د.نورة خالد السعد
حياتنا الاجتماعية في مجتمعاتنا الإسلامية كانت مثار تساؤل للعديد من الباحثات الغربيات ومنها ما كان بين الصحافية الألمانية شار لوته فيدمان - والباكستانية غزالة عرفات أستاذة الفلسفة في معهد العلوم والفنون في جامعة لاهور، قرأته منذ سنوات وأستعيده الآن وأنا أتابع ما يماثله في بعض التغيرات التي اقتحمت مجتمعنا منذ عامين أو أكثر وعلى وجه الخصوص بعد احتلال العراق والتدخل السافر في منظومتنا التشريعية والاجتماعية تحت مظلة مواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان!!
في هذا الحوار بين الاثنتين نجد أن شار لوته تصف زيارة لها لباكستان وما دار بخاطرها حول بعض المشاهدات هناك التي تصفها بالمتناقضات القصوى تمثل في قراءتها لصحيفة يومية باكستانية ففي ذلك العدد من الصحيفة كانت هناك رسالة وعظية محافظة حول القوانين الإسلامية المتعلقة باللباس، وإلى جانبها صور لعارضات أزياء نصف عاريات على صفحة الأزياء والموضة. وحسب إجابة غزالة لها "هكذا هو مجتمعنا، مجتمع منقسم على نفسه بهذه الطريقة". ولهذا تساءلت هي: كيف يحيا المرء في مجتمع منقسم على نفسه وممزق على هذا النحو؟ ومن خلال ما دار من حوارات بينهما سنجد أن ملاحظات الألمانية تنصب كما هي عادة الغربيات دائما حول وضع المرأة، وما يعتقدن أنه ظلم ضدها أن تتحجب ولا تشارك في الحياة العامة بنسب عالية حتى لو كانت هذه النسب تتمثل في قيامها بخدمة الزبائن في المطاعم والبارات!! أو عاملة نظافة في دورات المياه العامةَ!! لأن النموذج الغربي وضع معادلته في معايير التحديث ومنها هذا المعيار في عملية إسقاط للأحداث التاريخية التي مرت بالمجتمعات الغربية والأوروبية على وجه الخصوص من حروب بينهم، وقبلها من ثورات على الحكم الإمبراطوري وعلى الكنيسة مما أحدث الانفصال التام بين الديني والدنيوي.
وفق هذا النموذج الغربي نجد ملاحظات الألمانية تتركز حول الفوارق التي وجدتها هناك فمن ناحية هناك نساء من مثيلات غزالة: (ذات مستوى تعليمي راق، فصيحات وواعيات. وأن تكون أستاذة فلسفة في جامعة نخبوية خاصة؛ إن ذلك لا يعد من المواقع الاجتماعية السهلة المنال حتى في مجتمعاتنا الغربية، حيث نغذي الكثير من التوهم حول تحررنا)، (وهو أمر يصعب عليها تأطيره داخل الصورة النمطية عن باكستان: أن يكون هناك مجتمع مدني وبعناصر نسائية من مرتبة راقية لهنّ من قوّة الشخصية ما يجعلها أحيانا تنطوي على شعور بالخجل أمامهنّ. ثم هناك الطرف النقيض: الانعدام الكلي للحقوق. في الجنوب الغربي من بيشاور وعلى مقربة من الحدود الأفغانية، حيث لا تعرف النساء من السماء غير الجزء الضئيل الذي يتراءى لهن داخل جدران باحات بيوتهنّ؛ لا يغادرن البتة بيوتهنّ عدا في المناسبات التي تمنحها لهنّ الاحتفالات العائلية الظرفية، وفي مثل هذه الحالات لا يخرجن إلا متخفيات تحت البراقع. إنني على قناعة بأنّ مثل هذه الحياة التي تحكم عليهنّ بالاحتجاب المؤبد تمثل بالنسبة لهنّ، كما بالنسبة لي تماما، وذلك بقطع النظر عن كونهنّ مسلمات وأنا غير مسلمة، شيئا غير قابل للاحتمال. لكن الواقع هو أن الفقهاء المسلمين في هذه المدينة الصغيرة يرددون مواعظهم القائلة إن الإسلام قد سنّ عليهنّ ارتداء الحجاب). ثم تقارن بين دراسة غزالة للفلسفة الإسلامية (والغربية كذلك) في إحدى المؤسسات الجامعية الأكثر حداثة - وفي موضع آخر تقدم للنساء قراءات مشوهة عن الإسلام يتناولنها مسلّمة وبأعين مغمضة، لأنهن يفتقرن إلى أبسط مستوى من التكوين، ولأنّ أصحاب السلطة الأبوية من مسلمي اليوم يرعون تقاليد إسلامية عتيقة بهدف الحفاظ على السلطة الذكورية المطلقة. تخيلوا لو أن إحدى المسلمات تحدثت بهذا الجهل عن ثقافة الأوروبيين واتهمتهم أنهم يفتقرون إلى أبسط مستوى من التكوين لمجرد أنهم لا يتفقون معنا في تشريعاتنا؟؟ أو انتقدنا عريهن على الشواطئ وقلنا إنه شيء لا يحتمل؟؟ أم أن لهن الحق أن ينتقدن كما يشأن ونحن ننساق إلى رغباتهن كي نكون عند حسن ظنهن؟؟ ومتحررات مثلهن؟؟
عودة لملاحظات شار لوته حول معظم من تحدثت معهم من الباكستانيين أنهم كانوا يعبرون عن استيائهم الشديد تجاه النظرة الأحادية الجانب التي ينظر بها الغرب إلى بلادهم على أنها فقط "وكر للإرهاب" لا غير. وتتساءل: لكن أية صورة من الصور المتناقضة لباكستان يمكن أن تكون الصورة الصحيحة؟
نسيت أن تسأل نفسها من الذي زرع الإرهاب في العالم؟ وهل هذه الحروب التي لا تزال تقتل المدنيين الآن في باكستان وأفغانستان والعراق قضت على ما يقال إنه (الإرهاب)؟؟ بل ما الأسباب الجوهرية لهذه الحروب؟؟ أسئلة لا يرغبون في التفكير فيها لأن نتائجها لا تطولهم ومن يقتل تحت القنابل هم أجساد مسلمة لا تمت لهؤلاء بصلة لهذا لا يرونها بل يرون من تتحجب ومن لا تتعرى!!
