"عمل المرأة" في مقدمة المسائل التي تطاولت فترة الجدل حولها عقودا عديدة، وتراءى لنا في مجتمعاتنا الإسلامية أنّها مسألة حُسم أمرها في الغرب، ولم يحسم لدينا، وأنّه لا بد من إعادة النظر في طريقة تفكيرنا وفي أسلوب فهمنا لإسلامنا، لا سيما من حيث موقع المرأة في المجتمع، كي تجد هذه المسألة حلا لها!.. وفي هذا الإطار كان معظم الأسئلة المطروحة تحت عنوان "عمل المرأة" يدور حول محاور باتت "تقليدية" أو حملت صياغة يخيل إلينا أنها بدهية لا تحتاج إلى إعادة النظر فيها أولا، قبل محاولة
الإجابة عليها أو البحث عن الصواب بصددها، ومن تلك المحاور:
1- هل يحق للمرأة أن تعمل؟..
2- هل تتحقق المساواة بين المرأة والرجل دون أن تمارس المرأة حق العمل؟..
3- هل الأولوية في حياة المرأة للعمل خارج المنزل أم داخله؟..
4- كيف نوجد الظروف المناسبة لتجمع المرأة بين أعباء العمل وأعباء الأسرة؟..
5- ألا ينبغي أن يصبح عمل الرجل في المنزل أمرا اعتياديا ليتحقق "هدف" عمل المرأة خارج المنزل؟..
أين عمل المرأة من منظومة تصوراتنا؟
لو تأمّلنا قليلا أو كثيرا في هذه الأسئلة وأمثالها، لوجدناها أو وجدنا معظمها أسئلة مترجمة حرفيا عما شهدته مسألة عمل المرأة في الغرب، أي في إطار الوعي المعرفي والتطور الاقتصادي والقيم والقواعد السائدة في المجتمع الغربي. ونتساءل مع المتسائلين: هل يمكن تعليل ذلك بأنّ هذه المسألة هي من القضايا الإنسانية المشتركة؟..
قد لا نلاحظ للوهلة الأولى أنّ هذا السؤال قائم على شطرين، فكون المسألة من القضايا الموجودة أو المشتركة في مختلف المجتمعات البشرية أمر واضح للعيان دون نقاش، أما الشطر الذي يريد الاعتماد على هذه الحقيقة لتعليل "أسلوب" التعامل مع هذه المسألة، تعاملا متطابقا متماثلا ما بين مختلف المجتمعات البشرية، فأمر لا يمكن التسليم به تلقائيا.
مسألة عمل المرأة (وكذلك عمل الرجل) ليست أمرا قائما بذاته، بل تتصل بمسائل أخرى، تقوم على منطلقات معرفية وتصورات ومعتقدات، تختلف قطعا ما بين اليابان وإفريقية، أو أوروبا واليمن، بدءا بالعلاقة بين الجنسين، انتهاء بالظروف الاقتصادية والعادات المعيشية.
لا بد إذن قبل الخوض في مسألة "عمل المرأة" كما يجري يوميا عبر كتابات فكرية، ومواقف اجتماعية، واستطلاعات إعلامية وما شابه ذلك.. لا بد من تجريد التعامل معها من موروث عشرات السنين الماضية في مجتمعاتنا، ذات الأرضية المعرفية الحضارية الإسلامية، وقد قام ذلك الموروث حديثا وترسّخ على تقليد الغرب في ميادين عديدة، ولهذا تأتي الأسئلة المطروحة في هذه المسألة، مترجمة عما هو مطروح في الغرب.
ولكن ليس صحيحا ما يقال عن أنّ هذا من صنع التغريب وأهله فحسب، فالرؤى المطروحة عبر عدة عقود عن هذه المسألة، تنطلق جميعا من هذه الصياغات للأسئلة المعنية، سواء كان صاحب الرؤية علمانيا أو إسلاميا وسواء كتب من منطلق بحث علمي أو بأسلوب الإثارة الإعلامية. لهذا نجد كثيرا من كتّابنا يجيب سلبا أو إيجابا على السؤال (هل يحق للمرأة أن تعمل؟..) دون أن يميز بين مفهوم الحق والواجب، واختلافهما في وعي مجتمعاتنا المعرفي اختلافا جذريا عما هما عليه في وعي المجتمعات الغربية.
