تغريد السعايدة
"للناس في أحزانهم مذاهب"، فالحزن لا يتبع قواعد محددة، إذ يختلف من شخص لآخر، قد يعبر البعض عن حزنهم بالبكاء أو الصراخ، أو بالكلمات المنطوقة، أو بالكتابة. وقد يفضل البعض الآخر الكتمان.
في كل مرة تتكرر فيها مشاهد مؤلمة، تحديدا ما يحدث في قطاع غزة من حرب وحشية دامية؛ يترسخ الألم في نفوس أفراد المجتمع، ويكون الحزن هو الطريقة الأولى للتعبير عن هذه المشاعر.
في رحلة الحياة؛ نمر بالعديد من المواقف والأحداث، التي تترك فينا آثارا لا تمحى مع الزمن، ومع اختلاف طبيعة هذه المواقف، يختلف أيضا رد فعل الإنسان عليها، وقد يعبر عن حزنه بطرق مختلفة.
في غزة، تتكرر كل يوم المشاهد المؤلمة، وتخرج صرخة حزن من كل قلب، احتجاجا على الظلم والعدوان الصهيوني. وميساء زهير، تجد أن الطريقة الوحيدة للتعبير عن حزنها الذي يسكن قلبها من مشاهد الأطفال، هي من خلال مشاركتها للمقاطع والصور المتعلقة بأحداث غزة على حساباتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتروسها ببعض عبارات الدعاء والتضامن معهم.
وتقول ميساء الأم لثلاثة أبناء إنها لا تستطيع أن تخفي حزنها على ما تراه يحدث من جرائم وحشية بحق الطفولة، وتشعر "بالرعب" عندما تشاهد ما يحدث وتقع فريسة المقارنة ما بين أطفال غزة وأطفالها، وتقول "في قلبي حزن دفين لا اجد متسعا بالتعبير عنه إلا الدموع وساحات الحوار عبر مواقع التواصل التي ندافع عبرها عن قضيتنا".
بيد أن فراس شاهين، يجد هو وأصدقاؤه ساحات الاعتصام فرصة للتعبير عن الحزن الذي بات يغلف تفاصيل حياتهم، وذلك من خلال تبادل الحديث حول المشاهد التي تمر أمامهم، والهتاف للتعبير عن التضامن، والدعاء لنصرة أهل غزة.
ويعتقد فراس ان ما نراه لا يمكن إلا أن يدفعنا إلى الحزن، ويقول "أعرف الكثير من الأصدقاء الذين لم يستطيعوا أن يحبسوا دموعهم عما يحدث في غزة، وشعورنا بالعجز كذلك يتضاعف"، لذا يحاول الشباب أن يجدوا متنفساً لهم للتعبير عن الحزن المقرون بالغضب، ولكن لكل شخص منهم طريقته.
ومن هنا، تأتير مقولة "للناس في أحزانهم مذاهب"، أي أنها تختلف من شخص لآخر، ففي ذات الموقف هناك أشخاص يختلفون في تعبيرهم، ما بين "كتوم، معبر بصوت مرتفع، وآخر يفضل الابتعاد، بينما هناك من يستسلم للحزن وقد يدخل في حالة من الاكتئاب المرضي، الذي يمنعه من التفاعل الاجتماعي في بعض الأحيان.
ولا تنكر أسيل الخطيب أنها بالفعل دخلت في حالة اكتئاب، مبينة أن ما حدث في بداية طوفان الأقصى منح شعورا بالسعادة والابتهاج، ولكن ما لبثت أن دخلت في حالة حزن شديدة للمشاهد "المروعة" لما يحدث في غزة حتى هذا الوقت، الأمر الذي أدى إلى أن "تتسمر أمام شاشات التلفاز والهاتف لمشاهدة التطورات اليومية".
ولذلك، كان حزنها عبارة عن "بكاء، وعبارات تدونها على حسابتها في السوشال ميديا، وأحاديث تشاركها مع عائلتها، وصديقاتها، اللواتي قمن بمساعدتها في تقديم خيارات للخروج من هذا الحالة، كما في مشاركتها الأخبار المفرحة حولها، والتي تبعث على رفع المعنويات في نفسها، والدعوة لحضور بعض المناسبات القريبة منها، لتكون مساحة لتعديل المزاج والخروج من المنزل والابتعاد عن الشاشات ولو لفترة قصيرة.
وباختلاف ردود الأفعال تلك، يمكن ان تكون مشاعر العديد من العائلات او الأفراد الذين يعانون من الحزن بدرجاته، تختبئ خلف قضبان الكبت، لذلك، ترى اختصاصية علم الاجتماع الدكتورة فاديا ابراهيم أن الناس تمتلك أساليب وتصورات مختلفة حول كيفية التعبير عن الحزن ومعالجته، وبعض الأشخاص يميلون إلى التفكير العميق والتأمل، بينما يمكن لآخرين أن يلجأون إلى النشاطات البدنية أو التواصل الاجتماعي كوسيلة للتخفيف من حدة الحزن.
