أ.د. ناصر أحمد سنه
استبيان الغامض، وكشف الستار عن المحجوب.. ثمة علاقة تربط بين كيمياء المواد، وكيمياء النفوس..أهداف مشتركة، ومظاهر متباينة، توجه لتناول العلوم بمنظور تداخلي بيني، فما هي تفاصيل تلك العلاقة؟.
الكيمياء مشتقة من كمي الشيء، يكمى، أي أخفي ـ يخفي، وكمي الحقيقة، يكميها وأكماها:أي كتمها وقمعها.. هي صناعة خفية (كيمياء المواد)، فسرها بذلك الخوارزمي في "مفاتيح العلوم"، وهو ما ذهب إليه الرازي مسمياً كتابيه في الكيمياء:"الأسرار"، و"سر الأسرار". ولما كانت لقدماء المصريين تفوق وبراعة في الكيمياء/التحنيط، رأي فريق أن الكلمة ربما عادت إلي المصرية القديمة" Chem أو Kmt"، وتعني "التربة السوداء"، أو "أرض مصر"، وكانت في اللغات الأوربية يكتبونها AL- Chemie ومعلوم أن كل كلمة لاتينية تبدأ (بالألف واللام) للتعريف تعود لأصل عربي. وبالمقابل كان "لأبي حامد الغزالي" كتب ذات مضامين كيميائية فلسفية:" كيمياء السعادة"، و"المعيار والميزان"، وهناك مصنفات لعبد القادر الجيلاني منها:"بهجة الأسرار"، و"كيمياء السعادة لمن أراد الحسنى وزيادة"، و"جلاء الخاطر في الباطن والظاهر"، و"سر الأسرار في التصوف".
وإذا ما كانت الكيمياء عند ـ ابن سيناـ هي "سلب الجواهر خواصها وإفادتها خواصا أخرى غيرها"، وعند ابن خلدون: "علم ينظر في المادة التي يتم بها كون الذهب والفضة بالصناعة، وشرح العمل الذي يوصل لذلك". فهي عند المحدثين.. تُعنى بطبيعة المواد وخواصها وبنيتها، وما يتناولها من تحولات حين تخليص بعضها من بعض (تحليلها)، أو حين تفاعلاتها (تركيبها)، أو وهي تنقسم إلى: كيمياء تحليلية تُعني بتحليل عينات من المادة لمعرفة تركيبها وكيفية بنائها، وكيمياء حيوية: تدرس المواد والتفاعلات في الكائنات الحية، وكيمياء عضوية لدراسة خواص وتفاعلات المركبات العضوية، وأخري غير عضوية تهتم بتفاعلات العناصر غير العضوية، وكيمياء فيزيائية لدراسة الأصل الفيزيائي للتفاعلات والأنظمة الكيميائية، والتغييرات في الطاقة. ثم هناك فروع أخري مثل الكيمياء الحرارية، والكيمياء الحركية، وكيمياء الكم، وعلم الأطياف.
فالكيمياء قد بدأت بالتحليل والتعليل، ثم انتقلت إلى التأليف، لكن هل العناصر المكتشفة تفردت بوحدة صماء؟، علم الكيمياء يرد النتائج إلى مسبباتها، ويربط الخيوط المبعثرة ويلم شعثها في نسق واحد، إنه بالإمكان القول أن: "كتاب الطبيعة مكتوب بلغة كيماوية". يقول "ألكسيس كاريل" في"الإنسان ذلك المجهول":"إن جسم الإنسان يُبدى إلى جانب نشاطه الفسيولوجي، أنشطة أخرى يطلق عليها النشاط العقلي، وتعبر الأعضاء عن نفسها بالعمل الآلي والحرارة والظاهرة الكهربائية والمبادلات الكيمائية القابلة للقياس بواسطة الآلات والكيمياء، ولكن نستطيع تقسيم النشاط العقلي إلى نشاط نفسي وأخلاقي وذوقي وديني وان كان هذا التقسيم صناعيا إذ أن الحقيقة أن الجسم والروح هما وجهان لشيء واحد، والتناقض البادي بين المادة والعقل يمثل فقط تعارض نوعين من الفنون".
