أ.د. ناصر أحمد سنه
كثيرة هي المواقع والمدونات الإلكترونية، وما تزخر به ـ كل ثانيةـ من سيل عرم من المقالات والأفكار والأشعار والآداب الخ. وكثيرة هي ـ علي الرغم من أمل كثيرين بزيادتها لتصل إلي المعدلات العالمية التي تشير إليها التقارير السنوية للتنمية البشريةـ  الكتب والمطبوعات والصحف والدوريات الورقية، وهي تنشر ذات ما تنشره تلك المواقع الإلكترونية، وإن بقيود أكثر، وضوابط وسياسات للنشر أعقد، وبوتيرة وسرعة أبطأ. ومع هذه وتلك ـ وليس من قبيل التشاؤم أو اليأس في شيء، إذا "لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس"ـ يدور دولاب من الأسئلة القديمة الحديثة. أسئلة تعبر عن "جدلية وإشكالية" ظهرت مع ظهور الإنسان علي صفحة هذه الحياة: أين أثر القلم والكلمات والفكر والثقافة وتأثيرها الإصلاحي النهضوي المنشود؟، وهل فقدوا دورهم الفاعل، وهل باتت الكلمات مشلولة، عاجزة عن الفعل؟، وهل هي فاعلة بذاتها في فضاءاتها، أم ينبغي لمن نهض بمسئولياتها أن يزاوجها ويقرنها بالعمل (القول/ الفعل)؟.