وفي بعض الثقافات قد يميل البعض إلى اتباع تقاليد دينية أو طقوس خاصة خلال فترة حزنهم، وفق إبراهيم، حيث من المهم جدًا أن يكون هناك دعم اجتماعي ونفسي للأشخاص الذين يعانون من الحزن، وإذا استمر ذلك لفترة طويلة أو أثر بشكل سلبي على حياتهم، فقد يكون من الضروري البحث عن المساعدة المهنية من مختصين في الصحة النفسية.
وتقول إبراهيم ان الناس يختلفون في طريقة تعبيرهم عن المشاعر والأحاسيس بسبب مجموعة من العوامل التي تؤثر على كيفية التعبير عن هذه المشاعر، وهذه العوامل تشمل الثقافة والتربية، إذ تلعبان دورا كبيرا في تحديد كيفية تعبير الشخص عن مشاعره، بالإضافة إلى التجارب الشخصية، والتي من خلالها يمكن تعلم كيفية التعامل مع المشاعر والحزن والتعبير عنه.
كما أن لـ"شخصية الإنسان"، دور في طريقة التعبير عن الحزن، كما تقول إبراهيم، إذ أن بعض الأشخاص يكونون أكثر تكتما ويفضلون عدم مشاركة مشاعرهم بشكل عام، بينما يمكن لآخرين أن يكونوا أكثر انفتاحا وصراحة، كما أن "الظروف وسياق الحدث"، له تأثير في ذلك، كما أن اختلاف الجنس "ذكر أو أنثى" قد يكون له دور في طريقة التعبير، بناء على توقعات وثقافات مختلفة، فالأنثى لها حيز أكبر في التعبير عن الحزن، أما الرجل لا يستطيع لأسباب ثقافية لها علاقة بالصورة النمطية عن الرجل بالتعبير بشكل واضح أو صريح كالبكاء مثلا.
جميع تلك العوامل لها دلالات وآثار نفسية على المدى القريب والبعيد، وهو الذي يؤكده اختصاصي الصحة النفسية والعلاج النفسي الدكتور أحمد عيد الشخانبة، الذي يرى أن هناك من يبكي أو يشتكي للآخرين، أو بمعنى آخر "يبوح" عن حزنه وآلامه للآخرين، في حين أن هنالك من يلجأ للعنف كما في "التحطيم وضرب الأشياء المحيطة به"، فيما آخرون قد يلجأون إلى المشي، الركض أو ممارسة الرياضة.
ويرى الشخانبة أن طريقة تعبيرنا عن الحزن والمشاعر السلبية جميعها تؤثر كثيرا على علاقاتنا بالمحيطين بنا، فإذا كانت طرق تعبيرنا إيجابية، مثل الإقبال على الله بالدعاء وتسليم الأمور له، ومن ثم طلب العون والمساندة من الآخرين أو البوح لهم، فهذا قد يعمق العلاقة بالآخرين، أما إذا كانت طريقة التعبير تعتمد على العدوان التوجه للسلوكيات غير المقبولة اجتماعياً، أو إيذاء الذات أو إيذاء الآخرين، فقد يزيد ذلك من نبذ الآخرين وابتعادهم.
كما ينوه الشخانبة إلى أن هناك اختلافا بين الحزن والاكتئاب، فالاكتئاب أشد درجة، ويستمر فترة زمنية أطول ويؤثر على قدرة الشخص على القيام بوظائفه الحياتية، وكثير ما يؤدي للانتحار، فهو ثاني أكبر الأسباب المؤدية للانتحار في العالم، ويؤثر على أداء الشخص لعمله وواجباته الحياتية بشكل كبير من حيث نقص الإنتاجية في كل مسارات حياته.
وتقول إبراهيم أن مستوى الدعم الاجتماعي الذي يتلقاه الشخص يمكن أن يؤثر أيضا على طريقة تعبيره، فإذا كان هناك دعم قوي من الأصدقاء والعائلة، قد يشعر بالراحة في مشاركة مشاعره بشكل أكبر، حتى لا تكون العوامل آنفة الذكر سببا في تشكيل الطريقة الفردية التي يعبر بها كل شخص عن مشاعره.
وتتفق إبراهيم مع الشخانبة في أن القدرة على التعبير عن المشاعر بطريقة صحية وملائمة يلعب دورا مهما في الحفاظ على الصحة النفسية والعاطفية الجيدة، كذلك تعزيز الرفاهية الشخصية، كون طريقة تعبير الشخص عن الحزن والانفعالات العاطفية يمكن أن تؤثر على علاقته مع الآخرين، فإذا كان الشخص يتعامل مع الحزن بشكل يجعله غير مستقر عاطفيا فقد يكون لهذا تأثير سلبي على علاقاته الاجتماعية.
وللتغلب على هذه التحديات وتحسين العلاقات الاجتماعية، يمكن للشخص العمل على تحسين مهارات التعبير عن المشاعر والتحكم في الانفعالات، على حد تعبير إبراهيم، ويمكن أيضا البحث عن الدعم النفسي والعاطفي من محترفين في مجال الصحة النفسية لمساعدة الشخص في تطوير استراتيجيات صحية للتعامل مع الحزن والانفعالات بشكل أفضل، فـ "الاختلاف في طرق تعبير الحزن يعود إلى مزيج من العوامل الشخصية والثقافية والاجتماعية التي تجعل كل فرد يمتلك نهجا مختلفا للتعامل مع المشاعر الحزينة والتعبير عنها".