وداعًا للتربية العفوية
- التفاصيل
عمر السبع
قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه؛ أحفظ أم ضيع؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)[وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (1966)].
كلنا ـ معشر المربين ـ نقرأ هذه الآية ونتمعن في هذا الحديث فنشعر بالمسئولية والأمانة تجاه أولادنا، ولكن ما هذه المسئولية؟ وما حقيقة هذه الأمانة؟ وما مفهوم هذه الرعاية؟ الإجابة ربما تختلف كثيرًا عند أغلب من يقوم بالعملية التربوية؛ سواء في الأسرة أو في المدرسة أو في أي مؤسسة من المؤسسات التربوية.
مفهوم الأمانة والمسئولية:
إن من قصر النظر وضآلة الفهم أن يظن المربي أن الأمانة والرعاية محصورتان فقط في تربية الأولاد التربية الدينية السليمة، وتعليمهم الأخلاق الحسنة، أو في السعي لكفايتهم في المأكل والملبس والمسكن، وينسى كثير من المربين جوانب أخرى كثيرة متعلقة بالتربية، تدخل أيضًا في جانب الأمانة والرعاية.
إن المربي الذي يربي لنا طفلًا ضعيف الشخصية قد قصَّر في الأمانة، والمربي الذي ينتج لنا طفلًا خامل العقل قصَّر في الأمانة، والمربي الذي يخرِّج لنا طفلًا مسلوب الإرادة أيضًا قصَّر في الأمانة.
إن المربي الذي يقدِّم لنا طفلًا حافظًا لكتاب الله ولكنه لا يتأدب بآدابه قصَّر في الأمانة، والمربي الذي يقدِّم لنا طفلًا كريم الأخلاق وجميل الصفات ولكنه متأخر في دراسته قد قصَّر هو الآخر في الأمانة، كما أن المربي الذي يربي لنا طفلًا واثقًا من نفسه ناجحًا في حياته ولكنه لا يصلي قد قصَّر هو الآخر في الأمانة.
إذًا؛ فلابد أن نحرر معنى الأمانة بمفهومها الشامل، وأن نحرر معنى الرعاية بمفهومها الواسع الذي يشمل كل جوانب تربية الطفل الإيمانية والخلقية والنفسية والاجتماعية والجسمية، وأن نتعامل مع الطفل ككيان متكامل له عقل وروح وجسد.
إن من أسباب عدم وضوح مفهومي الأمانة والرعاية لدى كثير من المربين هو غياب النموذج وفقدان الدليل، الذي نحن بصدد صناعته في هذا الكتاب.
خطط لطفلك:
لقد تعوَّد المربون أن يمارسوا التربية بطريقة عفوية، ومن غير تخطيط مسبق، بل إن أغلب ممارساتهم التربوية لا تتعدى أن تكون ردود أفعال وتصرفات موقفية، أي أنهم يمارسون "التربية الموقفية"، والتي تعتمد على التركيز فقط على حل المشكلة الحالية، وإزالة مظاهر السلوك السيئ، بغض النظر عن دوافع هذا السلوك أو البحث في تأثير أسلوب التربية المستخدم على عقلية ونفسية الطفل.
والآباء يستخدمون هذه الطريقة في التربية بسبب غياب الدليل وفقدان النموذج، فتتحكم عوامل أخرى في التربية غير النموذج والخطة المحكمة.
(وبمجرد أن تتعلم القليل من مبادئ التربية الإيجابية فإنك بذلك قد اكتسبت نوعًا من الثقة بالنفس، ومهارات حل المشكلات، والتقدير الإيجابي للذات، وذلك من شأنه أن يسمح لك بالبحث في أعماق الحكمة داخلك، لتجد حلولا تبتكرها لحل مشكلاتك الخاصة) [التهذيب الإيجابي من الألف إلى الياء، نيلسن ـ لوت ـ جلين، ص3].
طفلك ورقة بيضاء أنت ترسمها:
إن أطفالنا يخرجون إلى النور كالورقة البيضاء، لا تكاد تجد فيهم جرة قلم؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة) [رواه البخاري]، قال الشوكاني: (أي كل مولود يولد على الدين الحق، فإذا لزم غيره فذلك لأصل ما يعرض له بعد الولادة من التغييرات من جهة أبويه أو سائر من يربيه) [نيل الأوطار، الشوكاني، (7/248)].
(ومن الأمور المسلَّم بها لدى علماء التربية والأخلاق، أن الطفل حين يولد يولد على فطرة التوحيد، وعقيدة الإيمان بالله، وعلى أصالة الطهر والبراءة، فإذا تهيأت له التربية المنزلية الواعية، والخلطة الاجتماعية الصالحة، والبيئة التعليمية المؤمنة؛ نشأ الولد لاشك على الإيمان الراسخ، والأخلاق الفاضلة، والتربية الصالحة، وهذه الحقيقة من الفطرة الإيمانية قد قررها القرآن الكريم وأكدها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثبتها علماء التربية والأخلاق) [تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان، (1/120)].
