مي عباس
تتمنى كل أم أن ترى أولادها سعداء ناجحين، وأشد ما يكون ألمها عندما يكبر الصغار وهم تائهون أو عاطلون يتعثرون في الحصول على عمل مناسب، وتمضي حياتهم رمادية متشابهة.
هذه الصورة القاتمة تساهم فيها الأم دون أن تقصد، فعندما يتفتح الطفل للحياة، ويبدأ في مرحلة الفضول والاستكشاف، إما أن تكون الأم متفهمة ومحبة وداعمة لنمو عقل طفلها وإدراكه، منتبهة لمواهبه، أو أن تكون متأفأفة من حركته، وضريبة استكشافه، تمل من أسئلته، وتحثه دائمًا على أن يهدأ ويترك الأشياء في حالها..
نعم حركة الطفل لها ضريبة فهي متعبة ومرهقة للأم التي تتابعه حرصًا على سلامته، وتلملم الفوضى من ورائه، ولكن هذه الإرهاق هو استثمار مربح في نفس الطفل وعقله، وفتح آفاق الحرية الفكرية والانطلاق النفسي أمامه.
وليس المقصود أن ينشأ الطفل بلا ضوابط ولا توجيه، أو أن يتحول البيت لساحة من المهملات، ولكن الأم الذكية التي تعرف قيمة تنمية عقل طفلها، وإعطائه مساحة للتجريب والممارسة حتى يكتشف موهبته، ستجد حلولا كثيرة، وهذا فارق جوهري بين تنشئة الطفل العربي والطفل الغربي، فمع الأسف الشديد يُربى الطفل العربي – إلا من رحم ربي- بطريقة تقتل موهبته، وتخنق إبداعه، وتسعى لتشكيله في قوالب نمطية، بينما لدى المؤسسات الغربية المختلفة وعلى رأسها الأسرة شغفًا باكتشاف مواهب الأطفال وتنمية إبداعهم، وكثيرًا ما ينتقل الأبوان إلى بيت بعيد عن ضوضاء المدينة وضيقها لإعطاء الحرية للأطفال في الحركة واللعب والاستكشاف.
وأول ما على الأم فعله هو أن تدرك أن عالم اليوم والغد لم يعد سهلًا النجاح فيه، ولا تكفي الشهادة الدراسية أبدًا لاجتياز منافسته الشديدة، وأنه إذا لم يملك الابن/ الابنة ثقافة حقيقية، وخيالا مثمرًا، وموهبة خاصة فلن يتحقق له النجاح مهما حصل على شهادات.

وعليها أن تقارن بين راحة قريبة بتعويد الطفل على الكسل والرتابة والنمطية والتكرار، وهي الأمور التي ستولد إنسانًا عاجزًا مكتئبًا شاذ السلوك فيما بعد.. وبين راحة بعيدة بأن يكون الابن ناجحًا سويًا مُبدعًا ولهذه النتائج المفرحة ثمنًا من الصبر والمتابعة والتفهم في مراحل التنشئة.

وأضع بين يديكِ أكثر الأساليب فتكًا بموهبة الطفل وإبداعه لتتقيها وتحذري منها:

1ـ الحماية الزائدة: من أكثر أساليب التنشئة قتلًا للنفس، وتحجيمًا للعقل، وعلى الأم أن تُهذب مخاوفها على أطفالها، وتتوكل على ربها، وأن تعلم أن الطفل مجبول على حب اللعب والحركة والاستكشاف، وهو ما يحملها هي مسؤولية الرقابة الذكية، والمتابعة وعدم الإهمال، وتوفير البيئة المناسبة من مسكن ونادي اجتماعي ورياضي، وأماكن للنزهة، وإشراكه في برامج ودورات علمية وفنية واجتماعية.

