ماذا تُلهم الآخرين؟
كان صديقان جالسين معاً يتحاوران ويتسامران، فأراد أحدهما أن يذهب إلى البيت لينام قبل أن ينتصف الليل، ولم تنفع محاولات صديقه لإبقائه مدة أطول، فقال له: أراهن إني أعرف لماذا تريد أن تنام مبكراً، فتراهنا أن يدفع الخاسر عشرين ديناراً للآخر، فقال له صديقه: تريد أن تنام لكي تستطيع أن تنهض باكراً وأنت بكامل تركيزك، فتذهب إلى العمل قبل زميلك بمدة، لتفتش في أوراقه ومستنداته علّك تتعرف على أفكاره في المشروع الذي تتنافسان فيه للفوز على المقترح الأفضل. أعطاه صديقه عشرين ديناراً على الفور، فشكره وسأله: هل معنى ذلك أنّ حدسي كان صحيحاً؟ فردّ عليه: لا، لم يكن صحيحاً ولكنك ألهمتني فكرة ممتازة.
إنّ أفعالنا بالتأكيد تؤثر على الآخرين وتساهم في بناء ثقافة مجتمعيه، فحين يقوم أفرادٌ بتجاوز إشارة مرور حمراء مثلاً، تزداد احتمالية أن يقوم آخرون بتجاوز الإشارة، وحين يقوم أفراد بإفساح المجال لمرور سيارة تنتظر في شارع فرعي، تزداد احتمالية أن يقوم آخرون بإفساح مجال للعبور، فكل فرد يساهم بالتأكيد في إرساء ثقافة مجتمعية تنعكس من أعماله، جيدة كانت أم لم تكن، قاصداً كان أم لم يقصد.
ولا يقلّ أثر كلماتنا عن أثر أفعالنا بأيّ حال، وهي تُلهم الآخرين أيضاً، فكلماتنا جادة كانت أم مازحة، مقصودة كانت أم غير مقصودة، تبطن مفاهيم مختلفة، والتي في حقيقة الأمر، ما هي إلا نتاج عمليات التفكير التي تدور في عقولنا وتستخدم ما في قلوبنا كمادة تحفيزية لها، تؤجّجها في الاتجاه الذي تريد، فإن جعلنا لأنفسنا معياراً نستند عليه حين نفكّر بتركيز وقصد، فسنزيد من احتمالية أن يكون هذا المعيار هو الذي نستند عليه في كل الحالات.
ومن أرقى المعايير التي نستطيع أن نضعها في تفكيرنا اليومي ونتدرب عليها، هي أن نسأل أنفسنا سؤالاً بسيطاً: هل هذا الاتجاه في التفكير يوصل إلى إرساء خير، يساهم في ترسيخ قيمة أو مبدأّ راق، أو يساعد في تحقيق عدالة؟ فمهما كان الموضوع الذي نفكر فيه صغيراً أو تافهاً ويبدو تأثيره ضئيلاً أو غير مؤثر، فإنه ينعكس بالتأكيد على أفعالنا وكلماتنا وحتى خواطرنا، ويستلهم منه آخرون أيضاً.
وقد تكون هذه الممارسة صعبة خاصة حينما نكون في وضع منفعل أو متأزم أو غاضب أو محبط، ولكن التدريب في الأوقات الاعتيادية يجعلها أكثر سهولة وسلاسة في الأوقات العصيبة، فحينها نقلل احتمالات وقوعنا في الخطأ والزلل بشكل كبير، وتُلهم أفعالنا وكلماتنا الآخرين لعمل الخير، أو على أقل تقدير لا تلهمهم لأعمال قد تضر وتؤذي، ونكون نحن بذلك أيضاً من الذين يؤسّسون ثقافة مجتمعية تصل بالمجتمع لمستوى أرقى من التفكير والعمل.
د. سرور قاروني
جمعية التجديد الثقافية - مملكة البحرين