لما كانت العلمانية ترمي إلى إقصاء الوجه الإسلامي عن جميع مناحي الحياة، وفي أفضل حالاتها تبغي تقويض الدين، وحصره في بعض القيم الروحية، كان لابد للقائمين عليها والمروجين لأفكارها من احتواء المرأة، وإدراجها على قائمة الاستهداف، باعتبارها حجر الزاوية في الحياة الأسرية، كأم وزوجة، حيث لا يخفى ما لها من أثر قوي في تغيير دفة المجتمع.

لذلك سعى العلمانيون سعيًا حثيثًا لتفريغ قضايا المرأة من محتواها الديني، فأثاروا النعرات الدخيلة على المرأة المسلمة، ورفعوا لها الشعارات المنمقة التي تغريها بالتمرد على رسالتها العظمى المنوطة بها، وسط هتافات العملاء وذوي النفوس التي تعتصم بالتزلف للغرب.

ومن تلك القضايا المتعلقة بالمرأة، والتي يسعى العلمانيون من خلالها لأن تحاكي المرأة المسلمة نظيرتها الغربية فيما ذهبت إليه من التمرد على فطرتها وإشاعة الفساد في الأرض: قضية الصحة الإنجابية وفق المفهوم الغربي، والتي تناولتها مؤتمرات الأمم المتحدة حول المرأة والسكان والتنمية الاجتماعية، ومنها على سبيل المثال ما جاء في تقرير المؤتمر الدولي للسكان والتنمية/ القاهرة 1994م، والذي جاء فيه:

(إن برنامج العمل الراهن يوصي المجتمع الدولي بتبني مجموعة من الأهداف السكانية والإنمائية الهامة، ومن هذه الأهداف والغايات: توفير فرصة انتفاع الجميع بخدمات الصحة الإنجابية، بما فيها تنظيم الأسرة والصحة النفسية(1)

 

وتعرف الصحة الإنجابية على أنها: (حالة رفاه كامل بدنيًا، وعقليًا، واجتماعيًا، في جميع الأمور المتعلقة بالجهاز التناسلي ووظائفه وعملياته، وليست مجرد السلامة من المرض أو العلاقة، ولذلك تعني الصحة الإنجابية قدرة الناس على التمتع بحياة جنسية مرضية ومأمونة، وقدرتهم على الإنجاب، وحريتهم في تقرير الإنجاب وموعده وتواتره.(2)

ومفهوم الصحة الإنجابية كما يقول د/ فؤاد آل عبد الكريم: (يشتمل على حق وباطل، فمما تشمله الصحة الإنجابية: الأمومة الآمنة، وكل ما يتعلق بصحة المرأة من حيث التغذية الصحيحة للحامل والولادة والنفاس، وكذلك الإرضاع الطبيعي، وصحة المرضع..إلخ.

فهذه الأمور حق لا جدال فيها، والإسلام يدعو إلى ما فيه صحة الإنسان وسلامة بدنه، أما الأمور الباطلة التي يشتمل عليها هذا المفهوم، فهي: التنفير من الزواج المبكر، والحد من الإنجاب، وتناول حبوب منع الحمل للمراهقات، وإباحة الإجهاض إلخ...

وهذه القضايا دعت إليها مؤتمرات الأمم المتحدة حول المرأة والسكان والتنمية الاجتماعية، وتعتبرها الوسيلة الرئيسية للنهوض بالمرأة).(3)

ولنا أن نتساءل وحق لنا أنا نتساءل: إن كان هذا ما ينادي به الغرب نساء المسلمين، فلماذا إذًا ترصد ميزانيات الدعم لإنجاب الأطفال، ولماذا تشجع الحكومات الغربية شعوبها لتكثير النسل، لماذا نجد أن مجتمعاتنا هي الأكثر استخدامًا لوسائل منع الحمل؟!

يقول الدكتور سفر الحوالي: (إن الغرب -أوروبا وأمريكا - يجد نفسه يتحول يومًا بعد يوم إلى أقلية بالنسبة لدول العالم، وإن الشيء الوحيد الذي يملكه الغرب الآن ويتفوق فيه على جميع شعوب العالم -وبه يمتلك الدنيا أو معظمها- هو التقدم والتفوق التكنولوجي المادي، إلا أن هذا التفوق في التكنولوجيا بدأ ينافس الغربيين فيه كل من اليابان وكوريا وبعض الدول، وفي الإمكان أن تتفوق عليهم، لكن الشيء الأساس في التفوق هو التفوق الإنساني.

ولقد أدرك الغرب أن التفوق الإنساني أهم من التفوق المادي، كما أدرك أنه إذا بقي الحال على ما هو عليه الآن فإن الإحصائيات التي نشرت مؤخرًا تشير إلى أنه بحلول عام ألفين يصبح عدد سكان مصر أكثر من مائة مليونًا، وعدد سكان إندونيسيا أكثر من مائتين وعشرين مليون، وبمعنى آخر: يصبح عدد سكان مصر وإندونيسيا موازٍ لعدد سكان أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية ، وهذا شيء مفزع جدًا بالنسبة لهم، وهذا عدد سكان دولتين مسلمتين فقط؛ فما بالك بالدول الأخرى؟!

