لبنى محمود ياسين

في يوم ما..يصادف تاريخ ما..منذ زمن بعيد بعيد..ربما منذ خلقت اول مرة على هذه الارض عندما كانت السماء زرقاء ..يتعشقها اللون الذهبي..وتغشاها سحابات صيفية حالمة..تشبه لوحة لرسام عاشق ضاعت الوانه..في ذلك اليوم الخالد من تاريخ حياتي مررت باهم لحظة من لحظاته على الاطلاق ..اذ منحت شرف الصعود الى سماء الاحلام و التجول فيها بحرية باحثة عن حلمي الذي طالما تمنيت ايجاده و الامساك به لاحتفظ به مدى الحياة ..ولكن حياة من؟؟ لست ادري..فقد أُعطيتُ مهلة كان علي خلالها ايجاده و التقاطه و التشبث به بقوة خلال زمن محدود ..لكي يكون لي حقاً .
كان صوتاً خفياً ..هامساً..دافئاً ..يملي علي شروط اللعبة ..ويعلمني ماذا علي أن افعل.
ولدهشتي ..وجدت نفسي أطير..وكأنني سرقت أجنحة ملاك ما..وارتفع مخترقة السحب البيضاء ..و الفضاء الصامت ..إلى أن وصلت إلى تلك السماء ..التي أذهلتني بغرابة الألوان و الأشكال التي خلقت بها أحلام البشر ..كان المنظر يثير دهشتي..فأحملق بكل حلم بشراهة جائع.

فجأة لمحت حلمي يقف في زاوية بعيدة..متخذاً ذلك الركن الهادئ المنزوي مسكناً له, كان وردياً دافئاً خجولاً ..ليس ككل أحلام البشر ..لم يكن يشبه شيئاً مما رأيته فيما مضى..مشيت نحوه بضع خطوات..لكنني ما لبثت أن توقفت أمام حلم كبير اعترضني بألوانه الصارخة الصاخبة و أجنحته النارية الملتهبة التي كانت أشبه ما تكون بأجنحة جني هارب من أعماق الجحيم..حاولت أن امسك به فأفلت مني ..فركضت خلفه بفضول ممنية النفس باكتشاف غموضه..و عدت أحاول استكشاف هذا المكان الساحر العجيب..كنت أريد أن التقط كل الغرائب ..كل الأحلام ..كنت أريد أن أرى كل شئ ..أن أتبحر في تجاويف كل ما هو أمامي.

و في غمرة هذا نسيت حلمي الوردي المتواضع الخجول, الذي لا يشبه شئ و الذي لم يكن ليثيرني ببساطته ..مقارنة بكل العجائب التي أراها من حولي ..حتى أنني نسيت كلمات الصوت الدافئ الهامس عن المهلة التي املكها ونسيت معها المهلة و نسيت الزمن ..بل نسيت حتى نفسي..كانت المهلة تتناقص باستمرار ..كما هي أعمارنا ..كما هي آمالنا و طموحاتنا .

توغلت في أرجاء تلك السماء التي اعتقدت مخطئة انه لم يرها بشر قبلي ..توغلت في محاولة مستميتة لاكتشاف الحقائق ..وكشف الستار عن المجهول ..كنت أريد أن اعرف كل شئ ..أن امسك بكل شئ..وفي غمرة التوغل في سماوات ملونة ..يغشاها سحاب كثيف ملون بأضوائها الخافتة التي تصدر من كل الاتجاهات مركزة علي ..و كأنني بطلة لمسرحية ما ...و في غمرة تحديقي بأحلام مبعثرة ..بعضها واقعي قابل للتحقيق ..وأكثرها مستحيل..وفي غمرة فضولي الذي لا يشبع..ارتفع لهاثي وتسمرت قدميّ في مكانها و أحسست بالعطش و البرد . أحسست أيضا بالوحدة و الخوف ..عندها تذكرت الصوت الخفي و المهلة التي اعطانيها فنظرت إلى ساعتي ..هالني أن أرى الزمن قد مر و لم يبقى سوى دقائق لمهلتي التي تكاد تنقضي..ولم أفعل شيئاً..أي شئ بعد..سوى التحديق في أحلام الغير

..ومحـاولة إمساكها بدون جـدوى. .

