في علم المنطق، لا فائدة من مناقشة التناقضات، لأننا لا نستطيع أن نبني عليها أية قيمة معرفية، بل يعد التناقض في علم الرياضيات وسيلة لإثبات خطأ افتراض ما، فعندما تضع افتراضا معينا، ثم تبني عليه سلسلة من العمليات المنطقية ثم تصل إلى تناقض، تعود إلى نقض فرضيتك، والجزم بأن عكسها هو الصحيح.
وقد يصعب تطبيق نفس المبدأ في حياتنا، ويكاد المرء يجزم بأن أكبر تركيز للتناقضات هي تلك التي تبرز في المواقف والخطابات السياسية، وفي نشرات الأخبار والتغطيات الصحفية، ويكاد الطب يجزم أنها السبب الرئيس في أمراض ارتفاع ضغط الدم والسكري والتوتر، فقد عودنا هؤلاء وهؤلاء، إلا من رحم ربي، على سياسة الكيل بمكيالين، والتصيد في المياه العكرة، وعودونا على تلوين الحق بما يوافق هواهم وهوى من يوالون. وقد يذهب عقل الإنسان إن أصر على متابعتها جميعاً ومناقشتها أو محاولة تحليلها. ويكثر أصحاب هذه الأوصاف حين يتعلق الأمر بالإسلام والمنظمات الإسلامية وعلاقتها مع العالم.
فحين قتلت مروة الشربيني بغير ذنب سوى أنها مسلمة محجبة، أطلقت الشرطة النار على زوجها الذي هب لينقذها من يدي جلادها، عوض قتل المجرم، ولم يعلق أحد على هذا الفعل، وبقي احتجاجنا حبيس الصدور وكلمات مخنوقة هنا وهناك، في حين نجح بعضهم في القول بأن الحل الوحيد للقضاء على هذه الظاهرة هو عدم ارتداء الحجاب، وبالتالي عدم استفزاز الأشخاص الذين يكرهون الإسلام العدائي، ويصبح الجاني ضحية!
على نفس الموال كما يقال، يظهر صانعوا الفضائح الإعلامية، من كل أطياف المؤسسات الحقوقية والجمعوية والتيارات السياسية والاجتماعية بقرار إدانة لا رجعة فيه لما صدر عن مجلس القضاء الأعلى في غزة، من إلزام المحاميات بارتداء زي شرعي بما فيه غطاء للرأس داخل قاعات المحاكم. ويبرر المجلس هذه الخطوة بتوجه عام نحو تنظيم المؤسسة القضائية ومنح المحامين والمحاميات هيأة سماتها الوقار والستر، ومراعاة لحرمة المحكمة في مجتمع يغلب عليه الطابع المحافظ وترتدي جل نسائه الحجاب.
في حين تتهم فيه الهيآت الحقوقية المجلس بكونه يسعى إلى "أسلمة" المجتمع و تعميق الانقسام والتعدي على حقوق المرأة والتمييز العنصري ضد النساء المحاميات.
وكأن الحديث هنا عن مجتمع نصراني أو لاديني، الإسلام فيه غريب، وتسعى الحكومة إلى فرض دين الإسلام على الناس بالقوة، هذا وفي الوقت نفسه، تساق نساء الضفة إلى معتقلات السلطة الفلسطينية بلا ذنب، وتتم إهانتهن و التعرض لبعضهن من أخوات الشهداء والأسرى وزوجاتهم بالسب والضرب والشبح، دون أن تهمس مؤسسة حقوقية نسائية واحدة، همسة استنكار للتمييز ضد المرأة، لأنها ربما تعتبر أن للمرأة الحق في نيل نصيبها من الهوان تماما مثل شقيقها الرجل. يتباكون على حرية المحاميات في "الشلح" وحرائر الضفة لا بواكي لهن.
لقد سمعنا، ومنذ فازت حركة حماس بالانتخابات التشريعية بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني وخصوصا بعد عملية الحسم العسكري في قطاع غزة، العديد من الفضائيات والصحف ووسائل الإعلام المختلفة التي تجندت لتصيد الهفوات وصنع الفضائح و تلوين الصور بما يتفق والخطوط التحريرية لأصحابها ومالكيها ومن يمولونها.
فليس من قبيل الصدف أن تطلع علينا فضائية العربية برواية توافق الهوى الصهيوني، وهي التي لم تدخر جهداً في ذلك حتى إبان الحرب الدامية على قطاع غزة نهاية العام المنصرم، فيما يخص اشتباكات مدينة رفح جنوب القطاع، و تصور الأمر على أنه انشقاق في صفوف حركة حماس لتيار يتبع زوراً وبهتاناً للشيخ الشهيد نزار ريان رحمه الله.
وهي رواية هوليودية بامتياز، إن أضفنا لها بعض المؤثرات الصهيونية التي نضح بها إعلامها، من ادعائه بوجود تمويلات خارجية لهذه المنظمات الإرهابية.
وهو ادعاء يمكن أن نفهمه إن بحثنا عن من له المصلحة في زعزعة استقرار قطاع غزة وإثارة الشغب فيه، ومن يكون المستفيد الأكبر سوى "إسرائيل" نفسها وموالوها المتقنعون بقناعات فلسطينية، ظاهرها المهترئ فيه الوطنية وباطنها تزكم ريح الخيانة المنبعثة منه الأنوف.
وهي كلها محاولات بائسة لتغطية الشمس بالغربال في إطار اكذب الكذبة وصدقها!
ويبقى أغرب أنواع المواقف على الساحة وأكثرها مدعاة للدهشة، من حيث كونه معمماً على غالبية الدول العربية، توجه الولايات المتحدة الأمريكية إلى بعض هذه الدول التي توسمت فيها خيراً داعية إياها إلى العمل سوياً من أجل إعادة المياه إلى مجاريها وربط العلاقات الاقتصادية والثقافية مع الكيان الصهوني ودعم مبادرات التطبيع، في نفس الوقت الذي تتعنت فيه إسرائيل وتسود وجه حاميتها وترفض وقف الاستيطان، ثم تستمر التصريحات هنا وهناك لتصل إلى حل وسط: قد نلتزم بوقف الوحدات الاستيطانية لمدة ستة أشهر فقط، وهذا لأجل عيون أمريكا.
وعوض أن يركب العرب الموجة، ويعلنوا غضبهم من موقف اسرائيل المستهتر، يبقى الوضع على ما هو عليه، تبقى أياديهم ممدودة، وابتساماتهم متسعة على قدر جراح فلسطين والعراق وأفغانستان وباقي الدول الإسلامية المنكوبة.
وهذه الحالات كلها تدخل في باب ما يسمى تناقضات!
خولة بوخيمة