وإذا كان للغضب والتمرد/ أو الانسحاب كيمياء مردها "الادرنيالين" ، وأمراض نفسية كالاكتئاب تعزى إلى وجود خلل في "كيمياء السعادة" ومردها اضطرابات في نواقل الرسائل العصبية عبر السيروتنين والدوبامين والنورادرينالين الخ، فهل ثمة "كيمياء للحلم والصبر والرضا والقناعة الخ"؟.
كيمياء النفوس هي كيمياء سلب/ تخلية، ثم عطاء/ وتحلية، وهي تُعني بالمرء الذي يولد "صفحة كيمائية" بيضاء، ومن ثم يتعلق بالأسباب ويرضع ـ بعد فطامه الطبيعي ـ من بيئته، وما يلقي في دمه من أغذية وإفرازات، فتتغير لوحته، وجملته النفسية والوجدانية والعقلية والعصبية والسلوكية. لذا قد تأتي كيمياء نفوس بما هو عاتٍ معقد يصعب السيطرة عليه، وأخري تأتي بسيطة هينة سهلة، ولكل سبله وطرقه في السواء، ولكل موانع تمنع من نقاء معدنها، ولكن تبقي أشواق النفس تهفو وتسمو إلي اعلي. والإنسان مطالب ـ بعد علمه بموازين الصحة والمرض ـ بمعالجة كيمياء نفسه.. اعتدالا وتوازناً، قلبه بالتنقية، تخلياً عن المذموم، ونفسه بالتصفية/ الصفاء من شوائبها العالقة: الكبر والعجب والفخر والخيلاء والبخل والغش والبغض والحرص والحقد والحسد والضجر والجزع والهلع والطمع والجمع والمنع والجبن والجهل والكسل والجفاء والسفه والحدة والطيش والغلواء والتحكم والظلم والعداوة والمنازعة والمعاندة والمغالبة واللؤم والغدر والخيانة والشماتة الخ.. فمن حكم ابن عطاء السكندري:"كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته؟، أم كيف يرحل من هو مكبل بشهواته؟، أم كيف يسمو من لم يتطهر من غفلاته؟، أم كيف يفهم دقائق الأسرار من لم يترك هفواته؟... فرّغ نفسك من الأغيار، تُملأ بالمعارف والأسرار".. معارف تمضي بالنفوس إلي الصفاء، فتواصل وتصل، وينكشف عن عين قلبها حجاب، وينفتح لها كل باب، تذوق حقائق، وتخطر لها دقائق، وتشف لها رقائق.
كيمياء المواد تدخل في معظم نشاطات الكائنات الحية، وتسهم في كافة مناشط الحياة، فبها يتم تحويل المواد الخام إلى مواد تلبي احتياجات الإنسان.. عقاقير وأصباغ وعطور ولدائن ومطاط صناعي، وأسمدة ومبيدات حشرية، ومنسوجات وألياف صناعية الخ. وهي في منظورها الثقافي العربي لها ارتباطاتها بعلوم أخرى كالصيدلة والطب والزراعة وطبقات الأرض والفلك، كما لها علاقتها بالموسيقي والشعر والعمارة (المساجد/ الأسبلة/ الأبنية، النسيج / السجاد الخ) بما يدخل فيها من هندسة وتزيين وتلوين وتذهيب وتشكيل الخ. هذه العلوم وتلك الصناعات لها أثرها الكبير في "عمارة الظاهر" فضلاً علي كيمياء النفوس.. تحضرا وتطببا وتزينا وتجملا وبهجة وتصفية وتصوفا لـ"عمارة الباطن"، بنيان تهدف إليه الثقافة الصوفية وقيمها وغاياتها.
