زوجي وأنا شكلنا أسرة سعيدة أو هكذا ظننا. في أواخر العشرينات من أعمارنا، زملاء صف جامعي تخرجنا توظفنا تزوجنا كوّنا أسرة، منفتحة متحررة بكل المعايير، هجرنا بعد التخرج الميول اليسارية، قدرنا أن الأمر مكلف أو أنه لا يستحق، وأنه ما حدا أحسن من حدا، وأنه من الأفضل أن نلتف حول الذات. كانت حياتنا هادئة أنجبنا حيث رغبة زوجي القادم من ريف الشمال الشرقي أسرة متوسطة أربعة من البنين والبنات أو ثلاثة بنين وابنة واحدة.
لم يكن للدين حضور في حياتنا، سجادة الصلاة الرمز الديني الوحيد اشتراها زوجي تلبية لرغبة والديه اللذين زارانا على مدى عشرين عاما ثلاث أو أربع مرات.
بما أنني أكتب في رمضان فللحق أقول إنه الرمضان الثالث في حياتي الذي يحمل معنى إضافيا على باقي الشهور. أما كيف حصل هذا ؟ وكيف وضعت شالا على رأسي؟ وكيف بدأت أقرأ الكتب الدينية؟ وكيف أصبح في بيتي عدد غير قليل من المصاحف، وكيف أصبح لي ورد قرآني يومي؟ وكيف أصبحت لا أتضايق من متابعة أبنائي لمحاضرات عمرو خالد وكيف أصبحت أصغي وزوجي لدروس الشيخ البوطي والشيخ راتب النابلسي فذلكم هو قصة هذا المقال..
أمتلك وزوجي شقة مريحة في دمشق الطيبة، دخلنا يغطينا، تعاونا على شراء الشقة وتأثيثها وفرشها، امتلكنا سيارتنا الخاصة في وقت مبكر، فرحنا بأولادنا، جعلناهم يستمتعون بطفولتهم، تركت لزوجي اختيار أسماء الأبناء وكان اسم الكبير محمد على اسم أبيه، والثاني علي على اسم أخ له استشهد في حرب الثالثة والسبعين، والثالث مروان الاسم الذي أصر زوجي على أنه الاسم الذي حلم به في فتوته بدل اسمه الحالي( حسين)، الذي هو اسم جده، شيء ما جعله يقتنع مؤخرا أن اسمه كان جميلا ولكنه ظل متعلقا بمروان، رنا هو الاسم الذي اخترته لابنتي ولعله علق بذهني من إحدى قراءات فترة المراهقة.
كانت تربيتنا لأولادنا منفتحة عصرية متحررة، على فهم التحرر بمعانيه الثقافية والاجتماعية، ومع هذه التربية كان مصطلح الحرام غائبا عن أسرتنا إلا عندما نريد أن نظهر الإشفاق على حالة إنسانية من فقر أو مرض أو مصيبة، ومصطلح العيب لم يكن في صورته الذي جثم على صدري يوم كانت والدتي تضايقني به حتى عند اختيار لون الثياب.
لم يكن الأولاد محتاجين لشيء، مصروفهم اليومي جيد، ملابسهم ومظهرهم واحتياجاتهم مؤمنة، سيرهم الدراسي جميعا مطمئن، لا معاناة في الحاضر ولا داعي للقلق على المستقبل، ومع ذلك فقد سار المركب إلى حيث لم نتصور، وطبعا لم نتصور أن نفرض على أولادنا أي موقف ذي معنى من هذه الحياة، لأننا، أنا وأبوهما، لم نكن نمتلكه ولكن الذي حدث أنهم فرضوه علينا. بل أقنعونا ببراعة المربي الحكيم به.
ابنتي الثانية في ترتيب إخوانها،كانت قد كبرت واجتازت إلى المرحلة الثانوية أخوها محمد يسبقها بصفين كان قد وصل إلى السنة الأولى في الجامعة.
بين عوالم متعددة؛ المدرسة أو الجامعة و شبكة الأنترنت والمحطات الفضائية بدأت أشعر أن مسحة من الحزن أو الهم بدأت تعلو وجوه محمد ورنا، أصبح بين الأخ وأخته حديث خاص امتد ليشمل بقية الأولاد بعيدا عني. شعرت أنهم يخفون عني أو يخافون مني أو من أبيهم الذي ظل صوته الاجتماعي مرتفعا في البيت.
محمد ينسل من البيت في أوقات محددة ويعود، رنا تغلق باب غرفتها، في وسط النهار، وكذلك يفعل علي أحيانا، ثم يفجؤني مروان يوما: أين سجادة الصلاة التي كانت لجدي...؟
أتحرك فيما حولي لأكتشف عالما آخر يعيشه الأولاد فيما بينهم، يحفظون القرآن يلتزمون بالصلوات يتابعون على الأنترنت مواقع دينية كثيرة ويشاركون فيها.
لم تكن صدمتي الأكبر يوم سألت رنا وبحضور أبيها: هل نحن مسلمون؟ طوال أكثر من عشرين سنة هي عمر زواجنا لم يخطر ببالنا أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال، لم يكن الأمر يعني لنا شيئا، نحن الآن في أواسط الأربعينيات، تأكدنا منذ زمن أن الماركسية كانت خدعة كبيرة حتى على المستوى العقائدي، من قال إننا كنا ماركسيين؟! سؤال رنا أربكني بعض الشيء ولكنه لم يربك زوجي، الذي أجاب بتلقائية وطلاقة وثقة: مسلمون ونص. سكت الأولاد وكان لسكوتهم معاني كثيرة.
كانت الصدمة الكبرى بالنسبة لي يوم جاءتني رنا تطالبني أن أساعدها على اختيار لون الحجاب، وطريقة استعماله. ترددت طلبت منها مهلة للتفكير، في الليل رجعت إلى أبيها أخبرته الخبر قلت له: قالت إنها اتخذت قرارها، وإنها تريد مني فقط أن أساعدها، توقعت أن يثور وكنت أعد نفسي لاحتواء ثورته، ثم لنصل إلى تدبير مشترك، وجدته يبكي فرحا، ويقول كان جدي الحاج حسين إماما للمسجد في قريتنا...
ومن يومها أخذ الأولاد بأيدينا، وأعادونا معهم إلى حياة ذات معنى، هذا رمضاني الثالث الذي أصوم وزوجي وأولادي أشعر أن كل ما عشناه من قبل كان مجرد غثاء، الأولاد جميعا يؤكدون أن الحياة مع الإسلام تعطيهم الثقة والأمل والجدوى..
أعود لأتساءل هل كنا أبوين سيئين أو أبوين فاشلين قصتي هذه هي قصة العشرات من زميلاتي اللواتي تجمعني بهن الصدف والشال على رؤوسهن الروايات مختلفة والجوهر واحد
من مها الصالحي- دمشق