إنها ذات الأسئلة، مع اختلاف ملابساتها، ومجتمعاتها، وواقعها ـ التي تم طرحها علي مدار حقب وعقود مضت. بيد أن ما وقف خلفها إثارتها من جديد التأمل في واقع معيش. واقع تأمله وتساءل عن نهضته أيضا الدكتور "زكي نجيب محمود"، في فصل "مداد مشوش"من كتاب له (مجتمع جديد أو الكارثة)، دار الشروق، ط3، 1983م)  وقعت عليه عيني ويدي مع ترتيب أرفف مكتبتي ـ كلما شعُثت صفوفها، وأختل هندامها، وتضخمت وتصارعت أحشائها، وناءت رفوفها بأحمالهاـ ولعل حياتنا ـ ومشكلات أكثر وأغزر وأعمق ـ تحتاج كل حين لما تحتاج إليه هذه أرفف هذه المكتبة.
لقد استعرض د. "زكي" في فصله هذا: مسيرة الإصلاح عبر الكتابة والتثقيف عبر ما يزيد قرن من الزمان (منذ الأمام الشيخ "محمد عبده" ومن تلاه)، وهل أفلحت في تغيير ما أراده الكاتبون المُصلحون من: طباع سيئة اُلفت،، وأمراض اجتماعية واقتصادية وتعليمية وإعلامية انتشرت، فساد كبير عمّ، وإفساد أكبر طمّ، قلة من عمل، وكثرة من أمل، وغياب للأصل والجوهر، وسطوة للشكل والمظهر، وسلبية مقيتة، وإيجابية كسيحة، واحتلال بعد تحرير، وغياب "تقرير المصير"، وتخلف وتبعية، وانتكاسات حضارية الخ.
لقد طرحوا ـ مازالت ـ تطرح ذات القضايا، وتعرض ـ ومازالت ـ ذات المشكلات، وتـُقترح ـ ومازالت ـ ذات الحلول، فأين الخلل إذن؟.
أهو حقاً "مداد مغشوش"، أم هي علل وأدواء تستعصي علي الحل؟.
أهو طريق مسدود، وخطان لا يلتقيان بين "الفاعل، والقابل"؟.
أين مزاوجة القول للفعل، وتكريس نماذج القدوة الحسنة، إلا لا حياة للشعوب والأجيال بدون قدوات ورموز:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصف:2-3).
أهو عدم مراعاة قوانين التدرج، واستحداث القابلية للتغيير؟.
أم هي "طبائع الاستبداد" التي ـ كما يزعم البعض ـ لا ينهض الشرق إلا بها؟، ولماذا لم ينهض وقد تعاقبت عليه عقودا متتالية؟.
وأين الناس من تحقيق خياراتهم التي يريدونها، وتطلعاتهم التي يأملونها؟.
وأين حرياتهم وتحررهم، واحترام حقوقهم وهويتهم وكينونتهم.. ليكونوا فاعلين متأثرين مؤثرين، صالحين مُصلحين؟.
أين هم من التحاور والتشاور والتشارك فيما يطرح من مناهج للإصلاح والتغيير والنهوض؟ لا التي تهبط عليهم فتحولهم (بسلبية كاملة كأحجار شطرنج) يمنه ويسرة بين مذاهب وتوجهات وأيدلوجيات لم تكن لتنبع من قناعاتهم وخياراتهم؟.
أين كل الأطراف الفاعلة في عملية النهوض والتأثير والتأثر من استنهاض الهمم، ووضوح الرؤى، تحدي البرامج، وتقويم النتائج، ونظافة اليد، وتحمل المشاق، والتجرد للشأن العام، والنهوض بالتبعات والمسئوليات؟.
إن كل الدلائل والشواهد ، التي يكاد يجمع عليها كل هؤلاء الكتاب والمفكرون والمصلحون، تؤكد علي أن الإشكالية ليست "إشكالية منهج"، بل "أزمة تطبيق". فالمناهج الإصلاحية النهوضوية واضحة جلية، طبقناها حقباً فكانت لها حضارة "سطعت شمس" أنوارها علي كل الدنيا من مشرقها إلي مغربها. نهلنا من غيرنا ـ وصهرنا في بوتقتنا، وفق خصوصياتناـ وأضفنا وقدمنا (للآخر) عصارتنا علي أطباق من ذهب دون قيد أو شرط أو إكراه، وكم شهد علي ذلك شاهد من أهلهم، وما أكثر شهاداتهم التي تتري وتتوالي من منصفيهم.
لكننا ـ والأيام دول، والحضارات كما الإنسان تتعاقب عليه فترات صحة ومرضاً، ضعفا وقوة، طفولة ورشداًـ تنكبنا الطريق لأسباب أيضا واضحة جلية يعرفها القاصي والداني، وإذا ما عرفت الأسباب سهُل تشخيص الداء ووصف العلاج.
إن التجارب النهضوية الحضارية الحديثة في شرق آسيا وغيرها متاحة ، وهي في أسسها تناسبنا وتقترب من خصوصياتنا " والتلاقح الحضاري" المحافظ علي الهويات والخصوصيات، كما فعلناه أول مرة، أمر غير منكور.
العقول متوفرة، والأفكار نيرة، والثروات لا تحصي، والسواعد كثيرة، والطاقات البشرية ليست كما أو عبئاً مهملاً بل ثروة ما أعظمها من ثروة، والاستثمار فيها انفع واجدي أنواع الاستثمار، فلم التخلف والتقهقر؟.
إنه ليس "مدادا مغشوشاً"، فسيظل للقلم، ولما يسطرون ـ في حضارتنا الراهنة التي تقوم علي العلم والمعرفة، وأن "المعرفة قوة، والقوة معرفة"ـ  دورهما وأثرهما وتأثيرهما، وإلا لما أقسم بهما الله تعالي في مطلع سوره من سور القرآن الكريم تحمل ذات الاسم: "ن، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" (القلم: 1).
سيظل المنهج جليا، بينما الأزمة في التطبيق:" ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم:41).
سيسهم القلم والعمل والكلمات والفكر والثقافة في التأكيد علي أن الناس أحرار، هكذا ولدتهم أمهاتهم، ولن تنهض شعوب إلا بحرية، تناهض محاولات أستعبادتهم،  وقهرهم، لتكريس تبعيتهم، واستغلال تخلفهم، لتثري أقوام علي حساب أخري.   
سيسهم القلم والعمل والكلمات الفكر والثقافة في تغيير"تربية القهر" التي تقتل كل فاعلية وعمل وكفاءة وإبداع، وتعمل علي استنزاف العقول، وهجرة الكفاءات، بل "هجرة الأجنة" في بطون الأمهات.
سيسهم القلم والكلمات والفكر في استنهاض الهمم والهامات، وبث الأمل والآمال ، والحث علي أبداع الخيارات والتطعات التي ستجد واقعاً معيشاً، فالشعوب ـ وإن ضعفت ـ  لا تموت، وطالما هي حية، "فلا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة".
سيسهم القلم والعمل والكلمات والفكر والثقافة في استعادة الأوطان التي سُلبت، والهويات التي أضعفت، الاتحادات التي انتهكت، والثروات التي نُهبت، والمقدسات التي استبيحت، وسرقت لتلحق "بتراث محتل استيطاني إحلالي عنصري".
سيسهم القلم والعمل والكلمات والفكر والثقافة "دون غش أو شلل" في هذا "التدافع" بين أصحاب الحق والباطل، بين القلم والسيف، بين الفكر والقهر، بين الحرية والاستعباد، بين الإبداع والجمود، بين الاستقلال والتبعية، بين النهوض والإرتكاس، حتى وإن تعاقبت السنون والدهور إلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولاً:"...وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة:251).

بقلم: أ.د. ناصر أحمد سنه / كاتب وأكاديمي من مصر.
E.mail:عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

JoomShaper