محمد تكديرت
توجه أصابع الاتهام للطفل الصغير، لينطق قلبه "آسف.. اعذرني"، ليكبر هذا الطفل فيما بعد، و يجد نفسه عالقًا وسط قطارٍ توقَّف لتَوِّه في الخلاء فقط لأنه توقَّف، ثم ليطرد الوساوس من ذهنه قائلاً لنفسه: "اصبر يا هذا سوف يقدَّم لك اعتذار يزيل هم يومك بأكمله.. "، و بينما هو يتحدث مع ذاته بلغة إيجابية راقية؛ إذا بشرطي القطار يظهر حاملاً معه أمرًا لا اعتذارًا" تأشيرتك!"
إنَّ مثل هذه المواقف وغيرها الآلاف تتقبلها عقولنا بشكل لا واعي بأنَّها جزء من الحقيقة التي لا يمكن الحديث عنها أو الدوران حولها... ألا ترَى معي أنَّ خطأ المدير منزَّه عن الاعتذار، وحينما تحاول خلايَا مخك السؤال تجد الجواب مركونًا في زاوية من ذهب "إنَّه المدير "تخرج من فم صاحبها بعينيين شاخصتين كالمَغْشِيِّ عليه من الموت!
نحن لا نريد قطعة حديد صفراء قد نهشّ الزمان أطرافها مكتوب عليها بخط باهت "نعتذر لإزعاجكم"، وكأن ثقافة الاعتذار لا توجد إلا على الطرقات، وإن كان الأمر كذلك فإننا نطالب أن تعبد جميع الإدارات والمرافق العمومية أو أن تنزل الإدارة إلى الطرقات!!
حتَّى الكبرياء له دوره في تضخيم إحساس الأنا بوجودها وأنَّها هي الأصل و ما دونها باطل... لهذا تجد الشخص يغرق في مستنقع الأخطاء ليستيقظ على جملة عَرَق جبينه من أجل نحت حروفها "نعتذر منكم"، وحينما يتعلق الأمر بتشييد أو نجاح يبدأ عداد "الأنا" في مباشرة عمله، وتقبر الجماعة في صمت الخطأ .
آسف
ليس من السهل أن تـرفع سماعة الهاتف لتنطق نفسك بها، فالكبرياء يختبئ وراء كل حرف من حروفها، لكن الذي عاش عليها تجعل منه رجلاً يحذر الوقوع فيما يجعله مضطرًا للاعتذار عنه، كما تدفعه لئلَّا ينتظر من نفسه أن يسيء ليعتذر، فهو في حركية دائمًا، ينطلق من ذاته ليصل إلى الآخرين، و ليس كصاحب الجماعة، يقترف الخطأ ليختبئ و يصيح "نعتذر منكم !! " .
لهذا تجد أحيانًا بعضهم يركب على ظهر التبرير ليتملَّص من المسؤولية، وبدلاً من إيجاد حل لمشكلته، فهو يسعى لإيجاد مَخْرَج يعفيه من إخراج لفظة "آسف"، و العصا التي يتكئ عليها طوال حديثه كلمة "لو"، إلا أنَّ الاستناد إلى حائط التبرير ليس عيبًا، لكن قد يهدم ويصبح قبيحًا حينما تنزع منه لبنة الاعتذار.
نعم، هي من شِيَم الكبار فقط، أمَّا صغار النفوس فيهربون منها كما يهرب الطفل من الظلام… لا أقصد هنا بلفظة "آسف" تلك التي نراها في الشوارع حينما يصطدم اثنان أثناء مشيهم، بل ما يكون حاضرًا في المواقف الجادة من أجل استمرار عجلة الحياة .
أنا آسف
لا يهم لمن تقال، صغير أو كبير، غني أو فقير، رجل أو امرأة، فهي كلمة يلفظها القلب لا العقل، وحينما تصدر منك عن غير وعيٍّ، فاعلم أنك تعيش حالة اتزان بين قلبك و عقلك.
كم من المشاكل تفاقمت كان من الممكن تجاهلها باعتذار، وكم من العلاقات مُزِّقت كان لعبارة أن تلم الطرفين و تستأنف مشروع المحبة و العطاء .
فلسفة الاعتذار تجعل منك معلمًا وتلميذًا في آنٍ واحدٍ، فالذي يعاتبك الآن قد يخطأ في حقك بعد قليل، فلتكن أذنك منصفة في قبول "آسف ! " .
ختامًا، فإنَّ ارتكاب الأخطاء أمر سيئ، و الاعتراف بها يزيل سوأتها، وقبول الطرف الآخر الاعتراف دليل على رقي فكره و نضج أخلاقه.
آسف
- التفاصيل