كأن الأعوام القليلة التالية لنهاية الحرب العالمية الثانية وضعت بذور عدد كبير من النكبات التي بلغت حصيلتها في هذه الأثناء مداها، وهذا ما يجعل كلمة "الستينية" في الوقت الحاضر تتردّد مرة بعد مرة، ومن ذلك ما هو معروف مثل ستينية نكبة فلسطين، أكبر جرائم القرن الميلادي العشرين السياسية والأخلاقية والعسكرية، ومن ذلك ما بدأت تظهر حصيلته لا سيما في أفغانستان

، مثل ستينية (أو بدء شيخوخة) حلف شمال الأطلسي بعد عام واحد، ومنها ستينية تشكيل قوات عسكرية ضاربة باسم السلام تتبع لمنظمة الأمم المتحدة، وهي التي يتردّد الحديث عنها هذه الأيام.

 

تحت مظلة السلام والأمن الدوليين

يوم 25/5/2008م أشاد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بمرور ستين عاما على تأسيس القوات الدولية المعروفة بالقبعات الزرق، واعتبرها هي اللافتة المرفوعة بفخر فوق المنظمة الدولية وما تقدّمه من خدمات للأمن والسلام، وبعد يومين فقط، في يوم 27/5/2008م كشفت منظمة "حماية الأطفال" غير الرسمية عن حصيلة دراسة استطلاعية أجرتها، تقول إن ممارسة الاعتداء الجنسي على الأطفال منتشرة على نطاق واسع من جانب أصحاب القبعات الزرق في المناطق المنكوبة الذين "يُستغاث" بهم باسم السلام فيها. وذكرت مديرة أعمال المنظمة ياسمين وايتبريد في لندن أثناء نشر تقريرها على وسائل الإعلام، أنّ "الأطفال في مناطق الأزمات يتعرّضون بصورة منظمة للاستغلال من جانب أناس جيء بهم لحمايتهم في الأصل، وهم من جنود السلام التابعين للأمم المتحدة والعاملين في منظماتها، وهذا دون مجرّد التبليغ عما يرتكبونه".
المنظمة استندت في تقريرها إلى معلومات استمدتها عبر توجيه أسئلتها إلى 250 من الأطفال والناشئة و90 من البالغين، في السودان وهاييتي وساحل العاج. واعتبرت حالات الاعتداء الجنسي تبعا لذلك منتشرة انتشارا واسعا، وفي مقدمة مرتكبيها جنود "القبعات الزرق"، واستهدف بعض تلك الاعتداءات أطفالا في السادسة من العمر، وفتيات قاصرات، إما اغتصابا عدوانيا أو اغتصابا يعتمد على استغلال الفقر والجوع. ويؤكد تقرير المنظمة أنّ الضحايا لم يكونوا يبلّغون دوما عن تعرّضهم للاعتداء الجنسي، خوفا من التعرّض للانتقام لاحقا. يضاف إلى ذلك أن معظم الضحايا من القصّر والأيتام، ولا يجدون في ذويهم من يمكن أن يقدّم إليهم العون أو الحماية تجاه "أصحاب مهمات الحماية" الدوليين في المناطق التي يعيشون فيها.
والمنظمة التي تأسست عام 1918م ويتبع لها 28 منظمة فرعية قطرية في هذه الأثناء، تشكو من أنّ حوالي 80 ألفا من حاملي القبعات الزرق في أنحاء العالم، وحوالي 200 ألف من العاملين المدنيين باسم المنظمات الدولية، لم يعد يمكن التمييز بينهم، من يمثل خطرا على الأطفال والناشئة ومن يستحق ما يوصف به أنه من "ملائكة الحماية والحراسة" لهم.
وقد وجد الأمين العام للأمم المتحدة نفسه مضطرا إلى توجيه الناطق باسم الأمانة العامة نيك بيرنباك ليخفف الوطأة على "سمعة" جنود المنظمة، بقوله إنّ حالات الاعتداء لا يمكن القبول بها وتجب ملاحقتها، ولكن الغالبية الكبرى من الجنود الدوليين يؤدّون مهامهم بأمانة وشرف.
ولكن يبدو أنّ الملاحقة الرسمية من جانب الأمم المتحدة نفسها لم تعد كافية، وكانت قد سجّلت اكتشاف 15 حالة اعتداء جنسي خلال عام 2007م تجري ملاحقة اصحابها، بينما سبق الكشف عن 110 حالات في هاييتي وحدها خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر فقط من العام نفسه، وتتحدث مصادر المنظمة الدولية عن انتشار الاعتداءات في مناطق عديدة، مثل الكونجو وليبيريا علاوة على البلدان التي شملتها الدراسة الاستطلاعية الأخيرة لمنظمة "حماية الأطفال".

