هل تتصور أن يكون عدوك هو نفسك التي بين جنبيك؟! ربما تحدث الصوفية أو أصحاب كتب الرقائق كثيرًا في هذا المعنى، وكنا نتصورهم يتحدثون في موعظة قلبية، ولكني في رصدي لهذه الظاهرة أتحدث من خلال خبرة نفسية لاحظتها في كثير ممن تعاملت معهم في الفترة الأخيرة،
ولم أشأ تفسيرها على مستوى مرضيّ، وآثرت أن أنظر إليها من المنظور النفسي والاجتماعي قبل أن تتحول لحالة مرضية.
وما سوف أسوقه من أمثلة، برغم أن كلها لنساء، فهذا ليس دليلا على أنها ظاهرة نسوية، أو أنه موقف ضد المرأة في طموحها، ولكن ربما شاءت الأقدار أن ما أثار انتباهي للظاهرة في الآونة الأخيرة كان مجموعة من النساء الفضليات اللاتي جئن يطلبن المشورة في توال غير مقصود أو مرتب، فكانت هي الأمثلة الأقرب لذهني وأنا أكتب المقال.
نمذجة النجاح
الأولى بدأت حوارها بطلب محدد: أريد أن أتميز، فكان التساؤل.. وما معنى التميز؟ وهل مطلوب أن نتميز؟ فأردفت شارحة: لقد تزوجت بمجرد التخرج وأنجبت مباشرة أولادي الثلاثة على فترات متقاربة، واليوم وبعد عشر سنوات من الزواج والتخرج لم أحقق ما حققته زميلاتي من نجاح في حياتهن العملية، لقد أصبح لهن عملهن الخاص وأسماؤهن المتميزة كل في مجالها، أما أنا فقد تفرغت لتربية أولادي، حيث لم يكن ممكنا أن أتركهن، إنني أشعر بالفشل في حياتي.
قلت لها: ما أخبارك مع زوجك؟ قالت: الحمد لله علاقتنا ممتازة فهو رجل ناجح في عمله ويعاملني كأفضل ما يكون.
فعلقت قائلا: إذن فأنت زوجة ناجحة، وأم ناجحة.. فهزت رأسها موافقة واستدركت: لكن مجال تخصصي؟ لقد حصلت فقط على دبلوم في التخصص.
ضحكت متسائلا: هل حصلت فعلا على دبلوم؟ قالت نعم، قلت: إذن فأين المشكلة؟ أجابت أن هناك تقديما لدراسات عليا أخرى تريد أن تتقدم لها!
استمر الحوار بيننا حتى أنهيته مقدما لها الخلاصة أن المشكلة في النمذجة التي دأب المجتمع على رسمها لمجالات الحياة المختلفة، بحيث أصبح نموذج النجاح له صورة معينة في كل مجال، وما يخالفها نعتبره فشلا، فلا نرى نجاحات حياتنا الأخرى، والتي ربما تكون نجاحات حقيقية؛ لأنها نجاحات بنائية إن صح التعبير، في حين يغلب على نماذج النجاح، التي يرهق الناس أنفسهم في تصور أنها فقط صورة النجاح، الشكلية والسطحية بل الأنانية، حيث تكون خاصة بصاحبها كفرد وليس كعضو ينتمي لكيان صغير قد يكون أسرته، أو كبير قد يكون مجتمعه الصغير أو الكبير.
وفي سبيل ذلك قد يسعى الإنسان لتحطيم نجاحاته الحقيقية لحساب نجاحات وهمية يريد أن يرضي بها غروره أو ذاته المتورمة، كرد فعل لشعور بالنقص نتج عن هذا الميزان المختل في تقدير الأمور، وهذا عين ما فعلته صاحبتنا الثانية التي جاءتني وقد قامت بالتنفيذ.
تحطيم ما فات
نعم.. تنفيذ ما تصورت أنها ستعوض به ما فاتها، وستنجح كما ينبغي أن يكون النجاح..
فقد كانت متزوجة ورزقها الله أربعة أولاد، تفانت في تربيتهم على حساب مهنتها، لتكون نقطة التحول عندما تزوج زوجها بأخرى، لتفيق على حد قولها وتقرر أن تقلب الدفة وتغير الاتجاه، فأصرت على الانفصال عن الزوج الذي حاول محاولات دءوبة لمنعها من ذلك حتى أنها ذكرت أن الانفصال برغم مرور سنوات عديدة عليه، فإن الطلاق الفعلي لم يحدث إلا قبل عدة أسابيع من حضورها إلى المركز لمقابلتي.
وتكمل: قررت أن أعوض ما فاتني، فنزلت إلى العمل بكل طاقتي، كنت أبذل مجهودا غير عادى.. لم يكن النجاح والتميز فقط هدفي.. ولكن لأثبت لزوجي أنني لم أنكسر، ولأدفن أحزاني وسط دوامة العمل المضني، كنت أنزل للعمل في الصباح وأعود مع مواعيد عودة أولادي من المدارس التي كانوا في مراحل مختلفة منها، وحرصت ألا أعمل في فترة بعد الظهر متصورة أنني هكذا أكون بجانبهم، والحقيقة أنني كنت معهم كجسد فقط، فالإنهاك البدني في العمل يجعلني لا أستطيع أن أقوم بمهامي الحقيقية معهم، حتى الطعام تحول في معظم الأيام إلى سندوتشات، ثم ألقي بجسدي على السرير في وسطهم ليشعروا أنني بجانبهم.
