك توفرين لهم كل ما يلزمهم لحياة كريمة من مأكل ومشرب وملابس ولعب.. فلا شك أن احتياجاتهم وراء ذلك بكثير.
حب التفوق
ويقول أحد الآباء: "ثناء عمرها 10 سنوات، بنت ذكية جدًّا ذات شخصية قوية، تأبى أن تكون رقم 2، ويبدو أن هذا الأمر مبالغ فيه لديها؛ إذ أنها تكتئب إذا حصل وبرز غيرها، هذا غير أنها تتوتر جدًّا عند الامتحانات، فتبكي بحرقة خوفًا من الفشل، علمًا بأن درجاتها فوق 95%".
ويفسر د.عمرو أبو خليل ردود أفعال الابنة موجها حديثه للأب: "المسألة ببساطة أننا نربّي أطفالنا على ما نتصوره حب التفوق ونظل نقول لهم لا تجعلوا أحدًا يسبقكم، ونطلب منهم أن يكونوا الأوائل، وإذا قلَّت درجات أحد الأبناء عن الدرجة النهائية وجهَّنا إليه اللوم، ولا مانع أن نشعره أنه فاشل، ويكون ذلك في السنة الأولى أو في الخطوات الأولى له في عالم المدرسة، وتصبح الحياة بالنسبة لنا وله هي الدراسة فقط ونهمل هواياته وقدراته الأخرى؛ فيكتسب الطفل هذا المفهوم الوحيد للتفوق وتبهت بقية معاني التفوق أمامه، والمشكلة أننا نسعد عندما يكتسب الأطفال هذه الصورة ونفخر بهم، وهذا ما حدث مع الطفلة ثناء".
ويشكو أب آخر ابنته قائلا: "ابنتي 5.5 سنوات ذكية لماحة، محبوبة، ولكني أراها بطيئة الاستجابة أو أنها شديدة الهدوء، مما قد يزعج بعض الأهل، فهم يحبون البنت سريعة الحركة سريعة الاستجابة".
ويتعجب أحد المستشارين في رده عليه: "ما رأيك أيها الأب الفاضل في قضية الاستنساخ؟! حتى الآن ما زالت الأبحاث تهتم بمجال استنساخ الحيوانات، ويأمل العلماء في الغرب إلى نقل تجاربهم إلى المجال البشري؛ ماذا لو عاصرت نجاح هذه التجارب؟ هل تتمنى أن تتاح لك فرصة استنساخ أولادك ليكونوا نسخة من صفات شخص ما؟! من عساه سيكون هذا الشخص؟! أنت؟! والدتها؟! من؟"..
ويستطرد المستشار مؤكدا أن الأبناء من هذه النعم الجليلة التي لابد أن تقابل "برضى". فكما أننا نحب أن يتقبلنا الناس كما نحن ونسعد لذلك، فالصغار مثلنا تمامًا، وكيف لا؟! أليس للجزء –وهم جزء منا– نفس صفات الكل؟! هم مثلنا في رغبتهم في أن نستقبلهم كما هم، فلا نقارنهم بآخرين، فكما أن الفتاة سريعة الحركة والاستجابة محبوبة.. أيضًا البنت اللطيفة الهادئة الوديعة محبوبة هي الأخرى.
وتشكو أم ثالثة قائلة: "ابني أدهم 8 سنوات، لا يسبب مشاكل بالبيت، ولكن مستواه بالمذاكرة مذبذب، أحيانا رائع وأحيانا ينسى كل شيء ولا أدري ماذا أفعل معه؟ في البيت مستواه أعلى من المدرسة فمثلا عند الاختبارات يذاكر بشكل ممتاز، ويذهب للامتحان ولا يحل كما يجب! ودائما درجاته ناقصة".
ويعلق عليها د.عمرو قائلا: " ارفعي يدك سيدتي عن هذا الطفل، فما تصفينه هو حالة من القلق يعاني منها نتيجة لضغطك عليه؛ تخلصي من مذاكرتك له بالتدريج وكوني مجرد مشرفة عليه؛ لأنك تضعينه تحت ضغط نفسي شديد يجعله يصاب بخوف شديد عندما يذهب إلى الامتحانات من أن يقع في الخطأ؛ وبالتالي تهرب المعلومات منه، ليس لمشكلة في ذاكرته، ولكن لإحساسه الشديد بالخوف من الخطأ خوفًا من ردود فعلك".
قدوة وعلماء
أم رابعة تقول: "الموضوع هو أنني عندي 5 أولاد: 4 بنات وذكر، أرجو مساعدتكم في الطريقة الممتازة في تدريس الأولاد، فأنا أريد أبنائي قدوة وعلماء".
وتقول لها عزة تهامي: " سأبدأ ردي من حيث انتهيت في رسالتك بقولك: "أريد أبنائي قدوة وعلماء"؛ فكلمة "أريد" هذه تجعلنا بقصد أو دون قصد نكره أبناءنا على أن يسيروا وفق صورة رسمناها لهم، أو قوالب نضعهم فيها، أو نماذج لا بد أن يحتذوها في أذهاننا، ولكننا لا نرسم طريقا لأبنائنا، ولا نحدد لهم قوالب سالفة الإعداد لكي يسيروا وفقها؛ بل كل ما علينا هو أن نكتشف قدرات ومهارات أبنائنا، ونسعى لتنميتها وتهيئة المناخ المناسب لهم لمزيد من الإبداع والابتكار، ومن هنا تأتي أهمية المقولة الرائعة "لا تكرهوا أولادكم على آثاركم؛ فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم".
هكذا يلخص الآباء لغات وأدوارًا كثيرة جدا للغة واحدة ودور واحد وهو "التفوق"، فالتربية والتنشئة والآمال والطموحات والمتعة والحياة كلها تنحصر في تفوق الأبناء، والتفوق أيضا له لغة واحدة لديهم وهي الحصول على أعلى الدرجات ودخول أرقى الكليات -عرفت منذ القدم بكليات القمة- ولكن خريجيها الآن ليسوا أبدا ممن نعتبرهم "قمة" المجتمع لأن المجتمع نفسه تخلى عن دوره تجاههم، ووجدوا أنفسهم في النهاية "في ظلمات يعمهون"، كما أصبح هذا المجتمع ذاته لا يعترف سوى بهذا المتفرد بعلمه ومقدرته على حل مشكلات الناس جميعا ودون مقابل؛ لأنه مجتمعا فقد القدرة على العطاء ليس لبخله ولكن لبخل القائمين عليه.
مهم أن يدرك الآباء قبل فوات الأوان أن لغة العصر تغيرت وأصبح يلزمها تفوق من نوع مختلف ينتج عن حب للعمل وحب للمهنة التي يتقنها كل فرد منا، وليست تلك التي علينا أن نحبها كي نأكل خبزا ونشرب معها هما وغما لنرضي من حولنا.
وفي النهاية وجدنا أنه لابد أن نتفق –كما تقول المستشارة عزة تهامي- على أن الهدف الأساسي من المذاكرة هو تربية الأبناء وتوجيههم عن طريق الاعتماد على النفس، وتحمل المسئولية وإثارة الدافعية للإنجاز والرغبة في التقدم والنجاح لتحقيق أهدافهم التي يرسمونها لأنفسهم بطريقة تدريجية يتعلمونها تتيح لهم فرصة الإبداع والإضافة لهذا العالم.