إن لكلمة حق في الإسلام موضعا متميزا كما في الآية القرآنية (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) أو في التوجيه النبوي (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه). الخطاب ليس موجها إلى "صاحب الحق"، لأن تحصيله في المنظور الإسلامي لا يقوم على معركة يخوضها وهو في موقع الضعف، فالمعركة غير متكافئة سلفا، ولن يستطيع تحصيله إذن، بل هو -أي تحصيل الحق- قائم دوما على تثبيت "واجب جماعي" فالمجتمع (وبالتالي سلطة الدولة) يحمل واجب وصول الحق إلى صاحبه وإن كان في موقع الضعف.
رغم ذلك لا نزال في كثير من البلدان الإسلامية نطرح السؤال عن عمل المرأة في قالب الحديث عن "حق" من حقوقها يحرمها منه مجتمع "ذكوري" أو "فهم خاطئ" للإسلام. والأصل أن "حقوق المرأة" مثل "حقوق الرجل" عنوانها المشترك "حقوق الإنسان"، فما يُنتهك منها لا ينتهك على حساب هذا الطرف أو ذاك، بل على حساب الإنسان، جنس الإنسان، وعلى حساب المجتمع بأكمله، وكل صراع يدور تحت عنوان الذكورة والأنوثة، بات صراعا يخلف أضراره الجسيمة على حساب الذكور والإناث معا.
أعباء مزدوجة
هذا وما يشابهه من أطروحات ذات أصل معرفي غربي، لم يحقق في بلادنا حصيلة مرجوة عبر عشرات السنين الماضية (ولا نبالغ بالقول هذا ما يسري بدرجة معينة في بلاد الغرب نفسها ولا مجال للتفصيل هنا) ولن يحقق ما لم نرجع في مسألة عمل المرأة إلى جذورها، أي إلى حقيقة رؤيتنا المعرفية للعمل أنه واجب على الإنسان الفرد، وبالتالي لا مجال للحديث عن "حرمان من حق"!..
إنما لا يعني ذلك إطلاقا الأخذ بقول من يقول بتحريم عمل المرأة، أو بتعبير آخر: حظر العمل عليها. إنما يعني الحاجة إلى ضبط المصطلحات والمضامين أولا، وعلى من يعارض عمل المرأة (من النساء ومن الرجال على السواء) أن يضع تبعا لذلك الصياغة السليمة لمعارضته، ولسوف تكون مثلا: تقنين إعفاء المرأة من واجب لا يُعفى الرجل منه، وما يقتضيه ذلك على صعيد تأمين دخل الأسرة، أو تكون مثلا آخر: عدم إكراه المرأة على واجب يُفرض على الرجل، وما يقتضيه ذلك من استبعاد أسئلة عقيمة عن سر نجاح النساء أو إخفاقهن في أعمال هدفها طلب الرزق وتأمين الدخل.
إنّ الإعفاء في هذه الحالة هو من قبيل عدم تحميل المرأة عبئا مزدوجا، فمن الواجبات التي تقوم بها ويستحيل تحويلها ليقوم الرجل بها، كل ما يتصل بالحمل والوضع والرضاعة، ومن الواجبات التي تملك المرأة -عموما- القدرة على أدائها على النحو الأمثل ولا يتقنها الرجل -عموما- ما يتصل بالرعاية والتربية الأسروية.
هنا يكمن السؤال الجوهري عن الإخفاق والنجاح، فكل إنسان -ذكرا أو أنثى- لا يعتبر عاجزا او فاشلا إذا أخفق في أداء أعباء مزدوجة!.. أم أننا نزعم ونجزم جادين بنجاح الرجال بالذات في ذلك وإخفاق النساء بالذات!.. إن من ينجح في أداء أكثر من واجب في وقت واحد، يوصف بالمتفوق، وليس هذا مقياسا مقبولا للتعميم على سائر البشر، ولا علاقة لذلك بذكورة وأنوثة.