فالواقع المُشاهد أن الطفل الذكي متوقد الأفكار إذا تربى بالحماية الزائدة يصبح سريع الغضب، كثير التنقل بين الأفكار والأعمال دون أن يحقق النجاح في أيٍ منها، ويميل دومًا إلى المثالية وعدم الواقعية لأنه تعود أن يفكر دون أن يجرب ويحاول.. يخطئ ويصيب، يفشل لينجح.



2ـ السخرية: يمكننا أن نعتبرها الخطيئة الكبرى في التربية، أن يسخر الوالدان من الطفل، أو يسمحا للإخوة والعائلة بالسخرية منه.. فهذه النفس الغضة لن تتحمل طعنات التهكم والتندر، مما يدفع بالطفل إلى البعد عن تجريب أي شيء، أو التعبير عن رأيه، أو التفكير خارج الصندوق، اتقاءًا لمرارة السخرية.. فينشاون على الخجل المقيت، والخوف من التفكير والإبداع، وتُدمر بذور مواهبهم وتميزهم.

احذري ثم احذري من السخرية من أطفالك، أو التقليل من شأنهم، أو التعامل باستخفاف مع مقترحاتهم وأفكارهم وأقوالهم.. فهم ليسوا لعبة وإنما أمانة حملك الله إياها وهو – تعالى- ناظر ماذا تصنعين.



3ـ الغضب والملل: أثبتت الدراسات أن الصراخ في الطفل أشد عليه من الضرب، وقد تؤدي كثرة أسئلة الطفل وطلباته مع مشاغل الأم إلى أن تفجر غضبها في وجهه، فيترك هذا ندوبًا لا تُشفى في نفسه.

والحل هو أن يكون بين وبين أبنائك لغة حوار وتفاهم، وأن تتفقوا على أن يحترموا أوقاتك ويقدروا مشاغلك، مع أهمية أن تمنحيهم في المقابل أوقاتًا صافية كافية للنقاش والرد والبحث سويًا.



4ـ ضيق الأفق: يقتل إبداع الأبناء أن تربيهم أم ضيقة الأفق، لا تسعى لتطوير نفسها، منغلقة على معارفها المحدودة.. ويقتل إبداعهم أيضًا أن يكون محيطهم الفكري والاجتماعي محدود، وأن يُضيق عليهم في استخدام تكنولوجيا العصر، ويُضيق عليهم في البحث والقراءة.. فينشأون وسط أسياج حديدية معقدة وكثيرة تقطع عليهم فرص الإبداع والنقد، وكثيرًا ما يحدث هذا في أوساط الملتزمين دينيًا، وهو خطأ فادح سيدفع الجميع ثمنه غاليًا.

فتنشئة طفل متدين لا تعني على الإطلاق عزله عن المجتمع، ووضع معايير مثالية متوهمة أمامه، وتربيته على "المنع" الذي لا ينتهي.. فعما قريب سيتحرر مما يعتبره قهرًا، وسيفعل كل ما مُنع منه بطريقة مبالغ فيها.

فمواجهة الفتن المجتمعية، تتطلب أن تُوجد الأسرة مناخًا طيبًا وصحيًا أمام الصغار، فمع كل منع يجب أن يوجد بديل، مع الابتعاد عن المعايير القاسية، فما هي المشكلة في أن يقرأ الطفل روايات بوليسية.. أو قصص ألغاز مثلا إلى جانب القصص الديني؟.. فالتضييق عليه بهذه الصورة ينفره من القراءة بالكلية.

وما هي المشكلة في أن يتعلم أدوات عصره، ويتعامل مع شبكة الإنترنت ويعتاد على إجراء أبحاث.. ويشاهد البرامج السياسية والوثائقية حتى يتعلم التفكير النقدي، والأخذ والرد؟.

وختامًا فإن واحدة من أفضل القواعد التربوية أرساها الخليفة الراشد "علي بن أبي طالب" –رضي الله عنه- عندما قال: "لا تأدبوا أولادكم بأخلاقكم، ولا تكرهوهم على عاداتكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم‏".".".

JoomShaper