وللمواد صفاتها الشكلية المظهرية وبنيانها الداخلي، وكان من تعاليم (ديموقريطس) ـ في القرن الخامس ق. م ـ أن كل المواد تتكون من مادة واحدة توجد على هيئة وحدات صغيرة لا تتكسر (تُسمَّى الذرات)، ويعود الاختلاف بين المواد إلي الاختلاف في حجم وشكل وموقع ذراتها، لكن كيمياء النفوس لا تعتمد على مجرد تكوينات الذرات، وأثر ذلك في الشكل والمظهر، ولكن على طريقة تنظيم وتناسق وتوازن وفاعلية هذه "الذات/ الجوهر"، ومظاهر صحتها، وتحركها لتحقيق هدفها:"فاكثر آدابهم طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود، وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلي الخواطر، وحسن الأدب في مواقف الطلب، وإدمان الحضور"، ويصفهم "ابن خلدون":"وكان لهم شأن في الاهتمام بالعلم، وبذل الجهد، وتشييد المدارس، واختطاط الزوايا والربط.. وسد الثغور وبذل النفوس. وظهر فيهم الكاملون في النوع الإنساني، أهل النفوس القدسية، والعلوم الموهوبة"(العبر ج - 6).
وفي ميدان كيمياء المواد.. تفوقت حضارة وتأخرت أخرى، عرفتها شعوب، وجهلتها أخرى، لكن معظم الحضارات عرفت "كيمياء النفوس" بمختلف أطوارها ومدارسها المتواصلة..العابرة للثقافات والحضارات.. فالخطاب النفسي/ الصوفي ـ ومن خلال وضع منهج جمالي أخلاقي وتصور شامل يقدم تفسيرا معرفيا ورؤية تحدد مركز الإنسان من الكون، وإدراك كنهه، وغاية وجوده، وحدود اختصاصاته، وطبيعة الحقائق الكونية من حوله ـ له بعد عالمي/إنساني متسع سواء في ماضيه أم في حاضره، الأمر الذي أثر تأثيرا بالغا في تشكيل النظم الثقافية والحضارية الإنسانية. ومن هذا الميل العالمي للتصوف، إلى خصوصية أنتجت تجربة صوفية إسلامية وفق الخط الشرعي، يقول "العقاد": "أن الإنسان إذا طلب من الدين الحياة الأبدية، فهو لا يطلب ذلك لأنه فرد من النوع.. لأن النوع قد يبقى آلاف السنين إلا أن ذلك لا يغنيه عن طلبها لأنه يريد لحياته معنى لا يزول، ويريد أن يتصل بالكون كله في أوسع مداه". ولاشك أن العقول تشرئب دائما إلى ما وراء الحقائق الجزئية، إلى أخري كلية أزلية، حقائق تتطلع إليها كل العلوم والمعارف، وتفردها الأديان بالتقديس.
وفي بنائها المعرفي تُدمج المعرفة الصوفية عديدا من علوم الأحياء والكيمياء العضوية والطاقة والعناصر والطبيعة وخواص المعادن، والعلوم النفسية والفلسفية والروحية، ومفتاحها في كل ذلك هو معرفة النفس، بل هو أعلى درجاتها "فمن عرف نفسه فقد عرف ربه"، "وليس شيء أقرب إليك من نفسك، فإذا لم تعرف نفسك، فكيف تعرف ربك؟، فإن قلت: إني أعرف نفسي!، فإنما تعرف الجسم الظاهر، ولا تعرف ما في باطنك، فالواجب عليك أن تعرف نفسك بالحقيقة؛ حتى تدرك أي شيء أنت، ولأي شيء خلقت، وبأي شيء سعادتك، وبأي شيء شقاؤك، فاجتهد في معرفة أصلك؛ حتى تعرف الطريق، وتبلغ إلى مشاهدة الجلال والجمال، وتخلص نفسك من قيد الشهوة والغضب، وتعلم أن هذه الصفات لأي شيء ركبت فيك؛ فما خُلقت لتكون أسيرها، بل لتسخرها للسفر الذي قدامك، وتجعل إحداها مركبك، والأخرى سلاحك؛ حتى تصيد بها سعادتك، وتبلغ غرضك؛ فكل من لم يعرف هذه المعاني فنصيبه من القشور؛ لأن الحق يكون عنه محجوباً، لذا فذلك السبيل وتلك المجاهدة تتيح لكل راغب في ولوج دروب المحبة، وتدرّج مدارج السلوك قبسات من نور"المعارف" تقربه من إدراك "سر" من "أسرار" الحكمة العليا"..علم ممتنع لا يبيح "أسراره" إلا لمن كان أهلا لتلك "الأسرار" فهي ليست شرعة لكل وارد.
