أ.عبد الهادي الطريف

هل الفعل من حيث المبدأ إلا خطرات تجول في العقل فتتحول بإرادتنا إلى فعل يتجسد في كل لحظة، فإن كانت أفعالنا كذلك فحري بنا أن نبذل غاية الجهد في السيطرة على تفكيرنا، ولا تكون السيطرة من غير معرفة معمّقة بطبيعة الرسائل التي تردنا ونحن نتفاعل مع الحياة، رسائل تردنا من خلال حواسنا التي يلزمنا شرف الانتماء إلى إنسانيتنا المسؤولية الكاملة عنها (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36).
فالصورة التي نراها، والعطر الذي نشمّه، والكلام الذي نسمع، والمادة التي نلمس، كلّها مواد خام تطرق العقول، فتتحول إلى صور ذهنية، هذه الصور الذهنية تعالج للتفكيك والتحليل لنذهب بعد ذلك إلى تشكيل موقف واع منها، والموقف الواعي هو ما يرفع الإنسان إلى مصاف الملائكة المنزّهين، وموقف الغفلة النقيض يهوي به في واد سحيق.
أعرف كثيراً من الأصدقاء وفئات عديدة من الناس ممن يحبّ الذهاب للسينما لمشاهدة الأفلام، وهم مختلفون في طريقة المشاهدة والتعامل مع الصورة التي يريد المخرج لنا أن نراها، فمن هؤلاء من ليس له نصيب من المشاهدة إلا زبد المشاهد الجنسية يستذكرها في كلّ أوقاته، ومنهم من يذهب ليحرق الفائض من وقته بعد عناء يوم طويل لمجرد الترفيه، ومنهم من يستوحي من بعض مشاهد الأفلام صورًا وتجليات يصوغ منها قيمه العالية التي يريد أن يحيا بها، يستذكرها بين حين وآخر ليغذّي روحه وينميّ وعيه، فيشعر بحرارة لهيبها حين الحاجة، وتعمل كمحرّكات آلية دافعة تدعوه بهمةٍ أكبر لكي يتمثل نموذجًا شبيهًا بما رأى أو استوحى.

هكذا هي الحياة، وبذات الأسلوب يتعامل معها الناس، فالحياةُ مليئةٌ بتحدياتٍ كبيرة، ومنذ أنْ خُلقَ آدم ومعركة السيطرة على وعي الإنسان محتدمة، فإبليس من جانبه يحاول جاهداً أن يرسم صورًا مخملية من الأماني الكاذبة تستحوذ على مخيلتنا، لنلهث خلفها، فنجري وراء سراب، ثمَّ نكتشف مع الزمن وقطع المسافة أنّ ما سعينا للظفر به لا يزداد إلا بعدًا، فنعلم حينها أنّنا أهدرنا وقتنا المحدود في طلبه، فيستحكم اليأس ويسيطر على تفكيرنا، فكم من الأماني ذهبت أدراج الرياح في لحظة مواجهة الحقيقة، تمامًا كما التلميذ الكسول يرسم صورة النجاح في ذهنه ولكنه يطلبها من غير وجهها الصحيح، فدون النجاح المنشود بذل الجهد وسهر الليالي وتحصيل الفهم الصحيح للمادة المدروسة، وحصول النجاح لا يكون إلا بالمشقة والمكابدة ومخالفة النفس، فكذلك نحن نطلب الصلاح ونرجو الفلاح، ولكنّا نستنكف أن نبذل القليلَ القليل من الوقت للتفكير والتخطيط.

الغالبية العظمى من البشر تعاني آفة الكسل، وخاصة في مضمار السير نحو الكمال، فلا تكاد تصرف الجهد والوقت الكافي له، وعلى الرغم من توافر النيات الحسنة لدينا فإنّ غياب البرنامج الواضح هو فخّ الشيطان الذي يسقط فيه كثيرون ، فالبرنامج يعني التفرغ والجلوس ومحاسبة النفس أولا للتعرّف على نواقصها، وهذه ممارسة يجب أن تتصف بالمواصلة والاستمرار، وتتطلب لحظات صدق يجب التحلي فيها بدرجة وعي كافية يعيشها الإنسان ليواجه نفسه، ليكون رقيباً عليها، يُحاسبها قبل أن تُحاسَبْ، ومن ثمَّ يقوم بتحديد أهداف قابلة للتحقيق وقابلة للقياس، ليضعها بعد ذلك في قالب زمني محدد يسعى لانجازه.

نحن نريد أن نكون الإنسان الخليفة التي أراده الله، ولكنَّ هذا الإنسان الذي نريد أن نكونه عليه واجب لا ينفك عنه في أيّ من لحظات عمره القصير في هذه الحياة، مهما كانت ظروف الزمان والمكان، وعليه وحده أن يخلق درعه القادر على حمايته في مسيرة حياته، كما أنّ عليه أن يصنع درعًا روحيًا حصينا أمام الهزات يتعرض لها، ولا يكون هذا إلا بالتفكير الواعي في غايات الأشياء ومسارات الخير والشر، ثمّ بالتعرّف على مظاهرها في الأرض.

بمثل هذه النظرة التي يخلقها التفكير المتأني في معنى الخير وتجلياته على أرض الواقع يمكن للإنسان أن يتفادى كثيراً من الظروف والمواقف التي قد تتغلف بالخير الظاهري بينما هي في جوهرها وحقيقتها بعيدة كل البعد عن الخير الحقيقي وإن تلبست بالمعاناة والألم، فهل ترانا نعي هذه الحقيقة ونعمل بها أم نتبع سراب أوهام الأمنيات، نحسبها ماءً فمتى اقترب نكتشف أنّها خواء، فليصنع كل واحد منا درعًا من الوعي يقيه الجري وراء الأوهام، وليس خير من درع التقوى يسبر بها عباب معركة الخير والشر ويضمن فيها الانتصار.


جمعية التجديد الثقافية - مملكة البحرين

JoomShaper