والنتيجة أن ابنها الأول توقف عن الدراسة وتكاد أعراضه التي وصفتها ترشحه لمرض نفسي، وكان الآخر مكتئبا، والصغيران في حالة تمرد وعنف مسيطر عليهما بوضوح.
كان تصورها أنها جاءت تستشيرني في حالة أولادها، فهي تتصور أو توهم نفسها أنها تحاول قدر الإمكان أداء أدوارها ناحية أولادها، وهي ترى أنه لا مانع أن يحدث بعض التضحية من أجل أن تعوض ما فاتها، وعندما سألتها عما تبغي تحقيقه، كانت الإجابة الغائمة: "أن يصبح اسمي كبيرا في مجالي، لقد عشت من أجل الآخرين، فماذا جنيت؟ فلأعش لنفسي إذن.
وكان خلاصة ما قلته لها: لقد أصررت على تحطيم نجاحاتك السابقة فهدمت بيتك، إنه حقك في اتخاذ القرار المناسب كرد فعل لزواج زوجك، ولكن بشرط ألا يكون ذلك تقليلا من حالة نجاح حقيقية، ليس معنى أن زوجك قد تزوج بأخرى أن تدمري حياتك بأي شكل وعلى أي رؤوس، وتعتبري أن كل ما فعلته كان خاطئا، فهذا تقدير سطحي وانفعالي، وحتى أولادك اعتبرت نجاحك معهم فشلا أيضا يجب تحويله لنجاح على المستوى المهني، لا أحملك وحدك ما آل إليه أولادك ولكنك تشتركين بدرجة كبيرة فيما حدث لهم.
لعلنا نفيق
هذا المعنى للنجاح يبرز كثقافة إنسانية فيما ينتجه الإعلام الغربي في بعض أفلامه، والتي يبدو أنها كانت ردة فعل للهجمة المادية على حياة الناس، فكان لابد من حالة مقاومة يجب أن نرصدها نحن؛ لأن المرض الأصلي جاءنا من هناك فاستوردناه مبهورين، وعلينا أن ندرك أن العقلاء هناك اعتبروه مرضا وبدءوا في مقاومته لعلنا نفيق.
في أحد الأفلام الجميلة والتي كان بطلها رجلا في هذه المرة حتى لا اتهم بالتمييز ضد المرأة، كان هذا الرجل طموحا جدا لا يرى النجاح إلا في عمله وتحقيق الإنجاز فيه، فحصل على ريموت كنترول يستطيع به أن يطوي الأزمنة، فطويت له أزمنه مختلفة رأى فيها نجاحاته وكيف دمرت أسرته حتى كاد يفقد حياته وهو يمسك بابنه الذي ورثه في إمبراطورية أعماله وهو يريد أن يترك عروسه من أجل صفقه مهمة، ويصرخ فيه لا تقع في نفس خطئي، لينهى المخرج الفيلم بنهاية سعيدة، وهو أن ما حدث كان حلما ليفيق منه ويقوم مسرعا ليأخذ أولاده في فسحة، وليهتم بأسرته ويعتبر نجاحه مع أولاده وزوجته نجاحا قد يكون أفضل من نجاحه العملي.
وفي فيلم آخر وصلت الشابة الصحفية لأن تصبح المسئولة الإعلامية عن أكبر دور للأزياء، ولكن على حساب حبها الذي فقدته؛ لأنها أهملت حبيبها ولم يعد يراها الإنسانة البسيطة الجميلة التي أحبها، وعلى حساب صديقاتها اللاتي كانت تقضي معهن الأوقات الجميلة المرحة، ليواجهها الجميع في لحظة صدق بأنها توحشت من أجل نجاحها، وداست على كثير من المعاني النبيلة التي كانت تؤمن بها.
حتى صاحبة العمل الجبارة قالت لها أرى فيك شبابي وقوتي التي علمت أنها كانت على حساب زواجي، لتكون النهاية أنه يوم الحفلة الكبرى التي كانت ستشهد أعظم نجاحاتها... تتخلى عن كل ذلك وتعود لحياتها البسيطة الصادقة، وتعود للبحث عن عمل في مجلة بسيطة تتقاضى فيها راتبا صغيرا ليعود لها حبيبها وصديقاتها.. ليس كلام أفلام وأوهام السينما ولكنه التعبير عن الصراع الإنساني بين ما هو حقيقي وما هو زائف.
لينتصر الحقيقي.. وعندها ينتصر الإنسان على نفسه التي سلطت عليه؛ لأنه استطاع أن ينتصر في أخطر معركة يمكن أن يواجهها الإنسان، معركة فقدان بوصلة النجاح الحقيقي والبحث عن نجاحات زائفة ناتجة عن تقييم مادي لفظه أصحابه أنفسهم، وما زلنا نحن نلهث وراءه ليسلط الله علينا أنفسنا.. وما أتعس من تسلط عليه نفسه.
د.عمرو أبو خليل
إسلام أون لاين