حاولت أن أجد الطريق الذي أتيت منه ..ومررت به..حاولت جاهدة أن أتذكر ..ذلك الركن الهادئ الذي يقبع فيه حلمي الوردي البسيط..حاولت أن ارسم في ذاكرتي خارطة لهذا المكان اللا معقول ..لكن الذاكرة خانتني ..وباءت محاولاتي بالفشل .....جريت في كل الاتجاهات كمن فقد عقله بحثاً عن حلمي ..دون جدوى....ناديته بكل أحاسيسي عله يرد ..لكنه لم يفعل ..بل تجاهلني و اهملني تماماً كما كنت قد فعلت من قبل ..عانقت بنظري جميع الأحلام علّي أجد تلك النظرة الخجلى التي في عيون حلمي..لكنني ما وجدت إلا السراب..صرخت مجدداً ..لم اسمع سوى صدى صراخي المجنون ..الدقائق بدأت تضمحل و تتلاشى ولحظاتي باتت معدودة في هذا المكان...و أنا أقاتل جاهدة في محاولة فاشلة للوصول إلى حلمي ...لكن ذلك بدا في لحظة ما ضرب من ضروب المستحيل ...وفجأة ...وبين غمضة عين و ارتدادها وجدت نفسي في بيتي ..فتحت كفي ..فإذا بها بعض ألوان من هذا الحلم ..و بعض الأضغاث من ذا ك …كلها لم تكن تعنيني ..نظرت في وجهي ..فإذا بي كبرت..ولم أعد أنا ..كل ما فيّ تغير ..ملامحي...تفكيري..أحاسيسي..أعماقي..فقدت حلمي..وفقدت معه كل سبب للحياة حولتُّ بحماقتي و بكل بساطة..تلك اللحظة التي كانت من الممكن أن تغير مجرى حياتي و تجعلني أمسك بزمام السعادة و النجاح … إلى لحظة فقدت فيها أي شكل من أشكال الحياة عندئذ فقط فهمت تماماً ما معنى أن يتلاشى حلم الإنسان و ينسل من بين أنامله ضائعاً من بين يديه. و منذ تلك اللحظة وأنا أصارع الظلام في قلبي و الموت الذي يغزوني كل يوم..وأحارب بكل ما أوتيت من قوة لأجل البقاء ..البقاء فقط..وأنا التي كدت أمسك حلمي بيدي ..فأحقـق كل ما أرجوه .

و منذ ذلك الوقت ..وأنا أتأمل في وجوه من حولي …وكلما رأيت تلك النظرة الشاحبة الضئيلة..و الخطوات المتثاقلة لأشخاص يبدو عليهم اليأس واضحاً ..عرفت في قرارة نفسي أن شرف الصعود لتلك السماء قد مُنح لهم أيضاً ..إلا أنهم و كما فعلت أنا ..لم يقنعوا ببساطة أحلامهم و هدوء ألوانها ..تراكضوا وراء أحلام غيرهم..أغراهم صخب الألوان وضجيج الظهور ..من قال أن الأحلام تقاس بكبرها أو بصغرها .. ببساطتها أو بتعقيدها .. أليس لكل واحد منا خصوصيته ..و لو حتى بالحلم ....لماذا لم أفكر بكل هذا حين جريت كالمجنونة وراء الأجنحة النارية لحلم شخص آخر و قد كان حلمي بدفئه و هدوئه و لونه الوردي الخجول ..ينظر إلي منتظراً مني انتشاله..و هو بين يدي و رهن إشارتي ..لكنني لم أفعل.

كيف فعلت هذا بحلمي ... بل بنفسي!!

و منذ ذلك اليوم ...وحتى هذه اللحظة كلما استيقظت صباحاً ..نظرت في مرآتي ..لأرى وجهاً شاحباً ..وعينين حزينتين ..وقلباً مسجوناً في غياهب اليأس ..و اسأل صاحبتهم..هل يعقل هذا؟؟؟؟؟؟

 

موقع الكاتبة لبنى محمود ياسين

JoomShaper