كانت جهود الإغريق في الكيمياء محدودة، فقد تناولوها ـ كغيرها من العلوم ـ من النواحي النظرية والفلسفية، وقصروا غايتهم على كيفية إطالة الحياة، ومحاولة تحويل المعادن الرخيصة كالرصاص والقصدير إلى ذهب وفضة(وفقا لنظرية تحوّل العناصر لأرسطو)، وذلك بواسطة إكسير الحياة Elexir Vitae ، و"حجر الفلاسفة"Philosopher Stone، وصلت الخيمياء إلى العرب المسلمين، مع ما تخللها من طلاسم وأوهام. ولقد كانت بدايات انشغالهم بها مع "خالد بن يزيد بن معاوية" (ت 85هـ، 704م) الملقب بحكيم آل مروان، حيث جمع المباحث الكيماوية الموجودة بالإسكندرية ونقلها إلى العربية، وكان من "أعلم الناس بفنون العلم من كيمياء وطب وفلك وشعر.. شغوفاً بالترجمة، وقضي معظم حياته يطلب الكيمياء"، ويقال إن جعفر الصادق (ت148هـ) كان على علم بهذه الصنعة، وأن جابر بن حيان (ت 189هـ) (أبو علم الكيمياء) تعلّمها منه، ومع جابر انتقلت الكيمياء من طور الخرافة والطلاسم إلى طور العلم التجريبي، حتي سموها باسمه" علم جابر"، وله فيها نحو 70 رسالة، وارتقى العلم بعده على يد جهابذة أمثال: ذو النون المصري، ويعقوب بن إسحاق والكندي، وابن وحشية، وأبو قران النصيبيني، وعثمان بن سويد الأخميمي، وأبو بكر محمد بن زكريا الرازي، وأحمد بن مسلمة المجريطي، وأبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي، ومحمد بن عبد الملك الخوارزمي الصالحي، وابن سينا، وأبو بكر على الخراساني السايح، وأبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، وأبو العباس القيسي التيفاشي، وسعد بن منصور ابن كمونة، ومحمد بن أحمد السيماوي، وأيدمر بن علي الجلدكي، وابن الأكفاني محمد بن إبراهيم الأنصاري، ومحمد المغوش المغربي التونسي وغيرهم.. وصولا إلي احمد زويل.
وإذا كان هؤلاء هم رموز في الكيمياء، فإن للتصوف أعلامه أمثال: الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، وسري القسطي، والقشيري، والجنيد، والحسن البصري، وأبي حامد الغزالي، وابن الفارض، وأبو حيان التوحيدي، فريد الدين العطار، وجلال الدين الرومي، وعبد القادر الجيلاني، والرفاعي، والنقشبندي، والدسوقي، والبدوي، والشاذلي، والسهرندي، والشنيقطي، وبديع الزمان سعيد النورسي، ومحمد إقبال، والتكروري، وعثمان بن فودي، والمهدي وغيرهم.