كأنّ ما يجري في كثير من الدول الغربية حديثا بدأ يرتكز على هذه الصيغة المتعلقة بازدواجية الأعباء، فكثير من التشريعات التقنينية مثل عطلة الأمومة مع ضمان العودة إلى مكان العمل دون خسارة ما، وكذلك الإغراءات المالية، كالعطاءات الاجتماعية للأمومة والأطفال -وهو ما تصل ميزانياته إلى مئات المليارات- يستهدف دفع المرأة الغربية قدر الإمكان إلى الإنجاب والتربية، بعد إدراك مدى صعوبة الجمع بين هذا الواجب الجليل والحاسم من أجل بقاء المجتمع البشري، وبين ما تفرضه مغريات التألق المهني من أعباء.
عندما طُرح عمل المرأة في الغرب في بداية نهضته صناعيا ومع ظهور الحركات النقابية ومطالبها بحقوق العمال، ابتُدع هناك توصيف "العمل" بأنه حق وليس واجبا، لدفع النساء -وكنّ يعانين أشد درجات الظلم على كل صعيد- إلى العمل في المصانع، تلبية لاحتياجات التصنيع المتزايدة، ووسيلة من وسائل ضغوط أصحاب المال والأعمال على العمال ونقاباتهم. ولقد تبدل هذا الوضع في الغرب في هذه الأثناء تبدلا جذريا، ولهذا أصبح المطلوب رسميا وعمليا وعبر الإغراءات المالية أن تترك المرأة العاملة مكان عملها لفترة تطول أو تقصر، من أجل إنجاب الأطفال والحدّ من ظاهرة "الانقراض السكاني" ومن أجل تربيتهم في إطار "أسرة" للحد من العواقب المنتشرة على صعيد الناشئة والشبيبة، لا سيما في ميادين الإدمان المختلفة.
البحث عن أرضية مستقرة متوازنة
ليس المطلوب قطعا النظر إلى مسألة عمل المرأة بمنظور من يميل إلى التحريم تعميما والحظر تقنينا، ولا بمنظور من يريد إخراج الشريعة من واقع الحياة في بلادنا وتجاهل صياغتها تاريخيا لمجتمعاتنا، ولكن المطلوب أن تتلاقى الجهود الفكرية والعملية في المجتمعات الإسلامية (بغالبية سكانها عقيدة وبجميع سكانها حضارة ووعيا معرفيا تاريخيا ومعاصرا) لطرح تصورات عن مسألة عمل المرأة وما يشابهها من مسائل، تنبثق عن "الذات المعرفية" و"الواقع القائم" معا وتتضمن فيما تتضمن مثلا:
1- هذه المسائل هي من قضايا الإنسان، جنس الإنسان.. وليست قضايا صراع بين إنسان وإنسان، بين ذكور وإناث، بين نصف المجتمع الواحد ونصفه الآخر.
2- قيمة الإنسان، وكرامته، والمساواة بين البشر، والعدالة، وجميع ما يتصل بذلك من قيم هي الوعاء الذي يجب أن تنطلق منه المعايير والضوابط في مختلف القضايا ذات العلاقة بجنس الإنسان، ذكرا أو أنثى.
3- لا يصح التمييز بين عمل وعمل بمعيار القيم، فالإمارة، والرضاعة، واحتطاب الحطب، وتربية الأطفال، والحدادة، والتعليم، ورعي الغنم، والطبابة، والإدارة، والصحافة.. لكل عمل من هذه الأعمال قيمته الذاتية، وما يستحق صاحبه من تكريم معنوي، ومن أجر مادي، في الدنيا، والآخرة. ومن أسوأ ما نُشر (نشرا) في المجتمعات المعاصرة امتهان عمل ربات البيوت، وأمهات جيل المستقبل، حتى انتشر عزوف النساء عنه، فتفككت الأسرة وتحلل المجتمع.
