يظل السؤال واحدًا.. فبرغم تنوع الإجابات لم تصادفني من قبل هذه الحالة من اليأس التي لمستها في نبرة الكثير ممن قابلتهم في الفترة الأخيرة، فحيثما تجولت في داخل مصر بين محافظاتها أو خارجها في البلدان حيث الوجوه المصرية في كل مكان أجد السؤال يتكرر ويتكرر بمرارة متصاعدة وحزن نابض: "هل تخلفنا جبلة أصيلة فينا أم أنه الاستبداد والفقر؟ هل من أمل في أي إصلاح؟".
وإجابتي دوما أن الإصلاح عملية معقدة لكن تبدأ من الناس، صحيح أن "الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" لكن يظل التغيير في يد الناس، فالركلة الأولى لكرة الإصلاح تأتي من الناس، وليس هذا عزوفا عن دهاليز السياسة وأضابيرها، فلها ناسها وطلابها، لكنه وعي بأن السياسة ميزان قوة وعلاقة "ردع متبادل".. وتدافع.
فإذا أهدر الناس إمكاناتهم وطاقاتهم، وقبلوا قتل أحلامهم، ولم يردعوا "النخبة/الملأ" عن الاستبداد والفساد، فإن المحصلة هي حاكم مستبد ونخبة فاسدة. وليس من قبيل المصادفة أن الناس تحصل على حقوقها في كل مرة تطالب بها وتدافع عنها، فما ضاع حق وراءه مطالب، لكن الإحساس بالعجز حين يصيب النفس يمسخ الذات ويشوه التفكير فنجد هذا الارتباك والتردد والبوار.
خطوات الإصلاح
وسيكون السؤال التالي: "فمن أين نبدأ وما الخطوات؟؟".
ولطالما وجدت فكرة خطوات الإصلاح التنظيمية المرتبة (وكأننا نصعد سلما أو نسير على أرض من المربعات المخططة) فكرة طريفة للغاية، ومضللة، فمن قال إن التغيير نتاج خطط مسبقة وخطوات مرسومة؟!.
لم أجد في التاريخ أمة حصلت نهضتها بخريطة طريق معلومة ومحددة سلفا، لكن الأمم تحقق النهضة بروح تسري فيها فتحول اللون الأصفر الرابض على مساحات القلب إلى لون أخضر ويبدأ الناس في المبادرة بالفعل غير المتوقع وغير المنتظر.
التغيير في ظني يحدث حين يبدأ الناس في تحدي الواقع بدون خطة تسمح بإجهاض مقاومتهم، ولأن الأمر غير متوقع؛ ولأنه خارج السيناريوهات التي تتوقعها القوة المهيمنة، تفلح الجهود الصغيرة في فتح ثغرات في الجدار وشق مساحة في السقف وهدم ركن ركين في صرح ظن الناس قبلها أنه لا يهزم ولا يقهر؛ فإذا خر تبينوا أن لو كان لهم طاقة أمل وجرأة فعل لانهدم منذ دهر.
بدا لي في التجوال بين الكتب والنظريات أن خريطة التغيير أشبه بطاولة البلياردو وليس بلعبة القوس والسهم، فنحن نظن أحيانا أننا لو شحذنا القوة وسددنا على نقطة تصيب في مقتل لانتهى الأمر.
وتقديري أن الأمر ليس كذلك البتة!.
فنحن لا نملك من مقومات البطش ما يملك فرعون وهامان، لكننا نملك قوة وطاقة، ونحتاج لتوظيفها وتمكين الناس، ويكفي المرء أن يدفع أول كرة أمامه على طاولة البلياردو لتحرك الكرات الأخرى، ليس في اتجاه واحد بل في عدة اتجاهات، وقد تسقط في المكان المنشود كرة غير التي نتوقعها، ومن لون لا نتصوره، فالكرات على الطاولة ألوان، والتنوع سنة، وحركة التاريخ أشبه بحركة الكرات في اتجاهات تثمر في النهاية عن تغيير خريطة القوة ومشهد الطاولة.. لكن لفكرة الضربة القاضية في حلبة ملاكمة للأسف سلطان على العقول والأفئدة.
الواقع لا يتغير كما في لعبة الرماية بطلقة تصيب هدفا، بل بمناورة أشبه بمصارعة الثيران التي يملك فيها الثور قوة أكبر من قوة اللاعب المتقافز هنا وهناك، ولو واجهه لصرعه الوحش، لكن إنهاك الوحش وطول النفس ومهارة التصويب لغرس سهم وراء الآخر والمراهنة على الجروح الصغيرة والنجاحات المتكررة ما تلبث أن تؤدي لنزيف يفقده قوته وتصبح الضربة الأخيرة أشبه بالقشة التي تقصم ظهر البعير، بسيطة وسهلة وأحيانا أقرب مما يظن المشاهد بعد أن كاد ييأس ويغادر مقعد المتفرج.
ابدأ بنفسك
(عودة مرة أخرى لإستراتيجية النمل.. في مواجهة الأفيال).
أنظر حولي فأجد من العبث ما يغلب التعقل، ومن التخاذل ما يغلب العزيمة، ومن الحرص على الدنيا ما يغلب الدفاع عن الكرامة، ومن التنازع على السلطة والنفوذ ما يغلب التعاون على البر والتضحية في سبيل المبدأ، وأقرأ في كتاب الله قوله {أليس منكم رجل رشيد} فأشعر أن كل ما تحتاجه أمة هو قليل من الرشد.. وقليل من الرجولة.. وبعض المروءة.
النهضة سبيل نتبعه وليست قفزة في فراغ، وفعل يومي للناس يتراكم ويفرز قياداته "منكم" ليصلحوا "الأمر".. وليست تغييرا يقلب الطاولة بما عليها.
وأنا أعلم أن هذا الكلام لا يعجب التنظيمات والأحزاب صاحبة الخطط والمراحل المرسومة، لكن يقيني أن التقاتل على جثة لا يجدي كثيرا، "اضربوه ببعضها" فإن عادت له الروح فليذهب يمينا أو يسارا أو وسطا، فالحي يتوجه أنى شاء ودعوته للمكارم ممكنة، أما الميت فإنه لا يسمع النداء.
ويبقى أن نتذكر دوما أن كل الخيارات لها ثمن.. الصمت له ثمن والكلام له ثمن، الجبن له ثمن والنخوة لها ثمن، والركود له ثمن، والنهضة لها ثمن، ويد القدرة تتحرك لتغير مجرى التاريخ حين يتحرك الناس بما أمكنهم وما وسعهم فيسددوا ويقاربوا، ثم يجبر الله وهو الجبار.. النصر من عنده.. والفعل البشري يستدعيه.
ولكلٍ في الدنيا مسار، ولكلٍ قدر وخيار.
البداية؟ روح تسري في الأمة.. وابدأ بنفسك.
د.هبة رؤوف عزت
إسلام أون لاين