تجربة.. ومواصفات
لقد وضع العرب أسس علم الكيمياء الحديثة، وابتعدوا به عن السحر والطلاسم والأوهام، وحولوه من النظريات والآراء الأفلاطونية إلى علم تجريبي له قواعد علمية راسخة، وأهداف عملية نافعة. ورغم أن الخيميائين العرب أو ممن سبقهم فشلوا في مسعاهم لصنع الذهب، رغبة في الثراء،إلا أنهم في سبيل هذا الهدف اكتشفوا مواد، واختبروا خصائص عناصر، وحضروا أدوية مركّبة، وقننوا قوانين، وأجروا عمليات كيمائية: كالتقطير، والتنقية، والتسامي، والتصعيد، والتكليس، والتشميع، والملغمة، والتخمير، والتبلر، والتبخير، والترشيح وغيرها مكنتهم للانتقال بالخيمياء إلى الكيمياء. ولا يزال الكيميائيون في العصر الحاضر يستخدمون العديد من أدوات العرب المخبرية مثل: الأقماع والمصافي والموازين المستعملة لوزن المواد الكيميائية والجفان، وطرق تحضير الأحماض والكحولات المختلفة واستعمالها. ويعتبر الرازي الذي جاء بعد جابر بقرن من الزمان أول من وضع القواعد الرئيسة لمعامل التحليل الكيميائي، فقد ابتكر أكثر من عشرين جهازا جديدا، منها المعدني والزجاجي، وقد وصفها وصفا دقيقا في كتابه"الأسرار".
لقد كان من منهج "جابر":"والله لقد عملته بيدي، وبعقلي من قبل، وبحثت عنه حتى صح، وامتحنته فما كذب.."، وكان يوصي تلامذته بدقة الملاحظة، والاهتمام بالتجربة وعدم التعويل إلا عليها:"وأول واجب أن تعمل وتجري التجارب؛ لأن من لا يعمل ويجري التجارب لا يصل إلى أدنى مراتب الإتقان،.. كما يجب أن تكون متفرغا لها منذ بدايتها حتى لا يفوتك أي تغيير طفيف قد تستخلص منه نتائج كبيرة، فعليك يا بني بالتجربة لتصل إلى المعرفة". و"الدين في جوهره تجربة" كما يري ذلك "محمد إقبال": "فالتجربة الدينية تستهدف كشف الذات عن طريق اتصالها بذات الحق العليا، والتجربة المفضية لهذا الكشف، لا تكون أمرا عقليا محضاً قابلا للتصور، بل حقيقة حيوية، ونزعة ناشئة عن تحول بيولوجي داخلي، لا يمكن اقتناصها في شباك المقولات المنطقية".
وكان "جابر" يوصي من يشتغل بالكيمياء بصفات منها:"كن صبورا ومثابرا ومتحفظا وصامتا، وتجنب المستحيل وما لا فائدة منه، ولا تغتر بالظواهر، لأن هذا يؤدي بتجربتك إلى نتيجة خاطئة، ما افتخر العلماء بكثرة العقاقير ولكن بجودة التدبير، وعليك بالرفق والتأني وترك العجلة، واقتفِ أثرَ الطبيعة فيما تريده من كل شيء". لكن المريد والسالك في المعرفة الصوفية عليه أتباع مجموعة الرياضات والمجاهدات، وأبو حامد الغزالي يذكر في رسالة" أيها الولد المحب": أن العلم بدون عمل جنون، وان العمل بدون علم امرٌ مستحيل، فالرجل إذا قرأ ألف مسألة علمية وتعلمها، لا تفيده إلا بالعمل، ولو قرأ العلم مائة سنة، وجمع ألف كتاب لا تكون مستعدا للتلقي إلا بالعمل، إنه العلم والعمل الذي يحيي القلوب بأنوار المعرفة".. قواعد لابد للسالك من العمل بها: تنقل في مقامات التوبة والورع والزهد والرضا والتوكل الخ، ثم دخول في الأحوال: المحبة والخوف والرجاء والشوق والأنس والوجد والقرب الخ، حتى تتحقق له "المعارف" إلهاماً، ثم كشفاً أو مشاهدة، (..آتَيناهُ رَحمَةً مِن عِندِنا وَعَلَّمناهُ مِن لَدُنّا عِلماً) الكهف:65. يقول"القشيري":"جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه، وجعل قلوبهم معادن أسراره، وأختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره، فهم الغياث للخلق، والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق، صفاهم من كدورات البشرية، ورقاهم إلى محل المشاهدات، بما تجلى لهم من حقائق الأحدية ووفقهم للقيام بآداب العبودية"، ويقول الأمام "محمد عبده":"لاشك أنه لا يوجد في أمة من الأمم من يضاهي الصوفية في علم الأخلاق، وتربية النفوس". طريق لا تفهم إلا بالتجربة، وإن لم تحصل بالذوق لم تحصل بالتعليم، والتصديق بها لا يحرم شعاع سعادتها.
