منى أبوحمور

 

اعتاد الإنسان أن يعبر عن مشاعره لأحبائه بالكتابة على الحائط أو على جذع الشجرة أو في رسائل مكتوبة، ولكن في الحرب الدامية على غزة، تصبح هذه الطرق غير كافية للتعبير عن حجم الألم والفقدان والوجع الذي يعيشونه كل لحظة.

وتحت القصف، تتحول الأكفان إلى أكثر من مجرد غطاء يغلف الشهداء، فهي تصبح صفحات بيضاء تروي قصصا من الحزن، وبكتابات تحكي وجع الفقدان الذي لن يمحوه الزمن.

كان نعيا مختلفا، اختلطت به مشاعر الحب بقهر الرجال وألم الفراق. ظهر ذلك حينما كتب المحامي جهاد الكفارنة أحد الناجين حتى الآن من قصف الاحتلال الصهيوني، عن زوجته التي استشهدت تحت القصف.

كتب الكفارنة على الكفن بقلم جاف "بحبك يا عمري، قلبي الشهيدة تسنيم محمود، قمري وحياتي، شهيدة عمري". كما ودع طفلته، فكتب على كفنها مشاعره عن غياب أغلى ما يملك، لعله بتلك الكلمات يعبر لهما عن حبه وحسرته على فراقهما.

أدى العدوان الغاشم على قطاع غزة الذي يدخل يومه الثاني والثلاثين، بحسب وزارة الصحة في غزة، إلى استشهاد ما يزيد على 10 آلاف شهيد منذ بداية العدوان الإسرائيلي، 70 % منهم من النساء والأطفال.

يختبر أهالي غزة ويلات الحرب والقصف وألم الفقد والظروف المعيشية الصعبة، خصوصا بعد استمرار انقطاع المياه والغذاء والدواء حتى الكهرباء، ليبقوا معزولين عن الناس، يعانون ألمهم ويعيشون حزنهم وحدهم.

في مشهد آخر، ترى الناجين من الآباء والأمهات يبحثون بين الركام عن مقتنيات أبنائهم البسيطة التي تعلقوا بها، فبعد أن كانت مكتبة منازلهم تمتلئ بقصص اعتاد الأطفال قراءتها، أصبحت اليوم بين الركام يعلوها التراب، محاولين جمعها من جديد ونفض ما عليها من تراب ووجع وألم، وفي الوقت ذاته حتى أكياس الخبز تلطخت بالدماء.

ألعاب وبقايا ملابس، كذلك علب ألوان ودفاتر للرسم، اختلطت بالحجارة والركام، إلا أن صمود هذا الشعب الاستثنائي غير كثيرا من المفاهيم، فلم تعد الكتب في المكتبة وعلب الألوان في الحقيبة حتى الألعاب لم تعد في غرفة النوم، إنما توضع في الخيام وفوق الركام وحتى إلى جانبهم في أماكن النزوح، ولم يجعلهم القصف والعدوان يتركونها ولم يستطع الاحتلال أن ينهي الغاية من اقتنائها.

رغم استمرارية آلة الإجرام الصهيونية التي تلاحق أهل غزة الذين لجأوا إلى المدارس والمساجد والكنائس والمستشفيات وتشريد الأهالي من بيوتهم بسبب جرائم الحرب المستمرة التي تقوم بها، بحسب اختصاصي علم الاجتماع الأسري مفيد سرحان، إلا أن كل هذا القتل والتدمير، وبالرغم من بشاعته، لم يهزم الروح المعنوية لأهالي قطاع غزة، فنجد هذا واضحا من خلال المشاهد المباشرة التي تنقلها وسائل الإعلام.

وأصبح هؤلاء الصامدون، وفق سرحان، يعبرون عن مشاعرهم الإنسانية تجاه بعضهم بعضا بطرق لم يألفها الناس، لأن الإنسان الحي المؤمن بقضيته يستطيع أن يعبر عن مشاعره بوسائل تتناسب مع واقعه وظروفه، وتساعده على رفع الروح المعنوية لنفسه وأسرته ومجتمعه، بل ورفع الروح المعنوية لمن هم خارج القطاع.

ومثل هذا التعبير وإن كان مختلفا عما ألفه الناس، بحسب سرحان، فهو تعبير صادق نابع من القلب، ليس فيه تصنع ولا تقليد للآخرين، فمن يقدمون الشهداء ويصبرون على كل هذا القتل والدمار هم الأكثر صدقا، وهم مدرسة يتعلم منها الآخرون.

وينوه إلى أن الأصل في التعبير لدى الإنسان أن يكون صادقا وليس مقلدا أو منقولا والتعابير الإنسانية قد تختلف من شخص لآخر، وقد تختلف عند الشخص الواحد إذا تغيرت ظروفه وأحواله.

وبحسب سرحان، فإن صدق المشاعر يدفع الإنسان للتعبير عنها في كل الظروف وبعفوية، وهذا يعتمد على عوامل، منها الإيمان بالله وبعدالة قضيته التي يضحي من أجلها، ونظرته إلى الحياة والموت، وإصراره على نيل حريته والتعبير في ظروف الشدة أكثر صدقا منه في ظروف الرخاء.

ويشير سرحان إلى أن هذا التعبير يسيطر على سلوك الإنسان وتصرفاته، فمن يحب شخصا سيبقى يحبه مهما كانت الظروف، حتى وإن فرقت الحياة بينهما أو تباعدا أو حتى توفي أحدهما، لأنه حب صادق نابع من القلب ليس لمصلحة مادية، بل هو حب القلوب والنفوس وقربها من بعضها بعضا.

ويستمر هذا الحب، خصوصا إذا أدرك الإنسان معنى الشهادة، لأن منزلتها عظيمة عند الله تعالى، فهو يتوق إلى ملاقاة حبيبه في جنات الخلد وهناك الأبدية الخالدة.

ويلفت إلى أن النظر إلى أطفال غزة، وبالرغم من صغر سنهم، ولأنهم تربوا في أحضان مؤمنة تعرف رسالتها، نجدهم يبدعون في ابتكار وسائل يرفهون فيها عن أنفسهم وسط كل هذا الدمار الذي لم تعرف البشرية له مثيلا.

براءة الطفولة تجد لها مكانا بين ركام المنازل المهدمة، وآخرون يحملون طفلا صغيرا في سريره ويهتفون "الشهيد حبيب الله".

وبالرغم من أن مئات العائلات تم محوها تماما من السجلات، فإن عائلات أخرى فقدت الكثير من أفرادها، إلا أن من تبقى منها يصرون على الاجتماع في "لمة العائلة"، كما تعودوا وتحت سقف بيت دمرت جدرانه أو فوق ركام بيت سوي بالأرض لتناول ما تيسر من طعام على قلته، فهم مصرون على الحياة حتى الرمق الاخير، بل ربما ينتظرون اللحاق بمن سبقهم إلى الشهادة، بحسب سرحان.

ويقول سرحان "وربما من أبشع صور هذه الحرب؛ الخبز الذي غطته دماء الأطفال والنساء الذين حاولوا الاحتماء من قصف العدو بإحدى المدارس أو المساجد أو الكنائس أو المستشفيات ظنا منهم أنها آمنة"، وقد يضطر من يبقى من هؤلاء الأطفال أو النساء إلى اقتطاع أجزاء صغيرة من رغيف الخبز هذا، التي لم تلطخها دماء إخوانهم وجيرانهم لتكون لهم عونا على البقاء، في ظل حصار مطبق وإصرارهم على الصمود والبقاء بانتظار النصر أو الشهادة.

JoomShaper