4- إن كل ظلم تتعرّض له المرأة في المجتمعات الإسلامية -وما أكثر المظالم حاليا- يجب أن يزول، ولا علاقة له بحرمانها من عمل خارج البيت (وهو مظلمة بحد ذاته) بل هو الظلم الشامل الناشئ عن خلل في التصورات، على طريق إباحيةٍ امتهنتها روحا وجسدا، وعلى طريق تزّمت امتهنها إنسانا، في إطار الخلل الأكبر لامتهان جنس الإنسان وتحول السلاطين إلى متسلطين. هذا الخلل هو ما يجب إصلاحه، على كل صعيد، بغض النظر عما يتحقق أو لا يتحقق بشأن إزالة مظلمة محددة، مثل حرمان المرأة من العمل خارج البيت، وهي من الفروع التي تجد حلا لها عند معالجة الخلل الجذري القائم، دون التقليل من شأن استهدافها على حدة بجهود هادفة قويمة.
5- إن ما ينبغي تشريعه من ضوابط لعمل المرأة خارج البيت، هو جزء مما يجب تشريعه من ضوابط للعمل عموما، بما يشمل الرجال والنساء، دون أن يكون فيه ما يراعي فئة دون فئة، أو يضع المسؤولية على جهة دون جهة، فعلى سبيل المثال إذا توافرت الشروط الشرعية والظروف المناسبة ليكون الاختلاط في مكان العمل مباحا كانت إباحته سارية المفعول على الجميع، وإن لم تتوافر واعتبر محظورا أو مرفوضا، وجب سريان مفعول ذلك على الجميع، ذكورا وإناثا.
6- ويجدر التنويه بالعلاقة الوثيقة ما بين "واجب العمل" و"مسؤولية الإنفاق" وارتباط هذا وذاك بالأعمال المنزلية وقيمتها المعنوية والمادية، بما في ذلك ما سبق التنويه به من أعمال جليلة لا يستطيع الرجل أداءها، أو لا يحسن أداءها بقدر ما تحسنه المرأة، وهذا ممّا ينبغي جعله في جوهر التشريعات التقنينية على صعيد العمل والأجور والمرتبات والعطاءات الاجتماعية.
إن الحديث عن عجز في أداء عمل من الأعمال أو واجب من الواجبات لا يمكن ربط تقويمه بالذكورة والأنوثة، وكم من الرجال عاجز عن أداء مهن ما كالطبابة أو الإدارة أو الكتابة، وكم من الرجال أدّى سوء تصرفه إلى خسارة كبيرة في مؤسسة أو وزارة أو شركة، ولكن يمكن أن يبدع ذلك الرجل "الفاشل" نفسه ويتفوق في ميدان آخر، وجميع ذلك لا يقبل التعميم على جنس الرجال، وشبيه ذلك إذ وقع للمرأة لا يمكن تعميمه على جنس النساء، وأخطر من ذلك أن يتسرب ضرب من التفكير العنصري في تقويم عمل المرأة أو عمل الرجل عندما يقول بعضهم بعجز النساء أو بعجز الرجال من العرب تخصيصا عن هذا العمل أو ذاك.
لا ريب أن انتشار الحديث عن عجز المرأة في المجتمعات الإسلامية عن الجمع بين واجبات أسروية وواجبات العمل خارج البيت، لا ينطلق من تصورات قويمة ولا واقع قويم، ولهذا نزيد النظرة المتعسفة إلى مسألة عمل المرأة تعسفا، عندما تنتشر مقولات من قبيل إنها عاجزة عن ذلك لمجرد أنها امرأة، أو إنها لم تتمكن من ذلك لأن الدولة مقصرة في تأمين الظروف المناسبة، أو سوى ذلك من التعليلات التي تنطلق من خلل قائم في تصوراتنا، وليس من معطيات موضوعية، إذا نجحنا في إيجادها زال الخلل، ولن نرصد آنذاك عجزا حقيقيا أو مزعوما، ولن نطرح بالتالي السؤال عن أسبابه ونبحث عنها في غير موضعها.
نبيل شبيب
موقع مداد القلم