الوزن النوعي.. والموازين الذوقية
أخذ العرب عن الإغريق فكرة الوزن النوعي للمواد، ولكنهم توسعوا فيها، وطوروها وصنعوا لها موازين خاصة، فابتكر الرازي ميزانا دقيقا "الميزان الطبيعي" ووصفه في كتابه "محنة الذهب والفضة"، وذلك للكشف عن نقاء المعادن الثمينة، وكيفية اكتشاف غشها. كما ابتكر "الخازن"(رائد علم الهيدروستاتيكا) ميزانا متطورا يمكنه وزن الأجسام في الماء والهواء على السواء، كما شملت أبحاثهم في السوائل الأحماض والماء والحليب وزيوت الطعام الخ. ولقد جدولوا (عبد القادر الطبري والبيروني والخازن) جداول للأوزان النوعية، ونسب تركيب عناصر كل مادة، ابتداء من الذهب والفضة والزئبق والياقوت والزمرد والأزورد والعقيق إلى الحديد والصلب والحجارة. ومن أغرب التجارب التي أجراها عباس بن فرناس(ت 884 م) حسابه الوزن النوعي لجسم الإنسان ومقارنته بالوزن النوعي للطيور (وخاصة الصقور)، قاصدا معرفة حجم الجناحين الذين يصنعهما لحمل جسمه والطيران في الهواء.
وهناك نحن بصدد علم مؤسس على الموازين الذوقية ويحتاج لفهم مضامين رسائله إلى مكابدة وإلى العمل، إنه عالم الأشواق القدسية المليء بالإشارات والرموز والمعاني الجليلة الموحية، "فإذا كان وعي الموجود لموجده درجات، فإن من كان أكمل وعيا كان أكمل اقتباسا من القدرة الإلهية، وأقرب لياذا بحكمته وتدبيره". وما دامت الصلة قائمة بين الكون، وبين كل موجود فيه، فلا بد إذن أن تمتزج هذه الصلة بالوعي والشعور، ومن المحقق أن "الوعي الكوني" ملكة قابلة للترقي، لأن حقائق الكون لا تزال على اتساع وارتفاع فوق كل وعي ترقى إليه الحواس والملكات، إلا أن الإنسان الذي هو ذرة من قوى الكون ومادته لا يخلو من وعي يترجم هذه العلاقة وتلك الصلة العميقة بالكون، مما يؤكد أن الحقيقة الكونية لا شك فيها، وأن الوعي الكوني لا شك فيه. وقد قامت الشرائع منذ القديم بترجمة الوعي الكوني إلى منظومات تشير إلى الحقائق الإلهية وتجلياتها، من أجل الاهتداء إلى القوة الروحية أعلى درجات الوعي الكوني التي عرفها فكر الإنسان وضميره بإلهام الدين، "هو الذي أصعد قوالب الأصفياء بالمجاهدة، وأسعد قلوب الأولياء بالمشاهدة، وحلى ألسنة المؤمنين بالذكر، وجلى خواطر العارفين بالفكر، وحرس سواد العباد عن الفساد، وحبس مراد الزهاد على السداد، وخلص أشباح المتقين من ظلم الشهوات، وصفى أرواح الموقنين عن ظلم الشبهات، وقبل أعمال الأخيار بأداء الصلوات، وأيد خصال الأحرار بإسداء الصلات، فمن رأي آيات قدرته وقوته، وشهد الشواهد من فردانيته ووحدانيته، وطرق طوارق سره وبره، وشكر من اخترق واغترف من نهر فضله وأفضاله، وآمن به إيمان من آمن بكتابه وخطابه، وأنبيائه وأصفيائه، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه.. قطف ثمار معرفته من شجر مجده وجوده".