إن ما ذكرته هذه الألمانية نقرأه بين فترة وأخرى في بعض مواضيع بعض الكتاب والكاتبات هنا وكأنهم يرددون ما يقال عنا وفق رؤية الغربيين لمجتمعاتنا ووصمنا بالرجعية لأننا نتحجب أو لا نرى العالم إلا من خلال ثقوب صغيرة؟؟
أما ردود غزالة عرفات فتراوحت بين تأييد نظرتها حول مكانة النساء وبين توضيح دور الأثرياء الباكستانيين والشركات الغربية في تعميق الهوة بين الطبقات الغنية والأشد فقرا، وألقت باللائمة على المثقفين أمثالها الذين يجدون أنفسهم مغتربين بشكل ما داخل مجتمعهم الخاص، وهم أقلية من الناس، ولا يهتمون بالملايين الذين هم على درجة من الفقر والجهل، والبعد يتعذر معه الاحتكاك بهم. وهذا الوضع يعمق الهوة التي تفصل بين الطبقات الاجتماعية في باكستان. إن النخب المتعلمة لا ترى نفسها ملزمة بمسؤولية ما تجاه ما يسمى بـ (الآخرين) - الذين هم فقراء باكستان – ثم نقول: المجتمع يعيش حالة تمزق، ويظل الوحيدون الذين يمدون يدا للجماهير والاتصال بهم هم أولئك الذين تحركهم دوافع دينية.
إنهم يملأون الفراغ الذي تحدثه رداءة الروتين اليومي الحياة المضنية بشيء من الأمل. هؤلاء لا يبخلون بمؤازرتهم وكذلك بالمساندة التي تتطلبها مشاغل الحياة اليومية. الدين يظل الطريقة العلاجية التي لم تعرف الفشل أبدا وعلى الدوام يظل البؤس واليأس يجدان لهما مخرجا للتحول إلى أمل في حياة الآخرة عندما تنسد على الناس كل الأفق في هذه الحياة.
ثم انتقلت أستاذة الفلسفة الباكستانية بالحوار إلى صلب (القضية الحقيقية وليس الطرف الهامشي منها) الذي هو مثار تساؤلات هؤلاء الغربيين الذين لا يستطيع البعض منا أن يواجههم ولهذا نلجأ المحاولات استقطابهم بالتنازل عن بعض تشريعاتنا كي لا نكون مثار استغرابهم، أما غزالة عرفات فقد أحسنت في الرد عليها بقولها: (الانفصام الذي ذكرته في رسالتي الأخيرة لا يتعلق فقط بذلك الذي يفصل المتعلمين عن غير المتعلمين. الانفصام يمس أيضا علاقة الموسرين بالذين يقاسون الفقر؛ الأثرياء يملكون الكثير والفقراء لا يملكون شيئا. هذه الفوارق الصارخة هي ما يميزنا، فلا وجود لمفهوم المساواة أو العدالة. أما تقاسم السلطة والموارد فتظل عبارة غريبة عنا. الاستغلال: ذلك هو الشاغل الوحيد.
لكن من يتلاعب بالآخرين يكون بدوره لعبة في أيدي غيره، فالأغنياء يظلون لعبا في أيدي من هم أكثر ثراء، أي أولئك الأكثر تطوراً على المستوى الاقتصادي. فالاقتصاد لم يعد موجها بالحاجة، بل إن الحاجة هي التي تتحدد بحسب الإنتاج، وغالبا ما يتم خلقها اصطناعيا كي يتمكن القطاع الصناعي من الازدهار.
إن للسلطة ديناميكيتها الخاصة، وهي لا تخضع لأية حدود وطنية، فالشركات متعددة الجنسيات تسجل براءات الإنتاج للنباتات الصيدلية والمواد الغذائية المحلية. ويمكن ذكر تسجيل شهادات البراءة لنبات الـ neem المتداولة بكثرة في المجال الطبي، وكذلك أرز البسمتي الذي ينتج بكثرة في بلدان جنوب آسيا.
وبينما يتكلم الغرب عن حقوق الإنسان يحاول احتكار غذاء العالم. مونزانتو Monsanto مثلا، التي يتم ترويجها من الشركة التي تحمل نفس الاسم، وهو نوع من القمح يعمل حاليا على إدخال تغيير سلبي على القطاع الفلاحي في العالم الثالث. فهذا البذر من النوع الخاضع للمعالجة الجينيتيقية وهو بالتالي عقيم، وينبغي تبعا لذلك اقتناؤه في كل سنة من منتجه الأصلي، وبهذه الطريقة يتم تبديد وإزالة القطاع الفلاحي التقليدي الذي كان قادرا على تجديد نفسه بنفسه.
إن هذا يعني أن المرتبط بالغير يغدو أكثر ارتباطا، وعندما تستقطب هذه الدورة القائمة على الاستغلال والخداع جميع من لديهم إمكانيات للانخراط فيها فإنه لن تظل هناك أية حظوظ أمام الفقراء وغير المتعلمين). تابع
صحيفة الاقتصادية