يقول الكنديّ "ماكسيميلان فورت" أستاذ علوم الإنسان وخبير إعلام الشبكات الاجتماعية: (إنّ مناقشات انتخابات إيران على "تويتر" يسيطر عليها مستخدمون أميركيون لا إيرانيون، فيكتبون من منطلق أمريكي جيوسياسي، مستخدمين شعارات استعمارية حول الحرية والديموقراطية... إنّ هذا يسلط الضوء على التفكير الاستعماري وعقلية الغزو الذهني من الباطن).
ويقول قرآنُنا: (ولا تيمّموا الخبيثَ منه تُنفِقُون)، لو عمد الغربُ لأحسن نتاجه من معارف وحرّيات وتقنيات وأدوات حضارة وصدّرها إلينا و"أنفقها" علينا لكنّا للربّ وللغرب شاكرين، لكن أنْ "يتيمّموا الخبيث فمنه يُنفقون"، فيغرقون أفكارنا وثقافتنا بأسوأ نتاجهم وأوبائهم، فهذا سببُ ممانعة الشرق لما يراه حروبًا صليبية، مؤامرة، صراع حضارات، غزوًا ثقافيا..الخ.
ساركوزي وأمثالُه "أنفق من هذا الخبيث" مؤخّرا مرّتين:
مرّةً: حين تباكى هو (والعالمُ "الحُرّ") على وجوب توفير الحرّيات لفئات إيرانية حتى بممارسة الشغَب والانقلاب على الشرعية ورفض نتيجة الانتخابات ولو بفارق 12 مليون صوت! (وكأنّ ساركوزي وفّرها حين ثار المعدمون في فرنسا وأحرقوا الممتلكات وكسّروا)، وعينُ الحكمة فعلت مملكة البحرين وقطر والإمارات برفضهم التدخّلات الخارجيّة بشئون إيران ، وترك الشعب الإيراني برجالاته يحلّون أمورهم بحكمة وانسياب وتدافع سلميّ، بلا جعجعات لفرض خريطة الانسحاق وتخوير العزائم المُقاوِمة.. لخدمة المشروع الصهيوني والإمبريالي.
ومرّةً: حين صرّح أنّه لا مكان للمنقّبات بفرنسا، لأنه استعبادٌ وإهانةٌ لكرامة المرأة!!..
فهو مرّة مدافعٌ عن "كرامة" الشعب الإيراني.. الذي ينبغي أن تُصبِح "قوّته في ضعفه" وتغريبه وربّما "فرْنسته" وجعل جميع نسائه فرنسيّات الصبغة والدماغ.. ومرّةً أخرى يُدافع عن "كرامة" المرأة..

أوّلاً: لم نسمعه يتباكى على تشوّه ديمقراطية "إسرائيل" بتهويدها الدولة وحصارها أصحاب الأرض، لم تُرفع عقيرتُه لهتك كرامة الإنسان العربي وهو يُجوّع ويُحاصَر ويُقتل وتُهدم بُناه التحتية والفوقيّة، وتُهجّر مئات الآلاف منه وتُجزّر أطفاله و"نساؤه".. ألأنّ الشعب الفلسطيني بلا كرامة وحشرات (كما صرّح حاخامٌ صهيوني مرّة)؟ أم لأنّ الكيان الصهيوني ممنوع اللمس وِفقَ ما أعلنه القسّ الأمريكي الهالك "جيري فالويل" الواصف نبيّنا(ص) بالإرهابيّ: "اليهوديّ بؤبؤ عيني الله، ومن يؤذي اليهودي يضع إصبعه في عين الله"!

ثانياً: أحقّا يُهين النقابُ كرامة المرأة، أم يُهينها التسلّط عليها والإكراه؟! أليس فعلُ ساركوزي تسلّطاً على خيار المرأة متى أرادت أن تتنقّب بوحيٍ من عقيدتها أو عُرفِها أو حتّى مزاجها؟ مَنْ صيّره حاكماً على آلاف نساءٍ خيارُهنّ عكس خياره؟!
"كرامة المرأة" وجدناها بالأفلام الفرنسيّة والأمريكية النمطيّة.. التي تنتحب على نساء أفغانستان وإلباسهنّ خيمةً وتهميشهنّ.. وبدلاً من تحريرهنّ بالحفاظ على جوهر القيَم نجد معنى تحريرهنّ بتغريبهنّ وتعريتهنّ ليصبحن جسداً للشهوة والإغراء، مجرّد "أنثى" بدلاً من "إنسان"، فتضيع "كرامة المرأة" بين إكراهٍ يُغيّب جسدها وعقلها، وإكراهٍ يُعرّي جسدها ويُسطّح عقلها!
أحدُ الأفلام يُقدّم مقطعاً مسرحيّاً عن نساء أفغانيات متجلببات، تأتي نساءٌ غربيّات لتحريرهنّ، فينصرْنَهنّ ضدّ القمع، فيحتفلنَ بخلع عباءاتهنّ وقِطَع لباسهنّ، ليرقصن بالختام -شبهَ عُراة- بعنفٍ شهواني.. وكأنّ بهذا الرقص الإباحيّ تحريرهنّ.. محاكياتٍ صخب والتواءات مادونا وسبيرز و"ملِك البوب" جاكسون (الذي سكَنَ رقصُه الآن، ووفد على ربّه، وما عاد محتاجاً لعمليّات تجميل وتبييض، وارتحنا من ضجيجهم الإعلامي عن تحرّشه بالأطفال)..!