أنت الذي تنقش، وأنت الذي ترسم، وأنت الذي تبني أيها المربي، وكما قيل: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر.
لذلك؛ كان من كلام الإمام الغزالي رحمه الله: (الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش، مائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوِّدَ الخير وعُلِّمَه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر وأُهمِل إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له) [إحياء علوم الدين، الغزالي، (1/917)].
إن طفلك ورقة بيضاء أنت ترسمها بيدك، أو صخرة صماء أنت تنقشها بعلمك وخبرتك، وشفافية الأطفال وسذاجتهم مزية كبيرة تسهل عملية التربية، وتعين على تشكيل السلوك، ولكن في نفس الوقت تشكِّل هذه الشفافية خطرًا كبيرًا يواجه كل من لا يملك دليل التربية ولايعرف شيئًا عن النموذج الذي يرسمه.
إن هذه الشفافية وهذا النقاء يكون قوة داعمة للمربي الذي يملك تصورًا واضحًا عن التربية، فيستطيع أن يرسم هذا الطفل ويشكِّل هذا النموذج وفق المعايير التي يؤمن بها.
أما المربي الذي لا يجيد الرسم ولا يملك المعايير، فستكون هذه الشفافية عائقًا أمامه في التربية، لأنه سيرسم النموذج الذي لا يعرفه، والأخطر من ذلك أنه لن يكون الرسام الوحيد بل ستشاركه في ذلك كل الوسائط التربوية الموجودة في المجتمع؛ كالإعلام والمدرسة وجماعة الرفاق.
(فحين لا تكون هناك تربية، أو حين تكون التربية والتوجيه فاسدين؛ فإن انحرافات العامل الوراثي تتأكد بدلًا من أن تُقوَّم، وتبرز بدلًا من أن تسوى؛ فيخيل للناس حينئذٍ أن الوراثة هي الغالبة، وهي الحاسمة في تكوين الشخصية، وليس الأمر في حقيقته كذلك، إنما يكون كذلك كما قلنا حين تترك الوراثة وشأنها دون توجيه، وكل شيء يُترك وشأنه لابد أن يستفحل، وأن يصل إلى غاية مداه، لا لأنه هو في طبيعته بهذه القوة وهذا العنف؛ ولكن لأنه لا يجد عائقًا يعوقه أو يشذبه وهو ماضٍ في طريقه.
شجرة اللبلاب من أضعف الشجر عودًا لأنها شجرة متسلقة، لا تستطيع أن تعتمد على ذاتها، ولابد أن تستند إلى شيء تتسلقه وتنمو من فوقه، ولكن كيف تصبح حين تأخذ مداها من النمو والتسلق والتشابك بمداداتها التي تشتبك عن طريقها بالأشياء؟! إنها تسد عليك الطريق، ولا تستطيع المرور من خلالها إلا بالجهد) [منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، (2/89-91)].
فالتربية العفوية كشجرة اللبلاب تمامًا؛ عندما تأخذ مداها من التسلق والتشابك تعيقنا عن التربية المقصودة والمبرمجة؛ ومن هنا نفهم أن التربية ليست مجرد عملية تعديل للسلوك السلبي أو تقويم للأخطاء فحسب، بل إن عملية التربية هي عملية بناء متكاملة.
عملية بناء تتعامل مع هذا الطفل ككيان متكامل عقل وروح وجسد، ومن هنا كان لابد للمربي أن يدرك جيدًا أن دوره في الحياة هو بناء الأنفس وإنشاء العقول، وما أجمل قول الشاعر:
قُـــــــمْ لـلمعلّمِ وَفِّـهِ الـتـــــــبجيلا كــادَ الـــمعلّمُ أن يـكونَ رسولا
أعلـمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي يــــبني ويـنشئُ أنـفسًا وعقولا؟
على طريق التعلم:
- اقتنِ كتبا في تربية الأطفال واقرأها جيدًا واجعلها مرشدا لك.
- طالع مهارات التربية على الشبكة العنكبوتية ففيها الكثير من المقالات الهامة.
- افهم طفلك وهيئ له الجو المناسب الذي ينشأ فيه.
- استشر المربين والخبراء في أي مشكلة تعرض لك أثناء تربيتك لطفلك.
المصادر:
• منهج التربية الإسلامية، محمد قطب.
• إحياء علوم الدين، الغزالي.
• تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان.
• التهذيب الإيجابي من الألف إلى الياء، نيلسن ـ لوت ـ جلين.