م. عزام حدبا
الحيران
تسوءني هذه الضجة الكبيرة في موضوع النقاب حيث وقع الاسلاميون فيه بين مطرقة الافراط وسندان التفريط. فلا يجوز تشديد النكير على من لا ترتدي النقاب ووصفها بالمنحلة والمنحطة (نقل القرضاوي في فقه الاولويات ان بعضهم وصل في تشدده الى الادعاء ان من تكشف وجهها كمن تكشف فرجها). وفي الوقت نفسه لا يجوز تشديد النكير على خلع النقاب لمن ترتديه بدعوى انه عادة لا عبادة. فالقول الذي نقول به ان فرضية النقاب مسألة خلافية ولكن سنيته فيها اجماع (اللهم الا ان وجدت ضرورة لكشف الوجه فحينها يصبح الستر محرما او مكروها بحسب الحالة.)
ويسوءني هذا الجدل لا لأنه يقسم الامة على موضوع لا يستحق هذه الفرقة فحسب ولكن لانه دليل فاضح على اهتمام المسلمين بالشكل اكثر من المضمون. فقد اصبح تقييم اخلاق المراة او المجتمع مرتبطا بهذا الامر – اعني به شكل ارتداء الحجاب – دون النظر الى مضمون الحجاب نفسه او الهدف منه. اسئلة بسيطة:
- في لبنان اصبح الحجاب عند طائفة كبيرة من البنات موضة.. فهن يغطين شعر الراس ويلبسن الضيق والشفاف.. ويتسامرن مع الشباب بنفس طريقة البنات السافرات.. فاي حجاب هذا؟ وهل ينطبق عليه  وصف الحجاب اصلا؟؟
- وعند طائفة اخرى من البنات واكثرهن من بنات القرى.. الحجاب هو مجرد تقاليد .. فالفتاة ترتدي الحجاب دون ان تعرف أي شيء عن امور دينها.. وكم شاهدت محجبات من هذه النوعية لا يبالين بالصلاة ولا احد يلاحقهن عليها ولكن الويل لها من ابيها لو بدت شعرة منها ولو بدون قصد..
- اذا دخلت الى الفايس بوك تجد عددا كبيرا من البنات المحجبات يتشاركن صورهن واخبارهن الخاصة مع كل الزوار ولا تتعجب ان رأيت واحدة منهن تضع من ضمن افضل الافلام التي شاهدتها افلام اجنبية بعناوين اباحية او ان تضع نفسها هاوية للامور التالية وبهذا التتابع: محمد رسول الله- براد بيت- عمرو خالد- هيفا وهبي-
- قد يقول قائل ان هذه ظاهرة خاصة بلبنان فاقول بل هي ظاهرة عابرة للقارات.. ففي دول الجزيرة العربية التي من المفترض ان تكون اكثر تدينا كونها مهد الرسالة الاسلامية.. ترتدي كل النساء عباءات سوداء وفي بعض البلاد النقاب ايضا.. ولكن كثيرا منهن بمجرد الخروج الى دول اوروبية يخلعن الحجاب الذي اصبح بمثابة تقليد فقط عندهم.. لا تقل لي ايضا انك لم تنتبه الى ظاهرة خصلة الشعر التي تقفز من حجاب بعض المذيعات الخليجيات..
وهنا اسأل ماذا ننتفع ان اجبرنا المراة على الحجاب ولم نعلمها ماهيته والهدف منه وكيف يصونها ويحميها؟ ماذا ننتفع ان اصبح الحجاب مجرد تقاليد يظن الاهل فيها انهم ادوا واجباتهم نحو ابنتهم .. ان رب العالمين يريد منا ان نكون مؤمنين حقا قبل كل شيء ويرضى عنا اكثر حينما يصدق الظاهر الباطن وحينما يتجلى اثر الايمان في القلب على الجسد.. لكنه يغضب منا اشد الغضب اذا اكتفينا بتطبيق بعض المظاهر الاسلامية كنوع من العادات ففي هذا الامر -ولو لم نكن نقصد ذلك- شبهة السخرية والاستهزاء من احكام الله.. ويدل على هذا الفهم قوله تعالى: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ...
وقوله تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ....
والسؤال: حينما يصبح الحجاب هكذا فهل يتبقى له من معنى؟
قبل ان نجيب على هذا السؤال علينا ان نشرح امرين: اولا رسالة الحجاب والهدف منه.. وثانيا كيفية الاستثارة عند الشباب. وهما طبعا مرتبطين ببعض..
لعل اسهل ما يعينني على شرح رسالة الحجاب هي قصة تلك السكرتيرة التي اخبرتني عن تجربتها مع الحجاب فقد قالت انها قبل ان تلبس الحجاب كان الشباب يتحرشون بها وقد يتعمدون لمسها اثناء اخذ بعض الاوراق فلما لبست الحجاب شعرت براحة اكثر كون هذه الممارسات قد توقفت فقد فهم الشباب ان هذه الفتاة تريد وضع حدود بينها وبين الرجال. اذن الحجاب قبل ان يكون حجابا لمفاتن المراة هو رسالة من المراة للرجل مفادها "انا امراة محترمة" وهذا في حد ذاته اكبر رادع للشاب من التحرش بها.. فمن جهة هي لا تتسبب باستثارته لانها اوصلت له رسالة مباشرة انها ليست فتاة سهلة المنال ومن جهة اخرى هناك حماية لها فهو لن يقدم على التحرش بها حتى لو اثارته  عرضا لانه يعرف انها لن ترضى بذلك..
