نحن نفعل الأشياء لأننا نريد القيام بها، رغم كافة العقبات والأسباب التي تحول دون ذلك.
د.تيسير حسّون*/ ميدل ايست أونلاين
منذ بضعة سنوات كان أحد أصدقائي يكافح في عمله. كان يعمل في شركة ضخمة لم يطق وجوده فيها بسبب ممارسات غير أخلاقية في أعمال الشركة والطعن في الظهر بين الموظفين والتحرش الجنسي. وكل ذلك كان يحدث على نحو منتظم و روتيني.
أراد الخروج من الشركة، ليس هذا فحسب، بل أضمر منذ سنوات حلما سرياً يتعلق ببدء عمل خاص به. ومدفوعاً باشمئزازه المتصاعد من أجواء و ثقافة شركته، فقد عقد العزم على تنفيذ حلمه. في كل يوم سبت ( أول يوم دوام في الأسبوع )، و هو في طريقه إلى العمل كان يغوص في حلم اليقظة عن مغادرته للشركة. و لكن في الوقت الذي يصل فيه إلى مكتبه، يكون قد وصل إلى استنتاج بأن الوقت ليس ملائماً بعد. لقد بقي لديه أكثر من ستة أشهر لكي يسدد قرض السيارة، كما أنه يخطط للزواج بعد ذلك ببضعة أشهر.
كان على دراية كافية بالفترات العجاف التي تعاني فيها معظم الأعمال الجديدة من المشكلات و من الإقلاع على نحو مرضٍ. وكان قلقاً من احتمال عدم قدرته على النجاة. وماذا لو أخفق عمله الجديد؟ أو لم يصل إلى المستوى الذي يعتبره مقنعاً أو الذي لا يستطيع دعم حياته (وحياة أسرته الوشيكة)؟ أليس من الأفضل أن يدخر بعض المال، سألني في أحد الأيام، لكي يخلق ماص صدمات أكبر للفترة العجفاء التي يعرف أنها ستأتي ، ثم يقوم بالقفزة التي ينويها؟
أجبته بشكل مباشر بـ"لا". وأخبرته أن فكرته عن حاجته لادخار المزيد من المال قبل ترك الشركة، كانت عذراً لكي يبقى حيث هو. نعم، فمغادرته لعمله الحالي وبدء عمل جديد يمثلان مخاطرة، وهذه المخاطرة قد يخفف منها قليلاً بالمزيد من النقود. ولكن ألا يمكن لذلك أن يلغي المخاطرة برمتها؟
أجابني "بالطبع لا".
قلت له "المستقبل في معظمه لا يمكن توقعه. قد نظن أننا نعرف كيف ستسير الأمور، ولكنها نادرا ما تأتي كما توقعنا بالضبط (ولا حتى بنتائج قريبة في الغالب). يمكنك أن تدخر تلك النقود الإضافية، وتشتري الثقة في خيارك بالرحيل، ثم تتعرض لحادث سيارة تصب بنتيجته مدخراتك الإضافية في الإصلاحات و الفواتير الطبية. أو قد تتلقى خطيبتك التي لديها عملا تحبه، ترقية وارتفاعا في دخلها، فتجعل من نقودك الإضافية التي ادخرتها أمرا غير ذي أهمية".
و أضفت أن ليس هناك تقريباً وقتاً مثالياً للقيام بأي شيء. سواء لترك عمل و البدء بآخر جديد، أو للزواج أو لإنجاب طفل. فإذا انتظرت من أجل ظهور اللحظة المناسبة، لن تكون أي لحظة مناسبة.
نحن نفعل الأشياء لأننا نريد القيام بها، نفعلها رغم كافة العقبات والأسباب التي تحول دون القيام بها. وعندما لا نقوم بها، فإن الأسباب التي نقدمها هي في معظمها مصممة لإخفاء الحقيقة التي تفيد بأننا إما متناقضون حيال القيام بها أو خائفون.
ما سبق لا يعني أن التدبر والنظر في العواقب والتخطيط ليست أموراً هامة. فأنا لا أقول أن تستيقظ ذات يوم، وتذهب إلى العمل وتعلن تركه، ثم تستيقظ في اليوم التالي لتسأل عما ستفعله دون أن يكون لديك خطة. لكن صديقي كانت لديه خطته، وهي خطة مدروسة بشكل شامل و قابلة للتنفيذ وهو برر تردده بالقول لنفسه بأن هناك بعض العقبات التي يتعين عليه تذليلها قبل أن يتمكن من المغادرة.
قلت له "ولكن ما أن تزول تلك العقبات، حتى تظهر أخرى مكانها. لن تهبط علامة مضيئة من السماء مع سهم يشير إلى اليوم الذي ستصبح فيه حياتك يسيرة بما يكفي لتقول بأنه اليوم المناسب المنتظر".
وافقني الرأي و قال أنه جاهز وسيقوم بذلك.
عندما صادفته بعد أسبوع، لم يكن أعلن أنه بصدد تركه للعمل. قال لي "الأمر أصعب مما اعتقدت".
قلت له "ستترك الشركة الخميس". علامات الهلع ظهرت على وجهه، ماذا قلت؟ كررت له "الخميس هو الموعد".
لقد كنت واثقاً من رغبته في ترك الشركة، وأن فرص نجاحه كبيرة، وأنه إذا لم يقم بما عزم عليه، فإنه سيندم على عدم المحاولة بقية حياته. كنت صديقا مقربا، بحيث أني لم أشعر بالراحة فحسب، بل بأني ملزم بأن أمنحه الدفعة الصغيرة التي كان يحتاجها.
قلت له "أظن أنك ستكون سعيداً إذا فعلت ذلك، حتى ولو لم تصب نجاحاً في نهاية المطاف".
في ذلك الخميس كان يتصبب عرقا ويرتعش بأكمله والخوف يملأ جوفه، وهو يقف أمام مديره ليخبره بترك الشركة. حاول المدير إقناعه بالبقاء محذرا إياه وبشكل ودي من احتمالات الفشل.
لكن أمراً لافتاً حدث: قراره بالمغادرة وتجربة خطته، تصلبا كإسمنت مسلح. لاحقاً قال لي "ما زلت مرتعباً، ولكني سعيد جداً".
في غضون سنة، أسس شركة صغيرة ولكن ناجحة إلى حد ما. لقد تطلب منه الأمر سنتين لتسديد القرض بدلا من ستة أشهر، كما أقام عرساً اختصر الكثير من تكاليفه. الجميل أن عروسه لم تمانع، بل شجعته لما رأت حماسه وهو متوجه إلى العمل كل صباح.
في النهاية، أيقن أنه كان يسأل نفسه السؤال الخطأ طوال الوقت "هناك متسع من الوقت، وسأعمل على ذلك في الوقت المناسب".
*الدكتور تيسير حسون ـ طبيب وكاتب في الشؤون النفسية (سوريا)
لماذا علينا أن ننتظر 'اللحظة المناسبة' لإنجاز أمر ما؟
- التفاصيل