"كرامة المرأة" غربيّاً أوردتها البي.بي.سي بخبر الرئيس الإيطالي "برلسكوني" الذي يُغري ويُغرّر بشابّات جميلات لحفلاته الخاصّة.. لتحريرهنّ!

"كرامة المرأة وحرّيتها" تكمن بإعطائها حقوقها وإزالة ما علق بتراثنا وثقافتنا وتشريعاتنا من سوالب حقّها بالمشاركة.. لتطوير عقلها وذاتها وقدراتها، مع حفظنا قيم عفافها الذي هو زينتها وحاميها ألا تنحدر فتقع فريسة غرائز تُغرَّر ويُغرى بها.. كوجهٍ وجسدٍ معروضٍ بآخر صفحات الجرائد، وبأوّل أغلفة المجلاّت، وكعنصر ديكوريّ لكلّ دعاية، فهذه هي إهانة المرأة واستعبادها يا "مونسيور ساركوزي".. بثقافة صيّرتها رخيصةً جدّاً.. وشكليّةً جدّاً.

لعقودٍ تُخصّص جريدة "السَّنْ البريطانية" صفحةً يوميًا لنشر صورة امرأةٍ عارية، وقبلها كان التحضّرُ والذوقُ الرفيع البريطاني يعرف السيّدة المحترمة (الليدي) تلبس لباسا أنيقا ساترًا محترما، ويعدّ اللواتي يبذلن محاسنهن ويُعرّين أفخاذهن وصدورهنّ.. عواهر، فلماذا انقلبت الصورةُ فعاد السترُ تخلّفاً والعريُ حضارةً وحرّية وكرامة؟!

لماذا شاعتْ استراتيجيةٌ ممنهجةٌ تستهدف تعرية المرأة (دون الرجل)؟! المراقصُ تعرض أجسادَ النساء، المُتاجرة بهنّ جنسيًّا بالفنادق والمسابح والملاهي وبمواقع الإنترنيت، حتّى الرياضات.. كالعدْو والقفز وكرة الطائرة والسلّة والسباحة تجد النساء وحدهنّ بملابس عارية (كالمايوه)، بالتنس الأرضي لباسُ الرجال أستر، بين جولات الملاكمة وبملاعب السلّة والقدم الأمريكية الفتياتُ راقصات استعراضٍ عاريات (تشيرْ ليدرزْ)، وغالباً يُؤتى بفتاةٍ شبه-عارية مُزيّنة تُصَفّ بإزاء السِلَع المرغوبِ تسويقُها، أليس جميعُ هذا إهانةً وهدراً لكرامة المرأة وتقزيمها في الجسد.. واستخفافاً بعقلها وبحقوقِها؟!
فإنْ كان الياباني "لي ترونج" الذي شاع خبرُه وكتبت عنه الصحفيّة الفاضلة "لميس ضيف": (أنْ تخلق زوجتك)، خلَق له "امرأةً اصطناعيّة" طيّعةً مستعبَدةً لرغباتِه، فواقعُ "المرأة الحقيقيّة" ليس أقلّ ضراوة وسخريّة واستعباداً.

لقد واجهتْ الحقوقيّات الأفغانيّات إشكاليّةً لاستعادة نسائهنّ حقوقهنّ المشروعة: بالزواج والتعليم والعمل والمشاركة والتمكّن.. بتحرير عقلهنّ وطاقاتهنّ ليكنّ كائناتٍ مريدات للخير والفضائل.. مشاركاتٍ ببناء الحضارة.. وانتشالهنّ من العزل الذكوريّ المضروب، فكان الغربُ يُعرقِل المشروع بإضافة وإنفاقِ "خبيثه".. مِن حرّية انفلاتٍ وامتهان الجسد.. فتسقط دعاوي التحرير الصادقة بانحصار خيار هويّة المرأة بين إمّا "جمودٍ" أو "تبخّرٍ

 

أ.جلال القصّاب
جمعية التجديد الثقافية - مملكة البحرين

JoomShaper