أ.د. محمود نديم نحاس*
جاء طالب إلى مكتبي يسألني عن مسألة أشكلت عليه. ومن عادتي ألا أجيب الطالب بشكل مباشر، بل أتدرج معه بدءاً مما يعلم، إلى أن أصل به إلى فهم ما لم يعلم. فبدأت أسأله أسئلة حتى أعرف أين وصل فهمه. فإذا أصاب أثنيت عليه ثم أنتقل إلى السؤال التالي.
وقد صادف مجيئه وجود أحد زملائي. فلما خرج الطالب قال ضيفي: لماذا كنت تثني على هذا الطالب الكسول؟ ألا ترى أنها شهادة زور؟! فأجبته باللاشعور: ما هذا الغباء يا صاحبي؟ فحملق في وجهي وبدأ الشرر يتطاير من عينيه، وكاد يضربني من شدة غيظه لولا أن تمالك نفسه وسأل: لم أعهد منك مثل هذه الكلمات! فما الذي جرى؟
قلت له: لا تؤاخذني بما أخطأت ولا ترهقني من أمري عسراً، إنما وقع كلامك علي مثل الصاعقة فانطلق لساني دون وعي مني. فقال: لكني أصر على ما قلت تجاه هذا الطالب! فقلت: يا صاحبي! هل في ثنائي على إجاباته الصحيحة شهادة زور؟ وهل رأيتني أعطيته شهادة نجاح وأنا أمدحه فيما أحسن؟ وهل من الحكمة أن أقول له وقد أخذته النشوة وهو يحسن الإجابة: إنك طالب كسول، وكل عملك مردود، وما أرى مصيرك إلا إلى جهنم وبئس المصير؟! أم ترى من الحكمة أن أمدح صنيعه الحسن، فلعله ينتبه إلى تقصيره في غيره، ويحس بضرورة تعديل مساره، لينال حلاوة إحسان العمل؟
فبردت أعصاب زميلي، وقال: معك حق، وأسأل الله أن يرزقني وإياك الحكمة وحسن الخلق.
ذكّرتني هذه الحادثة بصديق كان يعمل مستشاراً عند أحد رجال الأعمال. وكان رجل الأعمال ذاك قد خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً. ومن منا لم يخلط؟. وكان الناس ينصحون صديقي بترك العمل معه خوفاً من أن يدخله مال حرام! ولم يكن صديقي يلتفت إلى أقوالهم، فهو يحصل على راتبه لقاء عمله.
قال مرة لمن نصحه بترك العمل: إن أعمال البر التي يقوم بها رجل الأعمال هي نتيجة لنصائحي ومشورتي. فهل تريدني أن أترك ليأخذ مكاني شخص من البطانة السيئة التي تدله على الأعمال التي قد تخالف الشرع، وتزين له الأرباح التي يجنيها من تلك الأعمال؟
وأضاف: إنه يعرف أنني لا أبتغي من عملي إلا مصلحته الأخروية، ويعرف أني لا يدخل جيبي إلا راتبي، ويعرف ماذا يدخل جيوب البطانة الأخرى من أموال عن طريق الغش والخداع والتدليس، لكنه ينظر في النهاية إلى الدخل الكبير الذي يأتيه من وجودهم معه. وللأمانة فهو يكنّ لي احتراماً خاصاً، بينما لا يحترم أولئك إلا بقدر ما يستفيد منهم! ومن ناحيتي فلا أمدح إلا أعماله الصالحة، وأتحين الفرص لأنبهه إلى المخالفات الشرعية التي تحصل في أعماله الأخرى، والتي لا يأخذ فيها رأيي أصلاً.
كلية الهندسة، جامعة الملك عبد العزيز