لغة.. ولغة
لقد كانت لـ"ذي النون المصري" صولات وجولات في الكيمياء وأسرار الطبيعة، محاولاً اكتشاف أسرار علم قدماء المصريين فقرا كتبهم، وحاول تفهم لغتهم. لغة الكيمياء.. لغة مختبر، تعبر عن العالم الفيزيائي الذي يدركه العقل..العالم المحدود بتصوراته العامة وقوانينه، والعلم لا يعرف الكلمة الأخيرة في مسالة من مسائله، فحقائقه كلها تراكمية موقوتة لها قيمتها حتى يكشف البحث عما يزيل هذه الحقيقة أو يغيرها. أما كيمياء النفوس والقلوب والتصوف فهي في حاجة إلي لغة خاصة مميزة، مع أنها قد تستعمل مفردات كيميائية، لكن يبقي لها بيان يعبر عن العالم اللامحدود، لغة خبرة وتجربة وحدس وإشارة ورمز.. بل ويا حبذا لو لزم العارف"لغة الصمت". لقد صاغت الصوفية خطابها الرمزي والدلالي والميتافيزيقي عبر ضوابط داخلية منها:التفكير، والتدبير، والتعبير. فالتفكير الصوفي (الإطار الأدبي والفلسفي والمحتوى الرمزي)، والتدبير (المحتوى الأخلاقي والقيمي والعلاقة الأفقية بين الأفراد، والعمودية بين الفرد وخالقه) يجدان محتوياتهما ومضامينهما النظرية والعلمية في التعبير، وكما إن الخطاب الصوفي ـ وهو يبني نسقه الخاص هذا ـ يحاول أن يراعي الخطاب الإسلامي العام و ضوابطه الخارجية.. فقهاً وسياسة.
إنك تراهم" يستعملون ألفاظا قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والإخفاء والستر علي من باينهم طريقهم، لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة علي الأجانب، غيرة منهم علي أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف، أو مجلوبة بضرب تصرف، بل هي معان أودعت قلوب قوم، واستخلصت لحقائقها أسرار قوم"، فـ"المتصوف يخوض تجربة ذات أفق لا متناهٍ، وغير قابل على أن يترجم، وبالتالي فان كل المحاولات "لعقلنة" هذه التجربة تمثل حالة تجن. إنها" نطق عن شوق، ووصف عن ذوق، فمن ذاق عرف، ومن وصف فما اتصف، وكيف تصف شيئا أنت عنه غائب؟،.. إنها دهشة دائمة، وحيرة لازمة، وقلوب هائمة، وأسرار كاتمة، وأجساد من الهوى غير سالمة، والمحبة بدولتها الصارمة، في القلوب حاكمة".
والصوفي يحاول التعبير عن معانٍ رمزية..إشارة أو استعارة أو صوت أو كلام خفي لا يكاد يفهم. يقول "أبو سعيد الخراز": "وبعد كل ما ذكرته لك غير ما أردته ولا اعرفه، ولا ادري ما أريد، ولا ما أقول، ولا ادري من أنا، ولا من أين أتى فهل تعرف أيها المستمع ما أقول لك؟، هو عبد قد ضاع اسمه فلا اسم له، وجهل فلا علم له، وعلم فلا جهل له، ثم قال واشوقاه! إلى من يعرف ما أقول ويدخل معي فيما أقول". فهو يشير إلى جهل لما في نية الصوفي الذي يحمل الكلمات والاستعارة والدلالات غير المألوفة، وبين عبارة العوام وإشارة الخواص، تتبعثر اللغة وتتشظى.