إذًا سيتحول الغرب إلى أقلية بالتدرج، فوجدوا بدراسات إحصائية مستفيضة أن عدد الوفيات في بريطانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وأكثر دول أوروبا أكثر من عدد المواليد، وبدراسة هذه الظاهرة وجدوا أن السبب في ذلك هو تأخر سن الزواج) (4)

لذلك ليس بعجيب أن نرى في ألمانيا (أن الحكومة قد خصصت خمسين ماركًا للمولود الأول، كمنحة وإعانة شهرية، وللثاني سبعين، وللثالث مائة وعشرين، من أجل أن يكثر عدد الأطفال، إلا أنهم لاحظوا أن الذي استفاد من هذا القانون هم المسلمون الأتراك -إذ يبلغ تعدادهم مليوني نسمة تقريبًا يعملون في ألمانيا - فأدى ذلك إلى أن زادت معدلات المواليد لدى الأتراك، بينما بقيت على حالها عند الألمان من أصل أوروبي، ومثل هذا مشكلة جديدة للحكومة الألمانية.

وفي الاتحاد السوفييتي سابقًا كانت تعطى المرأة التي تنجب عشرة أطفال، سواء أكان من حلال أو من حرام -المهم أن تثبت أنها أنجبت من رحمها عشرة أطفال- تعطى وسامًا تعلقه على صدرها، وتقدم لها تسهيلات في التنقل واستعمال وسائل المواصلات العامة، وتعطى شيئًا من الحصانة؛ لأنها استطاعت أن تنجب عشرة أطفال -طبعًا هذا يتعلق بغير المسلمات)(5)

وإذا ما نظرنا إلى قضية الإنجاب المبكر، نجد في توصيات تلك المؤتمرات تناقضًا عجيبًا ينسف أصل الدعوة، فهم يركزون على ضرورة مكافحة الزواج المبكر، دون الالتفات إلى نتائج الدراسات الطبية التي تؤكد على أن الإنجاب المبكر هو وسيلة لرعاية أسرية أفضل للطفل.

والمتأمل في واقع المسلمين يجد أن هذه الدعوى لمواجهة الزواج المبكر، ما هي إلا دعوى فارغة من الحقائق، فالواقع يشهد أن الزواج المبكر في مجتمعاتنا لا يمثل إلا نسبة ضئيلة.

وهناك دراسة حول زواج الفتيات لأقل من سن سبعة عشر عامًا، من خلال سجلات عقود الزواج، في إحدى المحاكم الشرعية في إحدى المدن الفلسطينية، فقد قام أحد الباحثين بإجراء الدارسة من خلال سجلات عقود زواج المحكمة الشرعية خلال عام 1999م، وكانت كالتالي:

تم عمل الدراسة على ثلاثمائة عقد زواج تم إجراؤها في المحكمة الشرعية.

تبين من خلال الدراسة أن تسعًا وستين حالة زواج كان عمر الزوجة فيها أقل من سن 17 عامً.

الفتيات اللواتي تم إجراء عقود زواجهن فوق ستة عشر عامًا من الرقم تسع وستين بلغ سبع وثلاثون حالة.

الفتيات اللواتي تم إجراء عقود زواج لهن فوق سن خمسة عشر عامًا بلغ اثنتان وثلاثون حالة.

و من خلال الدراسة ظهرت النتائج التالية:

أ- نسبة الزواج لأقل من ستة عشر عامًا تساوي 10% من حالات الزواج فقط.

ب- لم يتبين أي حالة زواج أقل من سبعة عشر عامًا للرجال وإنما تزيد عن ذلك بكثير.

ج- الغالبية العظمى من الفتيات اللواتي تم إجراء عقود زواجهن في المحكمة وتقل أعمارهن عن ستة عشر عامًا هن من القرى(6) من خلال سجلات عقود زواج المحكمة الشرعية

ومن خلال ما سبق يتبين لنا مغزى اهتمام الغرب وأعوانهم من العلمانين، من الاهتمام والتركيز على قضية الصحة الإنجابية، على اعتبار أن تقليص القوى البشرية للمسلمين تفقدهم أعظم مقومات القوة، ومن جانب آخر يكون تأخر سن الزواج سببًا في إشاعة الرذيلة.

ويظهر التناقض والمغالطة بوضوح في تلك الدعوى، حيث أن واقع الغرب وحرص حكوماته على كثرة الإنجاب تثبت وتؤكد على تلك المؤامرة التي تحاك ضد المسلمين، وكذلك رأينا من واقع الدراسات أن أمر الزواج المبكر الذين يناهضونه، ليس له رصيد كبير على أرض الواقع، مما يؤكد على أن هذا الصخب لا يعدو إلا أن يكون مكرًا شيطانيًا غربيً.

انظر كتاب العدوان على المرأة في المؤتمرات الدولية, ص(150).

المصدر السابق.

انظر المرأة المسلمة بين موضات التغيير وموجات التغرير.

محاضرة المؤامرة على المرأة المسلمة، للدكتور سفر الحوالي

المصدر السابق بتصرف.

الزواج المبكر دراسة موجزة د/ حسام الدين عفانه.

لها أون لاين

عصام زيدان

JoomShaper