وبعد ان شرحنا رسالة الحجاب كما نراها دعونا نناقش من جديد في مسألة الحجاب والنقاب.. ان عمدة ادلة من يقول بأن النقاب فرض هو ان وجه المراة اجمل ما فيها لذا عليها ستره.. وهذا صحيح في شقه الاول.. لكن من قال ان الحكمة من الحجاب هي حجب الجمال؟؟ الحكمة الاساسية كما تدل مقاصد الشريعة هي حجب الفتنة.. والا فإن كان حجب الجمال هو الحكمة لوجب ان نغطي الورود والزهور ووجوه الرجال الفاتنين ايضا.. لكن هنا يطرح سؤال آخر: ماذا لو كان جمال المراة يفتن الرجل وهو امر قد يحصل فعلا؟؟ والجواب انه يجب عليه ان يغض بصره كما يدل النص " قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ - وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا"
 وفي الحقيقة غض البصر هو من اقوى الادلة على إباحة كشف الوجه فلو كانت كل وجوه النساء مستترة فعلام يغض الرجل بصره؟ لكن ماذا لو ظن احدهم عندها ان غض البصر مفروض فقط على الرجال الذين يفتنون بوجه المرأة ؟ نقول ان هذا الفهم مغلوط لأن غض البصر مفروض على الكل مثل موضوع المصافحة حيث لا تقيد الاحكام بالعلة الخفية مثل الشهوة او الاثارة بل بالعلة الظاهرة مثل النظر واللمس.. وهذا مبحث طويل في اصول الفقه لن ندخل فيه لانه يتخطى نطاق هذا المقال.
طبعا الفقرة السابقة ليس هدفها ترجيح رأي على آخر فالعلماء من الطرفين افاضوا في ذكر ادلتهم وليس الهدف انتقاد النقاب كذلك بل على العكس فهو امر حسن ومندوب لمن اختار ذلك لانه زيادة في التقوى. لكن المقصد هو التشديد ان الحكمة الاساسية من الحجاب هي منع الفتنة .. ومنع الفتنة عن الطرفين.. حيث ان في الحجاب حماية للمراة من تحرش الرجل وحماية للرجل من اغراء المرأة. وهنا السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه : هل يبقى للحجاب قيمة اذا فقد معناه؟ يقولون ان الرجل يفتن بعينيه أي تغريه مفاتن المرأة والمرأة تفتن بأذنها يعني يغريها الكلام المعسول.. ولكن قبل العين والاذن هناك العقل.. فالعقل هو الأساس وهو الذي يفسر هذه الظواهر ويترجمها فلو كان مجرد النظر الى المفاتن يفتن الرجل فلم لا يثار الرجل من مفاتن محارمه او زوجته كما تثيره مفاتن المراة الاجنبية؟؟ وان كان كلام الرجل هو الاساس في فتنة المراة فلم لا تثار اذا تيقنت انه يكذب عليها؟؟ ومقتضى هذا الكلام مهم وخطير.. اذ هو يشير ان الحجاب والنقاب لا يحمل أي قيمة فعلية إن كانت ترتديه امرأة لعوب.. بل على العكس ممكن يحمل ابعادا اكثر اثارة.. فالممنوع مرغوب واللحم حين يعرض بكثرة يرخص.. ان خيال الرجل واسع وهو قادر على تعرية أي امراة باشعة اكس ان استشعر منها انها لعوب حتى لو لبست عباءة او نقابا.. ومن هنا حض القران الكريم المراة اضافة الى الحجاب ان تحرص الا ترسل اية اشارة اغراء للرجل ومن هنا قوله تعالى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا - وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ
وانا متأسف اشد الاسف حينما ينشغل علماؤنا ومفكرونا ومنتدياتنا وشعوبنا بالنقاش حول تفاصيل الحجاب الشكلية ولا يهتمون ادنى اهتمام بمحاول حث الفتيات على تطبيق الفضائل التي تجعل للحجاب معنى وحث الرجال على احترام المرأة وتقديرها.. ان الاخلاق من الدين هي بمنزلة الرصيد الذهبي الذي يغطي العملة.. فبدون هذا الرصيد تصبح هذه العملة بلا قيمة شرائية بل مجرد ارقام.. وهذا للاسف ما اصبح عليه حال الحجاب  والنقاب اليوم في كثير من المجتمعات ولا اعمم.. فالشاب اليوم لم يعد يستشعر ان هذه الصبية المحجبة او المنقبة توجه له –بحجابها هذا- رسالة بانها امرأة محصنة شريفة مهذبة تقية لا تسمح ان يتحرش بها احد.. واصبح يحتاج- اضافة الى الحجاب- لعوامل اخرى تؤكد له جدية هذه الفتاة وتهذيبها.. لذا بدأ الحجاب يفقد معناه للاسف...
وبما ان بعض الناس قد جبلوا دوما على سوء الفهم بل سوء الظن وقد يفسرون رسالتي على انها دعوة لنزع الحجاب او للتهوين من شأن النقاب يهمني ان ارد عليهم مسبقا بهذا المثل البسيط: هل تفهم من الداعية الذي ينتقد تناقض الرجل الذي يصوم ولا يصلي انه يدعوه الى عدم الصيام كي يكون منسجما مع نفسه ام تفهم انه يدعوه للصلاة اضافة الى صيامه؟؟؟
والله من وراء القصد

JoomShaper