كما تراهم يستخدمون مصطلحات نحوية: "إعراب القلوب علي أربعة: رفع وفتح وخفض ووقف، فرفع القلب الذكر، وفتحه الرضا، وخفضه الانشغال، ووقفه الغفلة"، وعلامة الرفع ثلاثة: وجود الموافقة، وفقد المخالفة، ودوام الشوق، وعلامة الفتح ثلاثة: التوكل والصدق واليقين، وعلامة الخفض ثلاثة: العجب والرياء والحرص، وعلامة الوقف ثلاثة: زوال حلاوة الطاعة، وعدم مرارة المعصية، والتباس الحلال".
رحلة داخل المادة، وأخري داخل النفس
وكما الدراسات الكيمائية..أصبحت الدراسات الصوفية تحتل مكانة مرموقة، ولقد حاول كلا من الكيمائيين والصوفيين أن يكتشفوا من معميات الكون ما خفي.. رحلة داخل المادة، رحلة قلبية نفسية داخل النفس، ويشع أثرها على الجوارح، وكما يكتشف الكيمائي أبعاد المادة، يحاول الصوفي استكناه أبعاد نفسه، وما يقوم به الكيميائي من تجارب وتفاعلات ما هي إلا لإتمام التجربة الكيمائية ونجاحها، وما يقوم به الصوفي من أعمال وواجبات ليس إلا زادا وإعدادا ووسيلة لإنجاح الرحلة وإتمامها. ويتفق الكثيرون أن:"التصوف يعتبر روح الإسلام الحقيقي وسر حياته، وواحدا ً من أعظم حصونه وقلاعه، لذا كان نصيبه من سهام أعداء الإسلام وافتراءاتهم الحظ الأوفر، لأنه ينتهج مناهج الإحسان ويحرص على كمال العبودية، ويربط بإحكام بين أعمال الدين الظاهرية، وقواعد الإيمان الداخلية !! فلا ينفك أحدهما عن الآخر ويرسم الطريق العملية التي توصل الإنسان إلى أرقى درجات الكمال.. عقيدة وخلقا ً وسلوكاً، ويخلص سره من الأمراض المهلكة والآفات المردية، ويغرس النفع والرأفة والرحمة على الخلق والمخلوقات.. فلا عتو ولا استكبار ولا انحراف ولا عصيان"، مما يخلق وحدة الصف، والتآزر والتماسك والاتحاد بين أعضاء الجسد الواحد. ويقول "محمد الغزالي": إن التصوف نزعة إنسانية عامة تلتقي فيها الطبيعة النفسية للناس مع طبيعة الإيمان العميق بالدين، ويتكون الموضوع الفريد والصحيح للتصوف الإسلامي من ثلاثة عناصر: جعل الإيمان النظري شعورا نفسيا، وتحويله من عقل يتصور إلى قلب يعي ويتحرك، ثم تهذيب النفس، ومن ثم النظر إلى الوجود الدنيوي الصغير على انه جزء من الوجود الكبير الممتد بعد الموت".
خلاصة القول: كانت الكيمياء من العلوم الخفية التي لا يتناولها إلا قلة.. تعلم أسرارها واصطلاحاتها.. غايتهم كيفية إطالة الحياة، وتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، وعلي ما قد يبدو من مظاهر متباينة بينهما فإن المشتغلين بكيمياء النفوس ـ ومع ما لديهم من أسرار واصطلاحات وخصوصيات ـ هدفوا أيضا إلي تنقية النفوس مما قد يصيبها من شوائب وعلل، وتحويلها إلي نفوس نقية كالذهب الخالص، وإمدادها بـ" إكسير الحياة"الحقيقي، ليطول عمرها المادي والمعنوي.
بقلم: أ.د./ ناصر أحمد سنه .. كاتب وأكاديمي من مصر.
E.mail:عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
كيمياء المواد، وكيمياء النفوس.. هل ثمّة علاقة بينهما؟.
- التفاصيل