منظومة عالمية للقيم والاخلاق

الحديث المخزي الآن عن جرائم بعض من يعملون بإمرة الأمم المتحدة من عسكريين ومدنيين يذكّر بما انكشف وينكشف بصورة شبه دورية عن اعتداءات الجنود الأمريكيين جنسيا على فتيات قاصرات في اليابان والفيليبين وسواهما، وكيف كان الاعتداء الجنسي المنحطّ في صميم أعمال التعذيب التي انفضح أمرها في أبوغريب، كما يذكّر بأدوار مشابهة للجنود الدوليين رافقت موجة استخدام الاغتصاب الجماعي المنظم "سلاحا" في الحرب الصربية الإجرامية في البوسنة والهرسك، وبالسلوك الذي لا يمكن وصفه بدور "الأمانة والشرف" للقوات الدولية التي كانت تحمل مهمة حماية مناطق محدّدة أثناء تلك الحرب، لا سيما تسيبرنيتسا، ثم كيف كان التعامل مع تلك الجرائم الجماعية فيما يشبه اتفاقا ضمنيا على أن يطويها "النسيان" مع تقادم الزمن عليها دون متابعة ولا ملاحقة تستحق الذكر أو تليق بحجم الجريمة وبشاعتها.
كما أنّ حالات الاعتداء الجنسي المكثفة على الأطفال والناشئة لا يمكن فصلها عما أصبح في حكم الوباء الاجتماعي الواسع النطاق تحت عنوان "الاعتداء الجنسي على الأطفال" والذي بلغ حجمه وانتشاره درجة دفعت إلى عقد المؤتمرات الدولية لمواجهته، ثم ما لبث أن أخذ مكانه كملف من ملفات الوجه الآخر للمدنية الحديثة، كالإدمان على المخدرات، وما يسمّى "السياحة الجنسية"، و"تجارة الرقيق الأبيض"، ووباء "نقص المناعة" وغير ذلك مما يتخذ مكانه أيضا إلى جانب الكوارث الكبرى تحت عناوين الفقر والجوع والمرض.
إنّ في واقع البشرية الحضاري المعاصر خللا ضخما لم يعد يكفي أسلوب حقن المهدّئات في علاج ظواهره المتعددة الوجوه الواسعة الانتشار، القديم منها والجديد، والتي لا يمكن فصل جانب منها عن جانب آخر، فلا غنى عن علاج جذري شامل.
لا يمكن الفصل -على سبيل المثال- بين مشكلتي الجوع والاعتداء الجنسي، بينما تحفل التقارير الرسمية وغير الرسمية بتأكيد النسبة العالية لاستغلال الفقر والجوع لارتكاب جرائم الاعتداء الجنسي، أو بين الفقر وانتشار المخدرات بينما بات معظم ما يُزرع منها يُزرع تحت وطأة حاجة الزارعين إلى مصدر مال يسدّ رمقهم من الجوع، أو بين انتشار المخدرات وما يسمى "تجارة الرقيق الأبيض" وقد بات اعتماد عصاباتها المنظمة على نشر الإدمان مدخلا لممارساتهم العدوانية الأخرى، كما لا يمكن التوفيق بين الضغوط الدولية المتكررة على بلدان مثل مصر أو تركيا لتمضي خلف الدول الغربية في طريق تقنين الشذوذ الجنسي أو ما يسمّونه تهوينا من شأنه "العلاقات المثلية"، وبين الدراسات التي أثبتت أن وباء خطيرا كوباء نقص المناعة إنما كانت نشأته الأولى في هذه الأوساط وأوساط تعاطي المخدرات.
إن الخلل الأكبر في واقع البشرية حضاريا قائم على محور واحد مشترك، هو تغييب منظومة القيم والأخلاق، بدعوى الاكتفاء بمنظومة الأمن والنظام، أو القوانين والمواثيق الدولية، حتى أفرغت هذه نفسها من مضمونها واضمحلّت فعاليتها.
ليس ما ينقص البشرية المزيد من مواثيق حماية الطفل، فعددها كبير، ومفعولها يثير التهكّم المرير في مواجهة التنامي المتسارع البشع لجرائم القتل البطيء جوعا وفقرا ومرضا والتي تستهدف الأطفال والناشئة في الدرجة الأولى، وجرائم القتل المباشر عدوانا وحرمانا وتشريدا، وجرائم تحويل البقية الباقية من حياة النسبة الأعظم من أطفال العالم إلى جحيم يشمل فيما يشمل لهيب ممارسات الاعتداء الجنسي دون أن يملكوا لأنفسهم مجرّد القدرة على الشكوى.
ولئن لعب البيان العالمي لحقوق الإنسان وما انبثق عنه دورا ما خلال ستين عاما مضت عليه، فالبشرية في حاجة أكبر بكثير اليوم إلى التلاقي على بيان بمنظومة قيم وأخلاق، ببنود ملزمة، وآليات تطبيق محكمة، وعقوبات حازمة، ومناهج تنفيذية تشمل مختلف قطاعات "صناعة الإنسان" في البيوت والمدارس والجامعات والمراكز التربيوية والثقافية والأدبية والفنية ومختلف وسائل الإعلام ولعب الأطفال وسواها.
الانطلاقة الأولى للمنظمات الدولية التي يُشتكى الآن من أفاعيل عدد يتنامى من جنودها والعاملين فيها، كانت من أتون حرب عالمية ثانية، وضاع مفعولها واضمحلت مصداقيتها من خلال الهيمنة عليها بموازين القوة التي خلّفتها الحرب العالمية الثانية، ولا بد أن تكون الانطلاقة الأولى لحملة شاملة في ميدان القيم والأخلاق، من منطقة أصبحت هي الضحية الأولى لتطورات ستين عاما مضت، وتلك هي منطقة ما يسمّى العالم الثالث الذي يضم الدول الإسلامية جميعها، وفيها -أكثر من سواها- معين لا ينضب، وطاقة كبرى لصناعة منظومة أممية جديدة على محور القيم والأخلاق، تعيد لمسيرة الحضارة البشرية نقاءها، وتطهّرها من أدران تسويد شرعة الغاب على ما سواها.

نبيل شبيب
موقع مداد القلم

JoomShaper